قراءات نقدية
فاطمة عبد الله: التفكك البنائي إلى ولادة القارئ

دراسة نقدية في قصيدة "همس التصدع" للشاعرة د. مرشدة جاويش
تعد قصيدة «همس التصدع» للشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعريا معاصراً يندرج ضمن تيارات الحداثة العربية، إذ تتسم بالانفتاح على التجربة الذاتية واستكشاف أشكال التعبير اللغوي الجديدة. تمتاز اللغة الشعرية في النص بالثراء التصويري والحساسية الرمزية، بما يتيح للقصيدة أن تعمل على تفكيك تجارب الوعي والذاكرة وتقديم رؤية فنية للعلاقات بين الذات والمعنى. كما يبرز النص تصادماً بين الفقد والوجود وبين حضور اللغة وغموضها ليخلق فضاء شعورياً تأملياً يعكس التوترات الداخلية للنص والشاعرة على حد سواء.
في هذا الإطار، تشكل القصيدة تجربة نقدية بحد ذاتها فهي لا تكتفي بسرد شعوري فحسب بل تعيد إنتاج المعنى عبر البناء اللغوي والصوري الذي يمارس لعبة التصدع والتجزئة، مما يجعلها نصاً جديراً بالتحليل من منظور الحداثة الأدبية والنظرية النقدية المعاصرة.
المقاربة العالمية.. إليوت والتفكك البنائي
تتقاطع قصيدة «همس التصدع» مع الاتجاه الحداثي في الشعر الغربي والشرقي من حيث استدعاء شظايا الوعي والذاكرة كأساس للبناء الشعري. وهي تقترب من نصوص Eliot إليوت، خاصة(The West Land) "الأرض الخراب" في استخدام التقطيع السردي والانتقالات المفاجئة بين الصور واللغات الرمزية. هذا التفكك يعكس هشاشة الذات والوجود ويخلق إحساسا بالفراغ النفسي والضياع الزمني.
ماندلشتام واستحضار الذاكرة
في سياق (Mandelstam) ماندِلشتام، يظهر البعد التأملي في تذكر الماضي واستحضار الأماكن والرموز كأداة لإعادة تشكيل الهوية الشعرية بما يعكس تجربة قصيدة «همس التصدع» في التعامل مع «بقايا الموت» و«الشظايا الذهنية» كمساحة للتجربة الذاتية والوعي المتفكك.
أدونيس والتجربة الحداثية العربية
أما في الشعر العربي المعاصر، فإن تجربة Adonis في الجمع بين التقاليد الرمزية والقصيدة الحداثية المعاصرة تبرز دور اللغة في تفكيك التجربة التاريخية والذاتية وهو ما يتوازى مع النص قيد الدراسة إذ يعيد إنتاج المعنى عبر لعبة الصور والرموز التي تعكس صراع الذات مع الذاكرة والغياب.
باختصار، تظهر القصيدة التقاء ثلاثة أبعاد: التفكك البنائي واستحضار الذاكرة لإعادة بناء الهوية، ولعب اللغة والرموز في تأصيل التجربة الحداثية العربية ما يجعلها نموذجاً شعرياً حداثياً متنوع الأبعاد وموصولاً بالخطوط النقدية العالمية.
البنية الافتتاحية والصور الاستعارية في تشكيل دلالة التفكك
القصيدة تبدأ بنداء: «أيُّهَا العائِدُ مِنْ جُرْحِ المَدى» — هذا افتتاح رمزي: عائد من امتداد/مسافة جرحٍ غير محاط بزمن محدد. الاستعارات المُتصاعدة (الهواء/الهَباء، الحِبر/الدَّواة، القلم/الارتجاف، الظلّ/الضياع) تبني اقتصاداً بصرياً يدور حول التفكّك والخراب الداخلي:
«والدَّواةُ نَفِقَتْ / لا تُجيدُ الإنْبِثاقَ» — الموت/نفوق الأداة كإعلان عن عجز اللغة أو عن انقطاع وسيلة التعبير.
التكرار البنائي للأسئلة «مَنْ لَكَ؟... كَمْ كَتَبْتَ؟» يخلق شعوراً بالمساءلة الداخلية وبالفراغ الإجابي (absence) الذي لا يجاب عنه.
القصيدة عموما تتبنى حرية الشكل (شعر حمال الأوجه: الشطر الطويل، الانقطاع المفاجئ، تداخل السرد والصور) ما يجعلها نصاً حداثياً في الشكل والروح...
تركيبة الحداثة: التصدع كمنهج جمالي
القصيدة تنتج «تصدعاً» لا كمجرد صورة بل كنمط بنائي: تراكم صور ذائبة، تقطّعاتٍ لغويّة، وكلمات «ترتدّ لغزًا» كما تقول: «وَالكَلِمَةُ كُلَّما اقْتَرَبْتَ ارْتَدَّتْ لُغْزاً». هذا التصدع يتوافق مع خاصيات الحداثة الأدبية: رفض الإحاطة وتبرم من السرد الكامل، وإبراز الشظايا كوسائل إنتاج للمعنى. يمكن أن نقرأ حركة النص بين الصرخة والهمس (عنوانه نفسه "همس") كمناخ حداثيّ ينافس الضجيج التقليدي.
