قراءات نقدية

رزق فرج رزق: رواية "الزئبق" للروائي الليبي فتحي مسعود

جماليات التلقي واستدعاء القارئ في عالم من الغموض والانزياح

من قلب مدينة طبرق الليبية، حيث تلتحم الصخور بالبحر وتتوهج الذاكرة بالحكايات، ينبثق صوت سردي فريد يجمع بين دقة العالم وجموح الأديب. إنه فتحي محمد مسعود (مواليد 1979)، الذي لم يكتفِ بدراسة جغرافيا الأرض في كلية الآداب، بل انطلق ليصنع جغرافيا أدبية متخيلة، تلتقي فيها التضاريس بالأساطير، والواقع بالخيال، ومعلم  يصنع من الفصول الدراسية مساحات للإبداع، ومذيع يحول أثير الراديو منذ 2017 إلى جسور للتواصل، ومحرك لمشاريع طلابية أنتجت مجلات وكتباً مثل "المعالم السياحية في إقليم البطنان"، وراء هذه الوجوه المتعددة، يتراءى وجه الكاتب الغزير الذي أثرى المكتبة بأعمال متنوعة بين التاريخ والفلسفة والسرد، من "أبوبكر الصديق والسياسة الشرعية" (2012) إلى "حكايات حكيم" (2014) و(خليفة النمرود، والسرداب)، وصولاً إلى (الزئبق) التي تمثل ذروة نضجه الإبداعي.

من هذه التربة الثرية، ومن هذا العقل الجغرافي، تنبع رواية "الزئبق" ذلك النص الذي يستدعي قارئه ليسافر عبر الأزمنة، وليفكك الشفرات، ويشارك في صنع المعنى.

عتبة الغلاف: البوابة البصرية إلى عالم الزئبق

لا يمكن تجاهل أولى العتبات التي تستقبل القارئ، في رواية "الزئبق"، لو افترضنا أن الغلاف يحمل صورة تجريدية تظهر: قطرة زئبق فضية تتدحرج على سطح أسود، وخطوط زمنية متشابكة تشبه دوائر متداخلة، أجزاء من وثائق قديمة تظهر بشكل شفاف.

هذه الصورة البصرية تؤسس لـ جمالية التلقي البصري حيث تقدم بشكل مجازي مكثف أهم ثيمات الرواية: سيولة الزمن وعدم ثباته (كطبيعة الزئبق)، وتشابك الأزمنة (الخطوط المتداخلة)، وأسرار التاريخ (الوثائق الشفافة)، هذا الغلاف لا يزين الكتاب فحسب، بل يخاطب حدس القارئ ويعده لدخول عالم من الانزياح والغموض، مثيراً فضوله منذ النظرة الأولى.

العتبات النصية الأولى: عقد القراءة

منذ الصفحات الأولى، تبرم الرواية عقداً غير مألوف مع القارئ من خلال:

الإهداء غير التقليدي:

الإهداء إلى "جامعة طبرق" وقسم "الدراسات العليا في الجغرافيا الطبيعية" ليس إهداءً عاطفياً تقليدياً، بل هو إشارة محورية إلى أن الجغرافيا والعلم سيكونان محورين أساسيين في الأحداث، مما يهيئ القارئ لرواية علمية وفكرية أكثر منها عاطفية.

التقديم كخارطة طريق:

تقديم سليمان محمود للرواية يعمل كـ دليل قراءة، حيث يصف النص بأنه: "رحلة سريعة الغموض"، و"خيط رفيع بين الخيال العلمي والواقع"، و"لا تُحدّد الفصول الزمنية بل تُمحى الحدود بينها"، هذا التقديم يبرم عقد قراءة واضحاً مع المتلقي: أنت مقبل على نص معقد، غير تقليدي، يتطلب قارئاً نشطاً، إنه تحذير ووعد في الوقت نفسه.

الاستهلال الغامض:

تبدأ الرواية باقتباس شعري: "أعرف أننا نكتب عن الذين نحبهم في ظلال حروفنا..." هذا الاستهلال الانزياحي يخلق تناقضاً مثمراً مع العالم العلمي الصارم الذي تليه الأحداث، مُلمحاً إلى أن الرواية تحمل أيضاً بعداً إنسانياً وشاعرياً تحت قشرتها العلمية.

خلاصة العتبات: معاً تشكل هذه العتبات الأولى نظاماً استهلالياً متكاملًا يهيئ القارئ لدخول عالم الرواية بذهن متفتح، متخلصاً من توقعات القراءة التقليدية، إنها تصمم قارئاً مثالياً للنص، قارئ يقبل الانزياح، ويستمتع بالغموض، ويشارك في بناء المعنى منذ العتبات الأولى.

هذه العتبات ليست مجرد ديكور، بل هي أجزاء عضوية من استراتيجية التلقي التي تبنيها الرواية، مما يجعل عملية القراءة تبدأ فعلياً من لحظة النظر إلى الغلاف، وليس من أول سطر في الفصل الأول.

تندرج رواية "الزئبق" للكاتب الليبي فتحي محمد مسعود ضمن ذلك النوع من النصوص السردية التي لا تكتفي بسرد حكاية، بل تُشرك القارئ في عملية بناء المعنى، وتستدعيه ليصبح شريكاً في فك شفرات النص واستنباط دلالاته، من خلال تقنيات سردية متقدمة، وبناء عالمي معقد، وخطاب موجه مباشرة إلى وعي المتلقي، تقدم الرواية نموذجاً في جماليات التلقي، حيث يصبح القارئ ليس مجرد مستقبل، بل فاعلاً في النص.

