قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قراءة هيرمينوطيقية تفسيريّة تربط النصّ بسياقه السيري والوجودي

لدى الشاعر إدريس جمّاع

أبدأ بتحية موجزة عن الشاعر ثم أقدّم قراءة تفصيلية للنصّ، تليها مقترح إطار تطبيقي يمكن تعميمه على نصّين آخرين من شعره (سأذكر أمثلة نصّية مع تبرير اختياري استنادًا إلى مصادر عن الشاعر).(السيميائي/الرمزيّ)، المنهج الأسلوبي/اللغوي، المنهج النفسي.

تمهيد موجز عن الشاعر وسياق نصوص الشاعر السوداني إدريس محمد جمّاع:

إدريس محمد جمّاع (1922–1980) شاعر سوداني معاصر ذائع الصيت في المجتمع السوداني، اتّسم شعره باللّسان الشفاف والوجدانية المفرطة، وقد عُرف بأنه صاحب مجموعة شعرية مجمعة ونصوص لاقت تداولاً وغناءً وحكايات شعبية حول ظروف كتابتها. ظهرت في سيرته أحداث نفسية وصحية أثّرت في مسار إنتاجه الشعري، ما يجعل قراءة نصوصه من منظورات نفسية وهيرمينوطيقية أمراً مثمراً.

- قراءة أول نصّ: نظرة إجمالية:

النصّ الأول يقوم على منعرجات عاطفية عالية: مزيج من الحنوّ، الغزل العارف، التمجيد الجمالي، والاندفاع النفسي الذي يلامس حدود الاضطراب (أو حالة وعي متشظّية). الصور تترنّح بين الفضاء السماوي والفاعلية النفسية (انكسار، استرجاع، استعصاء بالبعد). الإيقاع الخطابي يتراوح بين الهمس والكلام المفجوع ثم الصراخي أحياناً ("واستعصمت بالبُعد عنا")، وفي مقاطع أخرى يظهر تفخيم وصياغة بلاغية كلاسيكية (تورية، طباق، تشبيه ضمني).

وهذا يدفعنا لأن نحلّل النصّ من كلِّ منظورٍ بشكل مُنسّق: أولاً الأسلوبي/اللغوي، ثم الرمزي، ثم النفسي، ثم قراءة هيرمينوطيقية شاملة تربطه بسيرة الشاعر وإمكانات المعنى.

1 — المنهج الأسلوبي / اللغوي:

1. النسق الصوتي والإيقاعي.

توظيف تكرارات داخلية (مثلاً: تكرار الحرف «س/ص/ع» في أماكن مشدّدة) يخلق نغمة اشتياقٍ وصرامة.

تباين الجُمل الطويلة (متعثّرة أحياناً) مع مقاطعٍ قصيرةٍ تقطع الإيقاع وتدخِل حالة تشظّي نفسية (مثال: “أعلى الجِمال تَغارُ مِنّـا” مقارنةً بـ “أنتِ السماءٌ بدأتْ لنا”).

2. المستوى البلاغي

كثير من الاستعارات المباشرة: القراءة تقوم على تحويلات جعلت الأحاسيس أجساماً ("أعلا الجِمال تغار منا" — جمال كنشاطٍ فاعل أو غيْرة كقوّة).

الطباق والتضادّ (الروح/القدر، البعد/الاستعصام) يُستخدمان لإبراز الصراع الداخلي.

3. اللغة والصياغة.

لغةٍ بسيطةٍ ظاهرياً لكنها محمّلة بالانثناءات الدلالية؛ تفضّل المباشرة الوجدانية على التعقيد التصوريّ.

توظيف الضمائر (أنتِ/أنا/نحن) يخلق ديناميكية علاقية؛ الضمير المخاطَب "أنت" يتوسّط المشهد كنقطة محورية يُنحو إليها كل معنى.

4. التركيب السردي.

النص لا يتّبع خطّاً سرديّاً تقليدياً بل هو موجة انفعالية: افتتاحية (مديح/تقريظ) → تعميق حالة الفقد/البُعد → صور قتالية (السيف) → خاتمة تعاود الحديث بصيغة تأمّلية أو استنطاقٍ جماعي (“ثم قالوا…”).