هنا يُذكّرنا ذلك بتأكيد تي. س. إليوت على الإحساس التاريخيّ والبعد التراكمِيّ للتقليد بوصفه طريقة لكتابة القصيدة الحديثة: الشاعر يعمل داخل شبكة من آثار سابقة وبذا ينشأ معنى مضاعف ينأى عن العاطفة الفردية الخالصة....
الصمت، المؤلف، والقارئ: من هو المتكلم الحقيقي؟
تتموضع القصيدة بين الإفصاح والإخفاء حيث يظهر المخاطب ("العائد") وتبرز "الرؤى كالوشوم"، و"النبوءة" التي "سقطت من عين أنثى / أجهضها التوق". هذا التفاعل بين الكشف والتغطية يفتح الباب لتأويلات حول موت المؤلف وولادة القارئ. إن انحناء النص على نفسه وعودة الكلمة إلى الغموض يدفع نحو قراءة برثائية تفترض أن المعنى لا ينبغي ربطه بهوية مؤلف واحدة بل يتيح قراءات متعددة تولد معاني جديدة.
وفق رؤية رولان بارت، "ميلاد القارئ يفدى بموت المؤلف"، أي أن تحرير النص من مرجعيات الشخص التاريخي للمؤلف يتيح للقارئ مساحة لإعادة إنتاج المعنى. تطبيق هذا على قصيدة «همس التصدع» يظهر أن النص لا يقدم إجابات جاهزة بل يدعو القارئ ليعيد تركيب أنقاض المعنى بنفسه، ليصبح شريكاً فاعلاً في صناعة التجربة التأويلية. بهذا، تتحقق في النص استراتيجية حداثية واضحة حيث الغموض والتشظي البنائي يفتحان المجال أمام القارئ لتجاوز المقاصد الفردية للمؤلف وتوليد دلالات متعددة بما يتوافق مع مقاربات الحداثة وما بعد الحداثة في الشعر.
التفكيك والسرد المهزوم: دريدا والتأجيل الدلالي
الكلمات التي " ترتدّ لغزًا" و"المَعنى يتَهاوَى في جَوْفِ الصَّدى" تشير إلى لعبة الحضور/الغياب في النص اي المعنى يتأخر ويتشظى ويترك أثراً وهو ما يقارب مفهوم دريدا حول différance: المعنى لا يحدث كحضور نهائي بل ينتج عبر الفارق والتأجيل وعبر أثر دائم من الحضور والغياب. قراءة القصيدة عبر عدسة التفكيك تبرز كيف أن الصمت (نفوق الدواة، ارتجاف القلم) ليس فراغاً محايداً بل عنصراً إنتاجياً للمعنى ذاته.
الصدمة والذاكرة: الهوة بين السرد والهوية (بول رِيكور/الهوية السردية)
الخطوط «تُعيدُ قَلبَكَ مِن بَقايا المَوتِ / تَسعى رَغْمَ اليَأْسِ» تعبّر عن إعادة تركيب للذات من ركام الذكرى. بول ريكور يربط بين السرد والهوية, فالقصيدة تبدو كمحاولة سرد ذاتي غير مكتمل لإعادة بناء الذات بعد جرح امتد. ريكور يؤكد أن الحكي يتيح للهوية أن تشكل وتعاد صياغتها من خلال القصة. بهذا تصبح القصيدة فعل سرد لتشكيل هوية جديدة داخل هشاشة الذاكرة.
قلق التأثير والنبوة المجهضة (هارولد بلوم)
القصيدة تشير إلى فشل النبوءة: "النُّبُوءَةُ / سَقَطَتْ مِنْ عَيْنِ أُنْثى / أَجْهَضَها التَّوْقُ / قَبْلَ اكْتِمالِ المَعْنَى". هنا ثمة وعود معنى لا تنجز — وضع يمكن تأويله عبر مفهوم هارولد بلوم عن "قلق التأثير" حيث يسعى الشاعر/النص إلى امتلاك أصالة ما لكنه يواجه ظلاً من الإرث ومن توق للمعنى الذي يطغى ويهمش. النص في محاولته أن يكون "حلماً" ("كُنْ حُلْماً / ولا تَعُدْ...") يختار الانسحاب من المنافسة على المعنى أو إعادة تعريفه.
الفن كمقاومة للهيمنة (ثيودور أدورنو)(Theodor Adorno).
