قراءات نقدية

عبد النبي بزاز: مكونات هوية الشعر والإبداع

وصور المجاز وعناصره في مجموعة "هسيس الصمت"

يطغى على ديوان " هسيس الصمت " للشاعر المغربي عبد الله هجام الطابع المجازي، وما يتولد عنه من صور تحفل بها أغلب نصوصه، بالإضافة إلى جوانب وموضوعات أخرى تثري المتن الشعري وتشرعه على آفاق موسومة بالعمق الدلالي، والبعد الجمالي. وهو ما يطالعنا منذ النص الأول " هسيس الصمت " حيث نقرأ: " في آخر الليل/ الذي يحملني إلى عوالم /أدخل في دهشتها / كشاعر يحترق/ بفاكهة الثلج... " ص 3، فالهزيع الأخير من الليل يحمل الشاعر إلى عوالم مدهشة بصفة تشبيهية تحرقه بها فاكهة الثلج، فتغدو للثلج فاكهة يصعب تحديد طبيعتها وماهيتها. وفي نص " زهرة الأوركيد " نقرأ: " وأنت تضحك / في السر/ على جرح العالم / الذي يأسرنا / بسكر كلمات..." ص 10، فيضحك المخاطَب سرا على عالم معطوب يتحكم في محيطه بسكر كلمات، مما يفرز معاني ودلالات ذات حمولة رمزية منفتحة على تأويلات وتفسيرات شتى، وقوله: " وتلك النظرة الشاعرة/ التي تلقينها / من ثقب / نافذة الليل " ص 19، حيث تتطلع رؤية شاعرة عبر كوة نافذة الليل في استعارة النافذة لليل ومن ثمة إرسال نظرة حالمة لامتدادات فضاء يجلله بهاء ليلي  ساحر وأخاذ، وعبارة: " لحظة الاحتراق / بجذوة الثلج... " ص 24، في توليفة متناقضة الأطراف بين الجذوة في توهجها والثلج في شدة برودته حيث الاحتراق بجذوة الثلج وهو أمر غير شائع وغير مستساغ. وفي نص " عزلة الليل ": " أحيانا تعبرني / رعشة الكلمات " ص 28، في استعارة الرعشة والعبور للكلمات مع ما تتضمنه كلمة رعشة، وهي تَعْبُر ذات الشاعر، من دلالات متعددة المرامي والمقصديات، وقوله: " كلما/ اقترب مني / حزن المساء/ الذي يكسر / مرآة ذاكرتي" ص 3، فيصبح المساء حزينا، ويدنو من الشاعر، بل يقترف فعل تكسير مرآة ذاكرته، بأسلوب يتضمن تكثيفا مجازيا يخص الليل كزمن يجترح حركات ناشزة عن طبيعته وماهيته ؛من فعل اقتراب وتكسير، وتوظيف المرآة وما توحي به من صفات الشفافية والانعكاس. وفي نص " لوحة القصيدة " نقرأ: " وكنت آنذاك / وحيدا أمشي / داخل رأسي " ص 40، وهو تعبير مجازي يخلق أفقا مختلفا يخطو فيه الشاعر ويتحرك داخل رأسه في مشهد يشذ عما هو شائع ومعروف. هذا الزخم المجازي الغني بإيحاءاته وإشاراته أفرز صورا شعرية بمثابة امتداد لأشكال وتشكلات سابقة في تجسير العبور نحو نسق تقاطع وتواصل لتعبير متواصل الدلالات، مترابط الحلقات والدوائر كما ورد في عبارات من قبيل: " وأنت ما زلت /تسافرعبر/ألق الأشياء / التي تشدنا / بغواية دهشتها. " ص 11، بتصوير سفر عبر توهج الأشياء التي تأسر النفوس، وتطوق الأذهان  بما تعج به من دهشة وإبهار. وفي نص " سر البهاء " حيث يقول الشاعر: " وأنا أترجم / وجع الكلمات/ إلى أجمل / قصيدة تنبثق / من جذوة الثلج." ص 15، حيث تتم ترجمة الألم الذي يستشري في أوصال الكلمات إلى قصيدة تخرج من أتون ثلج مشتعل، وفي نفس السياق، وإشاعة لنفس المعنى نقرأ: " طعم قصائد / تنبثق من/حرقة الثلج " ص 17، وهي قصائد تنبثق من أوار الثلج ولهيبه، وما تختزله الصورتان من مفارقة يجسدها تَوَحُّد الثلج شديد البرودة والنار الملتهبة.و تصويره أيضا لمفعول سكر الكلمات التي تغوص في بواطن النفس لاستجلاء خفاياها، وكشف ما تضمره من مكنونات قصيدة يجللها الصمت: " بسكر كلمات / تستنطق بداخلنا / ما يبوح لنا به / صمت القصيدة " ص 23، والانتقال من ثمة إلى تصوير مقترن بالتشبيه لطيف فراشة يجذبها سحر الضوء الذي يشكل سبب احتراقها وهلاكها من خلال تحديد طَرَفَيْ مفارقة يستغرقها الإغراء والاحتراق: " كطيف فراشة / تحترق بجمال الضوء  " ص30، صورة تمتد عبر مساحات نأي وتيه مُؤلِّفَة بين الأنا والآخر ( ببعضنا ) اللذين يكتملان ويتكاملان لخوض غمار مخلفات جذوة على شكل رماد يحتفظ ببقايا أسرار: " الذي يجذبنا / أثناء الليل / وذلك كما / نتيه آنذاك / ببعضنا في / سر الرماد "ص"30. فيبزغ الثلج وينتأ متجددا ومتجليا من خلال تصوير نابع من رؤية بمسوحا ت جمالية وبعد دلالي: " وأنا أنظر / ندف الثلج / ترقص في الفضاء / كملائكة النهار" ص 47، في تشبيه لندف الثلج التي تملأ وتغطي الفضاء بملائكة النهار، وهو تشبيه مثقل بدلالات رمزية وعقدية تستدعي وقوفا متأنيا لاستشراف أبعادها، ونظرة متفحصة للغور في أعماق معانيها المختزلة في توصيف أكثر غنى وانفتاحا. وارتباطا بما هو مجازي فقد استخدم الشاعر عنصر التشبيه في أشكاله المعروفة: " أدخل في دهشتها / كشاعر يحترق / بفاكهة الثلج " ص 3، مقترنا بأداة الكاف، والذي تكرر في قوله: " كعشق امرأة /تنهش قلبي " ص 8، وفي الكثير من نصوص المجموعة ومقاطعها. مما يضفي على المتن الشعري جمالية في التعبير، وتنويعا في الأسلوب. ووظف أيضا الجانب الرومانسي كما ورد في نص " مساء الخريف: " وكانت آنذاك / شمس المغيب / تضفي على الأشجار / ألوانا زاهية / أكثر من /حمرة  أزهار/ شقائق النعمان... " ص 44، حيث متح من معجم طبيعي ُمَشكَّل من (شمس، وأشجار، ونبات )، وهو ما أسهم في إغناء نسيج المجموعة وتنويعها. فضلا عن موضوع الثلج الذي تكرر في العديد من النصوص معبرا عن حس وجداني رهيف وشفاف، وعمق دلالي يتضمن  عنصر المفارقة بمختلف أبعادها وتجلياتها: " كشاعر يحترق / بفاكهة الثلج " ص 3، على مستوى المعنى، وجماليته التعبيرية: " وأنا أنظر / ندف الثلج / ترقص في الفضاء / كملائكة النهار " ص 47، وهناك عناصر أخرى وردت في ثنايا الأضمومة، َوسَّعَتْ أفقها الرمزي، ورفعت من منسوب معانيه ودلالاته كالمكان الذي ربطته بالشاعر أواصر حميمية شكلت هوية وجودية تميزت بعمق كينونة تغذت وتشبعت بنسغ عشق ينهل من معين ِوجْد هادر، ومن فيض مشاعر لا تجف منابعها ولا تنضب فشكلت قصائد مستلهمة من دفء المكان ومحيطه: " كما كان يضفي / على قرية عين اللوح / سحر ذلك / الجمال الأطلسي " ص 17، قرية عين اللوح بأشجارها، ونباتاتها، ونصاعة ثلوجها، وعبق أجوائها اكتسحت كيان الشاعر، واستحوذت على لبه وذهنه ملهمة وموحية، عبر فضاءات خلوة تتربص بانخطافات الشعر وتتحايل للقبض على  بريقه والتماعاته لتشكيل قصائد تمعن في الانسلال و الانفلات، حيث يحضر مقهى الشلال الذي يعاين من خلال شرفته الشاعر روعة طبيعة الخريف وتجلياته: " وأنا بشرفة / مقهى الشلال / أرى أوراقا يابسة / تطفو فوق /سطح الماء" ص 43، كما استحضر أسماء ذات دلالات رمزية كالشاعرة المغربية فاطمة مسلاك: " كان صوت / فاطمة مسلاك / يأتيني خاشعا " ص 38،وباتريشيا عازفة الكمان: " وهي تلقي / عنا بدفء / قصيدة باتريشيا/ عازفة الكمان " ص 38، وفي مجال الموسيقى دائما تم ذكر الموسيقي البولندي شوبان: " لا يزال همس /أنامل شوبان / تعزف في ذاكرتي / على آلة البيانو " ص 47، وهو يداعب، بمهارة وفن، آلة البيانو بأنامله المبدعة الخلاقة، وأشار أيضا لرواية  الكاتب الجزائري واسيني الأعرج " أصابع لوليتا ": " تغمرنا أصابع لوليتا / بعزفها الباذخ / على آلة البيانو " ص 38، وارتباطا بما هو فني إبداعي عرج الشاعر على أهازيج التراث المحلي في قصيدة " سمفونية الخريف " يقول: "يأتيني صدى/  أصوات نساء / يرقصن على وقع / أهازيج أمازيغية / تشد البال / من جرح / ألم الكمان. " ص18،في تصوير لرقص النساء داخل جوقة أمازيغية، وغنائهن الذي يتردد صداه، وما يصدره الكمان من أنغام شجية مؤثرة.

ف " هسيس الصمت " شعر يصدر عن هوية إبداعية يمتزج فيها زخم الشعر بإيحاءات  المكان  " عين اللوح "، وما يضمه من مكونات طبيعية، وما يحيط به من  فضاءات متنوعة، وما ينبض به من إيقاعات تختزل الفني بالجمالي من خلال تشكيل ونحت لوحات تتماهى فيها عذوبة الصوت وطربه بأنغام الآلة، بإيحاء العبارة وإشاراتها لتحديد ملامح صورة موسومة بالشموخ والروعة والبهاء.

****

عبد النبي بزاز

.........................

* هسيس الصمت (شعر) عبد الله هجام، مطبعة  بلال / فاس 2025.

 

في المثقف اليوم