- الاستنتاج الأسلوبي: الشاعر إدريس محمد جمّاع يوظّف لغةٍ قريبة من الفصحى المحكية المشبعة بالصور، فيعمل تقابل الصوت والإيقاع مع البنية الدلالية لخلق تجربة وجدانية مباشرة لكنها مركّبة.

2 - المنهج الرمزي / السيميائي.

أقوم هنا بفك رموز المفردات والصور الكبرى في النص وربطها بمخزون دلالي ثقافي وإنساني.

1. السماء / الأعلى / الجِمال

- السماء: رمزٌ مألوف للعلو، المالاها، الحاجة إلى الفوران الروحي، وأيضاً للبعد/الغياب. دعوة الشاعر للمخاطبة "أنتِ السماء" تُحول الحبيبة إلى سماءٍ متعالية — رمز متناقض: هي حاضرة ككيانٍ لكنه بعيدة.

"أعلى الجِمال تغار مِنّـا": الجمل (أو الجِمال هنا قد تعني: "أعلا الجمال") كشخصنة للجمال الذي يحسّ بالغيرة — رمز للاعتراف بقوة الحب/الجمال الإنساني على الكون ذاته.

2. البعد والاستعصام

البُعد هنا لا يقرّ كظرف مكاني فقط بل كقوّةٍ تعصي على المخاطَب إمكانية الاقتراب؛ استعصام البُعد يُرمز لعائق داخلي (حاجز نفسي أو مرضي أو غياب أخلاقي/اجتماعي) يحول دون التلاقح.

3. السيف

- السيف كلاسيكياً رمز للقوّة، لكن الشطر "والسّيف في الغمد لا تُخشى مضاربه" يقدّم تناقضاً: سلاح كامن، قوة مقبلة لكنها غير منظورة؛ وربما تُشير إلى عنفٍ مكبوت في الشخصية أو في المجتمع؛ أو إلى قدرة العين (“وسيف عينيك”) على التأثير أقوى من السيف الماديّ. تحويل العين إلى سيف (استعارة متحركة) يربط بين البصر والرغبة القاتلة/المغيرة.

4. القصّة/التصرّف الجماعي في النهاية:

“ثم قالوا ... ثم قالوا اتركوه” — تكرار الأفعال الجماعية يعطي انطباعاً عن حكمٍ اجتماعيّ/طبيعي على حالة الشاعر: إما تحيّز أو رفض، إدانة أو استسلام. يمكن قراءة هذا الرمز كدلالة على المجتمع الذي لا يفهم الجنون/الحب المطلق ويقرر إبعاده.

- الاستنتاج الرمزي: النص مبني على رموز تقليدية (سماء، سيف، جمال) لكنها تُستخدم بشكل يحوّل الحضور العاطفي إلى صراع بين الحرارة الداخلية وقسوة الواقع/البعد، ويحوّل العين إلى أداة قادرة على الجرح أو الفتك — تصوير يربط الحب بالتهديد والجنون.

3 - المنهج النفسي (قراءة عميقة داخلية):

هنا نقرَؤُه كنصّ يعبّر عن نفسية مُشخّصة/ممزقة، ويمكن الاستفادة من مفاهيم من التحليل النفسي (لا فرويدية بالضرورة بل قراءات وجودية).

1. الاندفاع العاطفي كعلامة اضطراب:

الجمل العامّة في النص: تعدّد التناقضات، القفز بين الصور الكبيرة والحسيّة (السماء مقابل السيف)، ووجود أحكامٍ خارجية ("ثم قالوا")، يُشير إلى وعي مشتّت أو تحولات مزاجية قوية. هذا يتوافق مع سردات عن مرض الشاعر في نهاية حياته—حيث تُذكر له اضطرابات وعي.

2. التحويل، والتحوّل الجنسي/الجمالي:

الشاعر يحوّل ألم العجز أو الوحدة إلى نشوة جمالية؛ الحب/السمَاء يصبحان متنفساً/مُخدّراً من الألم النفسي.

3. العين كغريزة/قوة كاشفة، يقول:

"وسيف عينيك" ترمز لما يلجمه النظر من طاقة إثارة وتدمير في آنٍ واحد؛ العين هنا ليست مجرد حاسة بل فعل نفسي (نظرةٌ تُذهب العقل). هذا يتلاءم مع روايات شعبية حول افتتان الشاعر بعيون ممرضة أو امرأة ساعدت في تدهوره النفسي (حكايات راجت حول حياته).

4. الانعزال والاغتراب، يقول إدريس جمّاع:

"واستعصمت بالبُعد" و"ثم قالوا اتركوه" يعطي انطباع التهميش الاجتماعي والاغتراب الذي قد يسهم في تطويع الهذيان أو الشعر كملجأ.

الاستنتاج النفسي: النص ليس مجرد نشيد غزل، بل هو كشف لنفسية مهاجمة للذات وللآخر، حيث يتحوّل الحب إلى فيضان يحطم توازن الفاعل النفسي. قراءة نفسية تربط النص بتاريخ الشاعر الصحي تفتح أبواباً لتفسير إبداعيّ يصبح الشعر فيه علاجاً واعتلالاً في آن.

4 - القراءة الهيرمينوطيقية (تأويل شامل وربطه بالسياق):

الهيرمينوطيقيا تهدف لقراءة النص كحلقة ضمن سلسلة معانٍ: النص، المؤلف، القرّاء، والسياق التاريخي/الاجتماعي.

1. النص كمرآة للسيرة محسوبة):

بما أن الشاعر معروف بمعاناته النفسية في سنواته الأخيرة وبقصص افتتانه وحالات طبية، فإن كثيراً من قراءات الصور (العين التي تُذهب العقل، الاستعصاء بالبعد، الأحكام الاجتماعية) يمكنُ أن تُقرَأ كإشارات هيرمينوطيقية إلى مصير الشاعر وحكم المجتمع/العائلة على حالته. مع ذلك، على القارئ أن يحذر من الإفراط في التقريرية البيوغرافية: النص كيانٌ مستقل له دلالاته.

2. نصّية الحب والجنون كثيمة مركزية:

ثيمة الحب الذي "يذهب العقل" تظهر في الثقافة العربية (أغاني، نصوص)، لكن هنا تتحوّل إلى حالة وجودية فيها تداخل بين الجمال/الهوى والتهديد/الجنون. هذا يعطي النص طابعاً كلاسيكياً وحداثياً في آن: كلاسيكي في الرموز، وحداثيّ في التشظّي النفسي والوعي الذاتي.

3. السياق الثقافي والاجتماعي:

المجتمع (العائلة/الناس) يظهر كجهة تقرر: "ثم قالوا... اتركوه"، ما يفرض قراءة اجتماعية انتقادية: كيف يتعامل المجتمع مع العبقرية والانفعال؟ هل هو ردّ فعل دفاعي ضد اللامألوف؟ الهيرمينوطيقيا تدعو لعرض النص في مواجهة هذا السؤال.

4. افتتاحيات للنصوص الأخرى:

إذا أردنا أن نضع النص في سلسلة مع قصائد أخرى لإدريس جمّاع (مثل "في ربيع الحب" أو "اللحظات الخالدة" — عناوين معروفة/منقولة في مراجع عن ديوانه)، فسنجد تكرار ثيمات العشق، الجمال، الوحدة، والانزلاق النفسي.

- الاستنتاج الهيرمينوطيقي: النص يعلن عن تجربة إنسانية مركّبة — حب وجمال يقابلهما إساءة فهم/رفض اجتماعي، وهو ما يفسّر تردّد السيرة والميثولوجيا المحيطة بالشاعر بعد موته.

5 — مخارج نقدية وتوصيات بحثية لدراسة البنية النقدية التحليلية، يمكن تعميمها على ثلاثة نصوص — النصّ المرسل + نصّين آخرين من شعر إدريس جمّاع،  وقراءة أسلوبية مفصّلة للنصّ الأول الذي انتهجنا فيه تحليل مفردات، إيقاع، ترتيب جمل، بلاغة، علاقات الضمائر.وتتبعنا قراءة رمزية، وفهرسة الرموز الكبرى (السماء، العين/السيف، الجمال، البعد) وربطها بمصادر ثقافية عربية/سودانية.

إضافةإلى قراءة نفسية واستخدام نظريات نفسية (تحويل، انفعال، اضطراب ذهانيّ/حدّية) لتفسير آليات التعبير في النص وربطها بحياة الشاعر (مع ملاحظة حدود المنهج البيوغرافي).

- أما في سياق هيرمينوطيقيا وسياق النص واللقى الاجتماعي، الأسطورة حول الشاعر، وعدد من المقاربات النقدية المقارنة (مثلاً مقارنة مع شعراء سودانيين معاصرين أو مدرسة التجريب الشعري العربي). ودراسة مقارنة بين ثلاث نصوص من شيوعها في مصادر ودواوين إدريس محمد جمّاع:

"في ربيع الحب" (أو نصّ بعنوان مشابه في مجموعته) — لقراءة إشراقات الحب والربيع.

الجدير بالذكر أن للشاعر إدريس جمّاع ديوان بعنوان :"اللحظات الخالدة/اللحظات الأخيرة" (عنوان المجموعة/قصيدة مرجعية) — لقراءة موضوعات الختام والذاكرة والجنون.

لكل نصّ من النصّين: نطبق نفس المصفوفة: أسلوبي → رمزي → نفسي → هيرمينوطيقيّ، ثم نخرج بمقارنة تكشف التحولات الموضعية في المرثية، الحب، والعلاقة بالمجتمع. وهنا أعرض مثالين تطبيقيين مختصرين من التحليل التفصيلي لمقتطفين في نصّ الشاعر إدريس جمّاع

1. المقطع:

"أعلى الجِمال تَغارُ مِنّـا

ماذا علينا إذ نظرنا"

-أسلوبياً: تركيب تكراري يثبّت الفاعل (الجِمال/الجمال) ويحوّله إلى فاعل غيور — عملية تجميل توحي بعظمة النفس العاشقة.

- رمزياً: الغيرة هنا صفة الجمال ذاته؛ الشاعر يرفع حبه إلى مرتبة تنازع الجمال الكوني.

-نفسياً: وتعكس حالة تضخم نفسي (إجراء مشابه لعرض النرجسية العاشقة).

2. المقطع:

"وسيف عينيك في الحالَتَيْنِ بتّـار"

- قراءة: استعارة مركّبة (العين → سيف؛ السيف → بتّار/قاطع). تحوّل البصر إلى فعل مدمر/فاعل، ما يعكس الخطر المتأصل في النظرة العاشقة، وربما دليلًا على فقدان السيطرة الذي يصفه الشاعر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

النص الأول للشاعر إدريس جمّاع:

ﺃﻋَﻠﻰ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺗﻐﺎﺭُ ﻣِﻨّﺎ

ﻣﺎﺫﺍ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺇﺫْ ﻧﻈﺮﻧﺎ

ﻫﻲَ ﻧﻈﺮﺓٌ ﺗُﻨﺴِﻲ ﺍﻟﻮَﻗﺎﺭَ

ﻭﺗُﺴﻌِﺪ ﺍﻟﺮّﻭﺡَ ﺍﻟﻤُﻌﻧَّﻰ

ﺩﻧﻴﺎﻱ ﺃﻧﺕِ ﻭﻓﺮﺣﺘﻲ

ﻭﻣُﻧَﻰ ﺍﻟﻔﺆﺍﺩِ ﺇﺫﺍ ﺗَﻤﻧَّﻰ

أﻧﺕِ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀُ ﺑَﺪَﺕ ﻟﻨﺍ

ﻭﺍﺳﺘﻌﺼﻤﺖ ﺑﺎﻟﺒُﻌﺪِ ﻋﻧَّﺎ

النص الثاني:

ﻭﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻤﺪِ ﻻ ﺗُﺨﺷَﻰ ﻣﻀﺎﺭﺑُﻪ

ﻭﺳﻴﻒُ ﻋﻴﻨﻴﻚِ ﻓﻲ ﺍلحالتين ﺑﺘّﺎﺭ

النص الثالث:

إﻥ ﺣﻈﻲ ﻛﺪٓﻗﻴﻖٍ ﻓﻮﻕٓ ﺷﻮﻙٍ ﻧﺜﺮﻭه

ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﻟِﺤُﻔﺎﺓٍ ﻳﻮﻡَ ﺭﻳﺢٍ ﺍﺟﻤﻌﻮﻩ

ﻋَﻈِﻢ ﺍﻷﻣﺮُ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺛﻢ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺍﺗﺮﻛﻮﻩ

ﺇﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﻘﺎﻩُ ﺭﺑﻲ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﺘﻢ ﺗُﺴﻌﺪﻭه...

في المثقف اليوم