قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: أنثروبولوجيا الشعر العربي

من الجاهلية إلى أزمة الذائقة الحديثة
مقدمة: نحو وعي أنثروبولوجي بالشعر العربي:
ليس الشعر العربي مجرّد تعبيرٍ لغوي عن انفعالٍ أو تجربةٍ ذاتيّة، بل هو – في عمقه التاريخي والرمزي – وثيقة أنثروبولوجية كبرى تكشف عن البنية الروحية والثقافية للإنسان العربي في رحلته عبر العصور. إنّ قراءة الشعر العربي، من الجاهلية إلى الراهن، هي قراءة في تحوّلات الوعي بالذات والعالم، لأن الشعر كان دائمًا المرآة التي تعكس روح الجماعة، وصيرورة تحوّلها من البداوة إلى التمدّن، ومن الغريزة إلى المعنى.
في زمنٍ تتكاثر فيه القصائد كما تتكاثر الظلال، وتختلط فيه الأصوات حتى يفقد الشعر معناه الجوهري، تبرز الحاجة إلى مساءلة جوهر الشعر العظيم، لا بوصفه مهارة لغوية، بل كفعل وجودي يصدر عن روحٍ سامقة تطلب الارتقاء في مدارج الوعي والكمال. فالشعر العظيم لا يكون عظيمًا إلا إذا وُلد من نفسٍ عظيمة، تعانق الحقيقة الكونية في أعمق مستوياتها، وتسمو على اليومي والعابر نحو الخالد والمطلق.
1. الشعر الجاهلي: الينبوع الأنثروبولوجي للوعي العربي:
لا يمكن الحديث عن الشعر العربي دون العودة إلى الجاهلية، بوصفها المرحلة التي تبلورت فيها الأنسنة الأولى للوجود العربي. فالجاهلية لم تكن، كما يتوهم البعض، ظلمةً ثقافية، بل كانت طوراً من أطوار التمدّن البدئي الذي حمل إرهاصات الوعي بالذات والكون والمصير.
إنها اللحظة التي نطق فيها العربيّ بوجوده عبر الكلمة، فصارت القصيدة عنده بيتاً للكينونة، يجمع فيه بين الشاعرية والبطولة، بين الصحراء والروح.
في شعر امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد، نرى بواكير الوعي الوجودي؛ فالقصيدة ليست وصفاً للطبيعة فحسب، بل هي تجربة للخلود عبر اللغة. يقول زهير:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ
وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ
في هذا البيت تتجلى رؤية أخلاقية وإنسانية متقدمة، تضع الإنسان في مواجهة ضميره ومصيره. فالشاعر الجاهلي كان يحمل في لغته بذور الفلسفة، وإن لم يُسمِّها كذلك.
ولذا، فإن أي مشروع نقدي عربي معاصر، لا يمكن أن يُبنى إلا على فهمٍ عميق لهذه المرحلة؛ إذ هي المفتاح الأنثروبولوجي لفهم الروح العربية، لأن ما جاء بعدها من عصورٍ هو امتدادٌ لما ترسّخ فيها من قيم الجمال والكرم والشرف والبطولة والمعنى.
2. الحاضر كمرآة للغابر: جدلية الماضي والمستقبل
يخطئ من يظن أن الماضي انقضى. فالحاضر، كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري، هو "نتيجة تفاعل مع التراث بقدر ما هو قطيعة معه".
إنّ الروح العربية التي صاغت معلّقاتها تحت خيام الرمل، لا تزال تسكن لغتنا المعاصرة، وتشكل لاوعينا الجمعي في التفكير والتعبير والتأمل.
فحين نقرأ شعر المتنبي، نرى أن روح الجاهلية تسري في طموحه إلى المجد والخلود، وحين نقرأ أدونيس، نلمس محاولة للعودة إلى الأصل، لا لتكراره بل لتفكيكه وإعادة بنائه.
هكذا تصبح كل قصيدة حديثة امتدادًا لأنثروبولوجيا أقدم، تشهد على أنّ الماضي لا يموت بل يتحول إلى رمادٍ تخبئ فيه جمرة الوجود العربي.
3. أزمة الشعر الحديث: غياب الأنثروبولوجيا وحضور الادّعاء
في زمننا الراهن، تتكاثر القصائد كما تتكاثر الصور على الشاشات. كثير من الشعراء يكتبون "نصوصًا" لا تحمل روح الشعر، لأنها منبتّة عن الينبوع الأنثروبولوجي الأول، أي عن التجربة الإنسانية العميقة التي تجعل الكلمة حياةً ثانية.
إن الشعر الذي يُكتب بلا جذور، يتحوّل إلى صناعة لفظية، لا إلى كشفٍ أو وحي. يقول الناقد صلاح فضل إن "الشعر لا يُقاس بحداثة شكله بل بقدرته على استنطاق الموروث وتجاوزه"، وهذا هو جوهر المأزق الشعري اليوم: غياب البعد الأنثروبولوجي الذي يربط النصّ بجذور الوجود العربي.
فمن دون هذا البعد، لا يمكن للشعر أن يكون أكثر من تقليدٍ لغوي أو تجريبٍ شكلي. أما الشعر الحقيقي، كما يرى كمال أبو ديب، فهو "تجلٍّ لروحٍ تبحث عن معنى الكينونة في اللغة". ومن ثمّ، فالأزمة ليست لغوية بل وجودية.
4. نحو مشروع نقدي عربي: استعادة الجذور لبناء المستقبل
السؤال عن وجود مشروع نقدي عربي ليس ترفًا فكريًا، بل هو سؤال في الهوية والمعنى.
لقد حاول مفكرون ونقاد كبار، مثل عبد الله الغذامي في "النقد الثقافي"، وحسن حنفي في "التراث والتجديد"، وطه عبد الرحمن في "العمل الديني وتجديد العقل"، أن يؤسسوا لقراءة نقدية عربية، تنبع من داخل التراث لا من استيراد المناهج الغربية استيرادًا أعمى.
غير أنّ المشروع النقدي العربي لا يزال مشروعاً مؤجلاً، لأنه لم ينجح بعد في تحقيق التوازن بين التأصيل والتحديث، بين الوفاء للتراث والانفتاح على الكوني.
إنّ قيام مشروع نقدي عربي أصيل مشروطٌ بإعادة قراءة الشعر العربي كظاهرة أنثروبولوجية وروحية، لا كمجرد نصّ لغوي؛ لأنّ الشعر هو الوثيقة التي تحفظ هوية الوعي العربي في التاريخ.
خاتمة: الشعر كذاكرة كونية للإنسان العربي
الشعر، في جوهره، هو ذاكرة الوجود العربي في مواجهة الفناء.
من الجاهلية إلى الحداثة، ظلّ الشعر العربي جغرافيا للروح، يحمل في طيّاته رحلة الإنسان العربي في بحثه عن الخلود والمعنى والحرية.
وحين يفقد الشعر هذا البعد الأنثروبولوجي، يصبح مثل شجرةٍ بلا جذور، جميلة في ظاهرها، لكنها ميتة في أعماقها.
لذلك، فإن استعادة الوعي بالشعر كوثيقة أنثروبولوجية هي الخطوة الأولى في تأسيس مشروع نقدي عربي متكامل، مشروع يقرأ الذات في مرايا تاريخها، ويصوغ المستقبل من رماد ماضيها.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين