قراءات نقدية
عدنان عويّد: دراسة نقديّة لقصيدة (يا زمناً أعيانا)

للشاعر الفراتي "علي عبد الجاسم"
الشاعر- علي عبد الجاسم – شاعر من سوريا - مواليد محافظة ديرالزور 1965- يحمل أهلية تعليم – مارس مهنة التعليم – كتب الشعر منذ 2001- وأول مجموعة شعرية صدرت له عام – 2007.شارك في العديد من المهرجانات الأدبيّة في سوريا – منها مهرجان نبض الفرات ومهرجان صمود الفرات. فاز في المركز الثالث في مسابقة الشاعر الفراتي – عام – 2010.
صدر للشاعر:
1- ديوان شعر: ألق العيون.
2- ديوان شعر – بين ظلال الحروف.
3- ديوان شعر – الآن يا بردى.
4- ديوان شعر – النداء الأخير.
5- ديوان شعر – ندى الحروف. صدر 2024. عن دار بعل – سورية. وقد اخترنا منه قصيدة (يا زمناً أعيانا)، وهي موضوع دراستنا النقديّة.
العتبة السيمائيّة لعنوان القصيدة (يا زمناً أعيانا):
يشير عنوان القصيدة إلى نداء يتضمن دلالات العتاب، يخاطب به الشاعر الزمن، وهو هنا زمن القهر والعذاب والجوع والاستلاب والتشيىء والغربة والظلم، الذي مر به الشاعر بشكل خاص، والكثير من الشعب السوري بشكل عام. حيث فاقمت الأزمة السورية معاناة الناس فالخوف والدم والدمار والتشرد والضياع، أصبحت مفردات الحياة في سورية منذ 2011.
البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصيدة:
يقول الشاعر مخاطباً مأساته، قائلاً: إن قلبي أصبح مأسوراً للخوف، وهذا ما جعل خفقانه ودقاته المتسارعة تعيش حالة اللوعة والتساؤل المرير، ترى كيف سنخرج من هذا الألم الذي خيم في داخل كل منا، هذا الألم الذي بدأنا نشعر بطول مدته وقسوته، وكأنه امتداد لقهرنا التاريخي المشبع بالأحزان الذي عرفناه منذ آلاف السنين... لقد أصبحنا نحلم أن نتجاوز ذاك القهر والعذاب والحزن، لعلنا نصل أخيراً إلى مساحات من الفرح نشتاق لرونقها ونتلهف لعيشها.
موعودٌ قلبي بالخَفًقانِ
إلى حدِّ اللّوعةِ،
كيف سنخرجُ من ألمٍ عرشَ فينا؟
يمتدُ إلى ألفينِ من الأحزانْ...
سَفَراً نحو مساحاتٍ
نشتاقُ لرونقها،
يعود الشاعر "علي الجاسم" يتساءل عن عمق المأساة وبركانها الذي لم يخمد بعد من ثورته. ترى كيف سنهرب من عمق سجن أوهامنا؟، كيف نعرف معنى الفرح والسعادة والاستقرار؟، ونعرف سر تلك المعاناة التي دخلنا عالمها المظلم، وتسربت في نسيج أرواحنا المتعبة؟... ثم يعود ليتساءل وهاجس أمل الخلاص يدور في فلك مخيلته، ترى هل تمر بنا أمطار الفرح كي تغسل كل ما علق في قلوبنا من معاناة؟.
كيف سنهربُ من عمقِ الأوهامِ
لنعلمَ أسرارَ الفرحِ؟.
وتلك الألوانُ القاتمةُ
انسربت في أوتار الروح المتعبةِ
أتمطُرنا أنغامُ الألقِ
بأوجِ عروجِ القلبِ؟
إلا أن الشاعر المكلوم في قلبه وأحاسيسه، يعرف بأن ما يحلم به هي أحلام يقظة مشبعة بالأمنيات...هي عنده ليست أكثر من أمنيات تداعب مخيلته بما تحمل من رغبات الخلاص. حيث يقول:
خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا
في وقتٍ نظريَّ
لا ينفكُ يدغدغُ أوقاتَ الروعةِ،
يتفجرُ حساً في أسرارِ ليالينا،
ولكن أحلام اليقظة عند الشاعر، مشبعة بالأمل وكأنه يراها أمامه الآن، فيناجي روحه المتعبة: لقد حان (الآن) شروق الافصاح.. وها نحن ننتظر الفرح القادم لا محال، ننتظر الفرح الذي سيلهمنا معنى المحبة والألفة، بعد أن مزقتنا صراعاتنا بكل مرجعياتها التقليديّة.. لقد آن الأوان أن تزهر أرواحنا التي يبس الشوق فيها فتوقفت نبضاتها.. ها هي ساعة الخلاص من المأساة قد اقتربت، فتعالوا كي نرفد كلنا نهر أحلام مستقبلنا ومستقبل أولادنا والأجيال القادمة بمحبتنا لبعضنا، لعلنا نَخْلَصُ من خيباتنا وما حملته لنا من عذابات تلك السنين الطويلة .
حانَ الآن شروقُ الإفصاحِ،
وننتظرُ الفرحَ القادمِ
يلهمنا خيطَ تآلُفنا،
فيدورُ الماءُ في الأرواحِ
يبسَ الشوقُ بخافقها،
يا أملاً يقتربُ الآن،
تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،
فتنأى أفكارُ الخيبةْ.
البنية الفكريّة للقصيدة:
إن القصيدة تحمل هم شاعر تعرض وطنة لمأساة سياسيّة، فجرها نظام شمولي استبدادي، حارب شعبه وحال بينهم وبين حريتهم في مشاركتهم بأمور دنياهم، فكانت ردود الأفعال ضد هذا النظام قاسية، ولدت الكثير من المعاناة لأبناء الشعب على كافة المستويات، وخاصة تفجير المرجعيات التقليديّة وتعميم الفقر والجوع والظلم والتشرد، وتركت الشعب فريسة لسفلة المجتمع الذين أصبحوا سادة القوم وأصحاب القرار فيه.
البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:
الصورة في القصيدة:
لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأ الأديب إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنيّة المتلقي بالصور إلى جانب المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف، في لغتها التصويريّة. لقد كان الشاعر أكثر قدرة على التعبير في بوحه من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا، فإن الأفكار والرؤى أو المواقف الذهنية تطغى على الصور.
لقد جاءت الصورة عند الشاعر "علي عبد الجاسم" جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز منها: (وتلك الألوانُ القاتمةُ انسربت في أوتار الروح المتعبةِ)...( أتمطُرنا أنغامُ الألقِ بأوجِ عروجِ القلبِ؟.).. (خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا.)..(وننتظرُ الفرحَ القادمِ يلهمنا خيطَ تآلُفنا، فيدورُ الماءُ في الأرواحِ.)......
إن الشاعر استطاع أن يجعل من تراسل صور قصيدته حكاية أو اقصوصة حزن وألم وترجي وأمل في الخلاص من معاناة لم يعد يعرف نهايتها.. لقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعر النفسيّة والحسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعر الداخلي وارتباطه بعالمه الخارجي الذي تدفقت عواطفه وأحاسيسه نحوه دون حساب من أجل الارتقاء بوطنه وشعبه المتعبين.
هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعر بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.
الايقاع الموسيقي في القصيدة:
لقد اشتغل الشاعر "علي عبد الجاسم" في قصيدته على تفعيلة (فعلن)، وهي من مفردات البحر (المتدارك) وهو من بحور الشعر العربي الهامة، ويتميز بخفته وسرعته. حيث أتاح للشاعر إمكانيّة التعبير بأسلوب جديد ومختلف عما هو مألوف. فاختياره لتفعيلة (فعلن) جعل الرتم الموسيقي هنا مطابقاً في الواقع لمضمون بنية القصيدة رغم أن تعبير أو مفردات الحزن والألم قد غطت مساحة واسعة من متن القصيدة: (اللوعة.. الألم .. الأحزان.. نهرب .. الأوهام .. المتعبة). ولكن في المقابل نجد فسحة الأمل في الخلاص تدغدغ عواطف الشاعر لينتقل إلى مفردات مشبعة بالفرح مثل: (شروقُ الإفصاحِ.. الفرج.. أنغام الألق.. فيدورُ الماءُ في الأرواحِ.. يا أملاً يقتربُ الآن.. تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ.. فتنأى أفكارُ الخيبةْ.) إن حالة التقابل هذه بين الحزن والألم، أعطى القصيدة جماليّةً ورهافةً أثرت بالمتلقي. إلا أن الشاعر استطاع برأيي أن يعتمد بحرفيّة على الصوت في تحقيق الإيقاع، فالصوت جًسًدُ الشّعر، وبه يقوم المعنى. إن المادة الصوتيّة في السياق اللغوي هي عبارة عن الأصوات المتميّزة من تعاقب الرنات المختلفة للحركات والإيقاع والشدّة وطول الأصوات وتجانس الأصوات المتحرّكة والسّاكنة ونعومتها، وغير ذلك، ممّا يثري الإيقاع ويغنيه. كما اعتمد الشاعر أيضاً على الصورة كثيراً في قصيدته بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة نغمتها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف (بالألم ورغبة الخلاص) الذي أدى إلى إعطاء قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي من صورة الوزن العروضي للبيت الشعري.