الانزياح الزمني وتشويش الحدود: استراتيجية استدعاء

هذا الإطار المستقبلي لا ينفصل عن الماضي؛ فالرواية تعود بنا إلى وثائق سرية من عام 2019 وأحداث تاريخية حقيقية مثل جائحة كوفيد-19، هذا الانزياح الزمني المستمر بين الماضي والمستقبل، وطمس الحدود بينهما، يخلق حالة من اللايقين تجبر القارئ على التساؤل: هل نحن أمام خيال علمي؟ أم أن هذا المستقبل هو نتيجة حتمية لمؤامرات الماضي؟

هذا التشويش المقصود هو استراتيجية تلقيوية بارعة، القارئ لا يتلقى الحكاية جاهزة، بل يُجبر على بناء الجسور بين الأزمنة، وربط الخيوط، والبحث عن السبب وراء الكارثة، النص يقدم المعلومات على شكل أجزاء مفككة – وثائق مسروقة، تقارير سرية، ذكريات مشتتة، وعلى القارئ أن يقوم بعملية التجميع.

(2)

تعدد الأصوات وانهيار سلطة الراوي الواحد

لا توجد حقيقة مطلقة في "الزئبق"، الرواية تقدم وجهات نظر متعددة من خلال: الراوي الرئيسي (عالم بيولوجي)، والدكتور لويض، والوثائق السرية التي تكشف مؤامرات الدول العظمى، وخطابات الشخصيات الأخرى مثل العلماء الليبيين.

هذا التعدد يخلق ما يسمى في نظرية التلقي "الأفق المنتظر" المتعدد، كل قارئ قد يميل إلى تصديق رواية على أخرى، هل الكارثة نتيجة حرب بيولوجية؟ أم بسبب تغير المناخ؟ أم بسبب مؤامرة لشركات الطاقة؟ النص لا يجيب بشكل قاطع، بل يترك المساحة مفتوحة لتأويل القارئ، مما يعزز شعوره بالمشاركة الفعالة وإعادة إنتاج النص وفقاً لرؤيته.

(3)

القارئ بوصفها "محققاً": النص كلغز

تحول الرواية عملية القراءة إلى تحقيق القارئ، مثل البطل، يُلقى عليه في بحر من الوثائق والأسرار (مثل المستند رقم 13، ووثيقة "زئبق"، وتقارير مؤتمر كندا)، اللغة نفسها تصبح شفرة يجب فكها، الأحداث لا تأتي مرتبة زمنياً، بل تتداخل كقطع أحجية (بازل)، جمالية التلقي هنا تكمن في الإرضاء الذهني الذي يشعر به القارئ عندما ينجح في ربط حدث من الماضي بحدث في المستقبل، أو عندما يكتشف خيطاً خفياً يربط بين شخصيتين.

(4)

الانزياح عن المألوف: تخريب التوقعات

تُخيب الرواية توقعات القارئ التقليدية بشكل متعمد، فبدلاً من أن يكون البطل منقذ العالم، نجد أن البطل نفسه قد يكون أداة في يد القوى العظمى مثل (الزئبق)، وبدلاً من أن يكون العلماء أبطالاً خيرين، نكتشف أن بعضهم قد يكون ضحية أو جزءاً من لعبة أكبر، حتى نهاية الفصل الثاني، لا نعرف من هو الخير ومن هو الشر بشكل واضح.

هذا الانزياح عن النمطية يخلق حالة من القلق والتوتر، ويجبر القارئ على مراجعة افتراضاته باستمرار، مما يجعله في حالة تأهب ونشاط ذهني دائم.

(5)

الانزياح اللغوي: بين الشعرية والتقنية

اللغة في "الزئبق" هي عالم قائم بذاته، تتنقل بين: اللغة العلمية الجافة في تقارير المؤتمرات، واللغة الشعرية الاستعارية في المشاهد التأملية (الزمن سائل لا يمكن الإمساك به، كقطرة الزئبق)، ولغة التشويق في المشاهد البوليسية.

هذا المزيج اللغوي يخلق إيقاعاً نصياً متغيراً، لا يسمح للمتلقي بالاستقرار في نمط واحد، فيحافظ على انتباهه ويستدعيه عاطفياً وفكرياً في آن واحد.

خاتمة: القارئ شريك في إبداع المعنى

(الزئبق) ليست رواية للمتعة السلبية؛ إنها دعوة صريحة للحوار، النص لا يكتمل إلا بقارئ نشط، يشارك في بنائه، يتساءل، يشك، ويبحث عن الحقيقة بين السطور، من خلال الانزياح الزمني، وتعدد الأصوات، وطبيعة النص كلغز، واستراتيجية تخريب التوقعات، تنجح الرواية في تحويل فعل القراءة من تلقٍ سلبي إلى مغامرة ذهنية وفكرية شاقة ومثيرة.

هي رواية تليق بعصرنا المعقد، حيث الحقيقة ليست واحدة، والواقع قابل للتشكيل، والقارئ هو من يملك آخر قطعة في أحجية المعنى.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في المثقف اليوم