قراءات نقدية
بولص آدم: الرموز المتحوّلة والمتشابكة في "زورقها في الماء" للشاعر عدنان الظاهر

"تحليل لعلاقة المقطعين وتداخل البنى الرمزية، في النص المكتوب خلال كانون الثاني 2025، المنشور في صحيفة المثقف بتاريخ: 29 آذار 2025"
شاعر الرؤيا المتوتّرة واللغة المتحوّلة
الدكتور عدنان الظاهر شاعر وأكاديمي عراقي ذو نبرة فريدة، يجمع بين العقلية التحليلية والعين الشعرية، بين دقة العالم وخيال الحالم. حصل على الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، لكنه لم يحبس ذاته في المختبر، بل انطلق في فضاء القصيدة محمّلاً برؤية كونية تأملية، وبنَفَس شعري معقّد، ينزع إلى التفكيك والتشكيل، وإلى الغوص في طبقات المعنى والتأويل.
شعر الظاهر يمتاز بـلغة شعرية مركّبة وكثيفة، تميل إلى الرمز والتحوّل لا إلى البساطة أو المباشرة. نبرة وجودية قلقة، تتأرجح بين العاطفة المتفجرة والتأمل العقلي الحاد. بنية حلمية سريالية في كثير من قصائده، تُقدَّم الرؤى لا كحقائق، بل كطبقات شعورية واستعارات متراكبة. حضور لافت لصور من العلم والميتافيزيقا والأسطورة، مما يضفي على نصوصه طابعًا معرفيًا جماليًا فريدًا.في قصيدته "زورقها في الماء"، يصوغ الظاهر عالَمًا داخليًا موارًا بالقلق، مشبعًا بالتوق، مهوَّمًا بالرغبة في فك رموز لا تستجيب. تنقسم القصيدة إلى مقطعين يبدوان منفصلين، لكنّ بينهما تداخلاً عميقًا في الرؤية، تشدّهما خيوط من الرموز المتحوّلة والمجهول الذي لا يُطال.
أولًا: «الحانة والكف»، سؤال المصير في مرآة القلق
يفتتح الشاعر قصيدته من فضاء شبه كابوسي، يحكمه الليل والخوف والحمّى، حيث يبدو أن الذات مطاردة بما لا يمكنها فهمه أو تجاوزه. يبرز رمز "الكفّ" بوصفه مركزًا للتأويل، لكنه لا يفتح على أمل، بل على تأزم وتصدٍّ واحتراق:
"يسألُ ما قالَ القارئُ كفّاً / نادى فتصدّى محروقاً..."
الكفّ التي تُقرأ عادة لكشف المصير، تفشل في أداء وظيفتها، أو ترفض الكشف، بل تشتعل وتتصدى. كأنها تُمثّل صمت القدر أو عنف المجهول.
في الخلفية، تتشكّل سلطة طاغية، يحكمها "طاغٍ جبّار"، في إحالة رمزية إلى قدرٍ غاشم، أو سلطة وجودية/كونية لا تُقاوَم.
حتى الفجر، الذي يُنتظر كعلامة خلاص، لا يأتي مخلّصًا، بل "يفجّر آياتٍ في النور"، فتُصبح الرؤية أداة ألم لا انكشاف.
ثانيًا: «زورقها في الماء»، غواية الحلم واقتراب الاحتراق
في المقطع الثاني، تأخذ القصيدة منحى حلميًا وعاطفيًا أكثر شفافية، لكنها لا تخرج من دائرة التوتّر، بل تنقل القلق من سؤال المصير إلى انتظار الحضور.
يبرز هنا "الزورق" كرمز للحب أو للمرأة أو للحلم المؤجّل، لكنّه:
"…في دجلة من خلف الجسرِ صَدودُ…"
أي أن الحلم بعيد، غائب، يلوّح دون أن يقترب. والشاعر يظل يترقّب من خلف الشرفة، بين ريح تشدّ البرد وجسر يفصل بين الرائي والمرئي.
يتكرّر توتر الرؤيا في "العين"، التي لا تشبه أختها، لا في اللون ولا في اللحظة، وتفيض شررًا وغموضًا:
"عينٌ لا تُشبهُ أُخرى / لا في اللحظِ ولا في طورِ اللونِ المُغري"
وحين يحاول الشاعر الاقتراب من الضوء، ينكمش هذا الأخير ويذوي:
"قرّبتُ الضوءَ فصدَّ ومن ثمّ استرخى مشلولا"
كأن الرؤية ترفض أن تُقتنص، كأن الحلم إذا قُرّب أكثر مما ينبغي، يختفي أو يُصاب بالشلل.
تواصل المجهول وانكسار الرؤيا
رغم اختلاف أسلوبي المقطعين، إلا أن جوهرهما واحد: المجهول المتكرر، والرؤيا المنكسرة.
في المقطع الأول، يفشل الكفّ في التفسير. وفي المقطع الثاني، يفشل الزورق في الوصول. في الأول، المصير مغلق، وفي الثاني، الحب معطَّل.
وفي كلا الحالتين، الشاعر يسير داخل غلالة من رموز تُغري بالمعنى لكنها لا تمنحه، وتدعو للعبور لكنها لا تسمح به.
بين "الحانة والكفّ" و"الزورق والعين"، تنبثق حركة دائرية للرموز، تتحوّل من جسد إلى نَفَس، من حواس إلى مجازات، دون أن تمنح مخرجًا.
حتى الضوء، وهو ما كان يُرتجى عادة كخلاص، ينغلق ويتداعى. ليست قصيدة عن المعرفة أو الفقد، هي قصيدة عن التعلّق بالمجهول والارتماء في أحضانه دون أن يهب شيئًا بالمقابل. المجهول هنا لا يُفسَّر، يُطارَد عبثًا. والرؤيا لا تتفتح، تنكسر كلما اقتربت اليد منها.
خاتمة: لا خلاص في الرؤيا… بل تمرّدٌ وجودي
تبلغ القصيدة ذروتها في خاتمتها:
"أني لا أندمُ إنْ فَقَأتْ عينَ الدُنيا أظفاري"
لا عتاب، ولا تردّد، بل انفجار وجودي كامل. الذات ترفض العالم الذي لا يُرى كما ينبغي، العالم الذي يخدع، ويتمنّع، ويتجمّل بما ليس فيه في لحظة كهذه، يُصبح الشعر فعل رفض للرؤية الزائفة، لا محاولة لتجميلها.
القصيدة إذن ليست مجرد رحلة في الرمز، بل احتجاج على طبيعة العالم، وتمرّدٌ على مجازاته الكاذبة. "زورقها في الماء" قصيدة مشبعة بالتوتّر الجمالي، والغموض الميتافيزيقي، والرغبة المحمومة في العبور نحو المجهول.
هي قصيدة الرموز المتحوّلة، والرؤى المنكسرة، والحواس التي تتشظّى. وفيها يؤكّد الظاهر أن الشعر ليس تفسيرًا للعالم، بل موقفٌ من عدم اكتماله.
***
بولص آدم