إن الشاعر بالصوت والصورة والمحسنات البيانية، أمن في أبيات قصيدته موسيقى داخليّة جميلة جداً يتساوق بناؤها مع تجربته الشعريّة.
العاطفة في القصيدة:
العاطفة هي الانفعال النفسي والوجداني المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل والتفاؤل. كما نلمس في القصيدة جانباً مضمرا يحمل هماً وطنياً إلى جانب الهم الإنساني العام.. أما دوافع عاطفة الشاعر فهي ما تعرض له وطنه وشعبه من ظلم وقهر ومعاناة خلال الأزمة التي استنزفت الكثير من مقومات الدولة والشعب منذ 2011 حتى اليوم. نعم.. هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم عام، هم وطن في دلالاته.
لغة القصيدة:
لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبه والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفة فصيحة بسيطة في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يحمل فيها آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية الهادئة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.
أخيراً نقول:
لقد كنا أمام قصيدة لشاعر، امتلك أدوات حرفته تماماً، واستطاع عبرها أن ينقلنا إلى مساحة كبيرة من الأمل والتفاؤل والمعرفة معاً.. ففي الأمل رحنا نجد أن هناك أصواتاً حرّةً في عالمنا الإنساني والوطني على وجه الخصوص، أخذت تقول بإمكانية هذا الأمل أن يزرع عندنا التفاؤل لخلق عالم أفضل. لا شك أن تمسكنا بالحب هو طريق لتجاوز معوقات هذا الواقع المرير المشبع بالقهر والظلم والفقر والجوع والغربة والدم. يقول الشاعر "علي عبد الجاسم" في الأمل القادم المشبع بالفرح:
وننتظرُ الفرحَ القادمِ
يلهمنا خيطَ تآلُفنا،
فيدورُ الماءُ في الأرواحِ
يبسَ الشوقُ بخافقها،
يا أملاً يقتربُ الآن،
تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،
فتنأى أفكارُ الخيبةْ.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.
.......................
يا زمناً أعيانا
للشاعر "علي عبد الجاسم"
موعودٌ قلبي بالخَفًقانِ
إلى حدِّ اللّوعةِ،
كيف سنخرجُ من ألمٍ عرشَ فينا؟
يمتدُ إلى ألفينِ من الأحزانْ...
سَفَراً نحو مساحاتٍ
نشتاقُ لرونقها،
كيف سنهربُ من عمقِ الأوهامِ
لنعلمَ أسرارَ الفرحِ؟.
وتلك الألوانُ القاتمةُ
انسربت في أوتار الروح المتعبةِ
أتمطُرنا أنغامُ الألقِ
بأوجِ عروجِ القلبِ؟
خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا
في وقتٍ نظريَّ
لا ينفكُ يدغدغُ أوقاتَ الروعةِ،
يتفجرُ حساً في أسرارِ ليالينا،
حانَ الآن شروقُ الإفصاحِ،
وننتظرُ الفرحَ القادمِ
يلهمنا خيطَ تآلُفنا،
فيدورُ الماءُ في الأرواحِ
يبسَ الشوقُ بخافقها،
يا أملاً يقتربُ الآن،
تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،
فتنأى أفكارُ الخيبةْ.