في مشهد شعري يتحدث عن النفوق والانكسار والالتباس يظهر إصرار على أن الفن يحتفظ بخاصية الاستقلال (أو على الأقل بالمقاومة) ضد عمليات التشييء والاستلاب. أدورنو ناقش كيف أن الفن الحديث قد يملك "قدراً من الحقيقة" في مقاومته لصياغات الصناعة الثقافية. فالنص يرفض تقديم أجوبة جاهزة أو تحويل الألم إلى خطاب مريح.
أدورنو يرى أن الفن الحديث يقاوم الثقافة السائدة بتمسكه بالغموض والتنافر الجمالي.
إن القصيدة تحافظ على استقلاليتها عبر إصرارها على إبقاء السؤال مفتوحا وهو ما يرسخ بعدها النقدي المقاوم.
الأدوات البلاغية
الأسلوب: لغة متقطعة/ تركيب أسئلي /واستخدام المضارع الدائم والقرائن الزمنية (المساء، الظل) لخلق أحاسيس تأملية.
المجازات: الاستعارة المخلصة (الدواة/نفوقها)، الصورة المتبددة (الوشم على كف الهجير)، والتشخيص (الرؤى تنبت، الظل رفيق).
الصوت: تبدل بين المخاطَب والمخاطِب مع حضور لجهة راوية نصف غائبة — هذا ما يعطي النص توتراً بين القول والسكوت.
الأيقونات الحداثية: حطام، بقايا، صمت، وهمس — جميعها عناصر بنائية تؤكد انتماء النص لتيار الحداثة/ما بعد الحداثة.
تكشف قصيدة «همس التصدع» عن نص حداثي متكامل يعبر عن التمزق والغياب عبر صور الانكسار والفراغ. فهي تستدعي مرجعيات عالمية (إليوت، ماندلشتام) وعربية (أدونيس)، كما تنفتح على أطر نظرية متنوعة (دريدا، ريكور، بارت، بلوم، أدورنو). هذا التداخل بين النص الشعري والخطابات النقدية يبرز قدرة القصيدة على استيعاب التجارب الفكرية العالمية وإعادة إنتاجها داخل سياقها العربي.
إن قوة النص تكمن في كونه مفتوحا على قراءات متعددة: فهو سجل جرح شخصي وتجسيد لعجز اللغة وفضاء مقاوم لأي سرد نهائي. ومن خلال ذلك يمنح القارئ دورا فاعلاً في إنتاج المعنى، بما يتفق مع نظريات النقد المعاصر. هكذا تصبح القصيدة نصا حداثياً نقدياً بامتياز يزاوج بين تفكك البناء وجمالية الغموض، ويؤكد أن الشعر لا يزال قادراً على مقاومة التشييء عبر الحفاظ على مسافة تأملية وجمالية.
***
دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله
..................
هَمْسُ التَصَدُّع
أيُّهَا العائِدُ مِنْ جُرْحِ المَدى
كَما يَعودُ الهَباءُ إلى مَهْبِهِ
لا مِدادٌ يُواسِيكَ
ولا صَدى يُعَزِّي في مَآثِمِ البَوْحِ...
مَنْ لَكَ؟
والرُّؤى كالوُشُومِ
على كَفِّ الهَجِيرِ
تَنْبُتُ في فَلاةِ الأُمْنِيّاتِ
كَمْ كَتَبْتَ؟
والرِّياحُ تَمْحُو ما كُتِبَ
والدَّواةُ نَفِقَتْ
لا تُجيدُ الإنْبِثاقَ
المَعنى يَتَهَاوَى في جَوْفِ الصَّدى
والكَلِمَةُ كُلَّما اقْتَرَبْتَ ارْتَدَّتْ لُغْزاً
وحِبْرُكَ رَكَدَ بَيْنَ أَطْرافِ السُّطورِ
وَارْتَجَفَ قَلَمكَ على حَافَةِ الأُفوْل
فأنتَ في رُكامِ الضّياعِ
تُعيدُ قَلبَكَ مِن بَقايا المَوتِ
تَسعى رَغْمَ اليَأْسِ
لِتُضيءَ في ظِلالِ العَدَمِ
أيُّهَا التائِهُ في كُحْلِ الذِّكرى
كُنْ حُلْماً
ولا تَعُدْ...
فالظِلُّ الَّذي كانَ رَفيقَ خُطاكَ
قَدْ تَناسَلَ في ضَوْءِ غَيْرِكَ
والنُّبُوءَةُ
سَقَطَتْ مِنْ عَيْنِ أُنْثى
أَجْهَضَها التَّوْقُ
قَبْلَ اكْتِمالِ المَعْنَى
وَإذِ المَساءُ يَتَثَاءَبُ في حَناياكَ
تَعالَ
اقْرأْ خُرافاتِكَ
على جُدْرانِكَ
واسْتَعِذْ
مِنْ ماضٍ
كانَ يَمْحوكَ
وأنتَ تَظُنُّ أَنَّهُ يَكْتُبُكَ
***
مرشدة جاويش