قراءات نقدية
زياد السامرائي: الحمار الذي هو

لم يبذل جهدًا كبيرًا وهو يعتلي إحدى تلال قريته التي اعتاد ملامحها منذ صباه، ولم يتكاسل… رغم جوعٍ عضَّه مرارًا، وعطشٍ ظلّ يجرّح داخله كحبلٍ مبلول بالملح.
لم يكن الجوع غريبًا عليه؛ الغريب كان ذلك الفراغ المتسع داخله، مذ فقد أتانه البيضاء تحت قصف مدفعي أعمى، نُسفت معه سلالات دفءٍ قديم، وأحلامٌ صغيرة بولادة جحشٍ يشبهها… أبيض، بعينين لامعتين كحلمٍ لم يكتمل.
منذ تلك الليلة، فقد شهية الطعام والشراب، وتحول نصفه حمارًا، ونصفه الآخر ألمٌ يتعفن بصمت.
عندما مرّ بعشبة ربيعية مزهرة، توقّف. كمن يستعيد وطناً من رماد. أحنى رأسه إليها بخشوع، شمّها بعمق، كأنه يريد أن يستنشق وجهها من جديد، وجه المواسم التي هجرت تلال قريته. منذ أعوام، لم تزر أنفه تلك الرائحة. رفع رأسه إلى الفراغ، كان يبحث عن شيء لا يعرفه، يسأل الغياب عن الغياب، وعندما عجز، عاد بأنفه العريض إلى العشبة، يداعبها بلطف، كأنها أنثى بين حلم وذكرى غابت عنه.
لم يتذوقها. تركها، معتقدًا أن بعض الأشياء أجمل في مكانها وأن العشب الذي يُترك للنظر خير من الذي يموت في الفم.
واصل طريقه… والمسافة إلى قمة التلة لم تكن طويلة، لكنها بدت كأنها عُمرٌ آخر. على الطريق، كانت الدجاجات يقفزن بكسلٍ، ينظرن إليه كصندوقٍ رمادي أجوف، وحتى إحداهن، أرادت أن تبيض في أذنه ذات ظهيرة، لولا صهيل الحصان الأشهب، جاره الوحيد الذي ما زال يعترف بأن الألم له اسم.
في رأسه، ارتفعت أسئلة كالعوسج:
- ماذا لو لم أكن حمارًا؟
- بل ماذا لو لم تُخلق سلالة الحمير أصلًا؟
- كيف ستحتمل قريتي المنكوبة ثقل أكياس القمح، وأحجار السواقي، والشتائم؟
- من سيحمل الهوان عنهم، ويُجلد بدلًا عنهم؟
- بماذا تحلم الحيوانات لو لم يكن بينهن حمارٌ صبورٌ مثلي؟
- كيف ستنجو سفينة نوحهن، لو غبتُ عن ظهرها؟
فكّر… بأن كل الموجودين ينتمون للهواء، وهو الوحيد الذي ينتمي للتراب.
أخذته وخزةُ هذه الأسئلة كسوطٍ، كأن وليّه القديم عاد بعصاه، يضربه في خاصرته، ويجرّ روحه خلفه على الطرقات.
كان كل ضربةٍ توقظ في جسده شهوة الركل… لكنه صبر. صبر لأن الجوع أرهف قلبه. وصبر لأن التراب حافظُ السرّ الأخير.
وعند قمة التلة بدت قريته كخرقةٍ محترقة. لم يتبقَّ من خميسة سوى دخان وأصوات بعيدة، كأن الريح تكنس ذاكرته حجرًا حجرًا.
تذكّر أم نافع… رحيمته البيضاء، أنثى حلمه التي قضت مع الجحش الذي لم يُولد. كانت تحك له ظهره بأسنانها، تغمض عينيها حين يغازلها، وتكتفي بإيماءة صغيرة فيها من القبول ما يُصلح خراب الدنيا.
الحياة دونها… ظلمةٌ واجترار. والطريق إلى الحظيرة صار أبعد. لم يعد التراب يحفظ أثر حوافرها. حتى الحصان الأشهب بات صامتًا، كأن الخسارات تعلمت كيف تصمت.
أتذكر كيف كنا نتمرغ تحت الشمس… نفتعل الفوضى، نلعب بالتراب، نخدش ظهر الأرض بأجسادنا. كان يضربنا… سيدنا الذي لم يكن سيدا سوى على أسمائنا. يضربنا ويخفي وجهه كمن يخشى أن يرى رجولته تتساقط أمام بهيمة.
لكنه كان أجبن من أن يقترب من الحصان. لطالما جرحنا ذلك… أن الألم انتقائي، وأن الوجع يعرف أين ينزل.
كنت قادرًا أن أركله بحوافري… أن أطرحه أرضًا وأكسر قفص أضلاعه… لكنني صبرت.
صبري ليس ضعفًا، بل حيلةٌ لأجل شعير الغد. غير أن صبري له حدود. موت زوجتي المبكر جعلني أؤجل مصيري معه. ربما سيأتي اليوم الذي أفجّره في جسده.
ـ لا تخف، أيها الحمار، قال لنفسه. ما زلت في مأمن من الجوع، ما دام في فمك رمق.
وعلى حين غرة تذكر حكمة أبيه الحمار الأكبر:
- إذا ما خانك صبرك، فتيقّن أنك ستطير كنورس.
ابتسم… ولم يفهمها. لأن زمن النوارس لم يصل بعد.
ولأن النوارس لا تطير إلا حين تتعب الأرض من العابرين، ظل الحمار يعدّ الأيام، يحمل أعباءه بصبرٍ معلّق على حبل ذاكرة تفور كالقَدر.
***
زياد السامرائي