قراءات نقدية
سهيل الزهاوي: ومضة الهوية.. صراع الذات والوطن في النص الشعري

للشاعر الكبير يحيى السماوي
المقدمة: تستعرض هذه الدراسة تجربة الاغتراب والانفصال عن الجذور الحضارية كما تعكسها القصيدة "ومضة" للشاعر القدير يحيى السماوي، حيث يتحول التفكك النفسي إلى موت رمزي للهوية الشخصية. تهدف الدراسة إلى تحليل البيتين من الومضة عبر استكشاف الأبعاد البلاغية، البنيوية، والدلالية، مستندة إلى فرضية مفادها أن انفصال الذات عن فضاء "وادي الرافدين" لا يعبر فقط عن تحرك جغرافي، بل يشكل إعلانًا عن زوال وجود ثقافي ونفسي يسبق الموت الجسدي.
تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور أساسية:
أولًا، التحقيق في الجذور اللغوية للتوازي بين الفعلين "استراح" و"استرحتُ"، مع إبراز دلالاتهما الرمزية ضمن السياق الشعري.
ثانيًا، تحليل بنيوي يركز على العلاقة التصاعدية بين عناصر الوطن والذات، مع دراسة التتابع الدرامي في ترتيب الأبيات لتوضيح ديناميكية الحوار الذاتي الداخلي.
ثالثًا، قراءة سيميائية للمفاتيح الرمزية في النص (مثل الوطن، الخيمة، الموت) بهدف رسم خريطة إشارات تُعمّق تجربة الاغتراب.
رابعًا، دراسة عملية إزاحة المعاني واستثمار الاستعارات المركزية في صياغة تصويرية لحالة التشرد وفقدان الهوية.
تتبع منهجية البحث نهجًا وصفيًا تحليليًا، حيث يُقدم النص بتحليل أولي ثم تُفسر دلالاته بالاعتماد على مناهج النقد البنيوي والسيميائي مع عرض أمثلة تطبيقية مأخوذة من الشعر. في ختام الدراسة، تُستخلص نتائج أدبية وثقافية تثري فهم العلاقة بين الإنسان وأرضه وتراثه الحضاري. مع مقدمة وخاتمة
ومـضـة
الـوطـنُ اسـتـراحَ مـنـي..
وأنـا اسـتـرحـتُ..
*
فإنـنـي مـنـذ نصبتُ خيمتي
في غيرِ وادي الرافدينِ:
مُـتُّ !
1. فك رموز الأبيات
في البيت الأول، لا يتناول الشاعر "الراحة" بالمعنى الحرفي، بل يقدّم مفهومًا مقلوبًا في علاقة الذات بالوطن. هنا، الوطن يستريح من الشاعر كما استراح الشاعر من الوطن. يشير هذا إلى أن العلاقة بين الشاعر وموطنه قد تعرّضت للخلل، فالمفروض أن "الراحة" تكون حالة متبادلة، لكن الشاعر يعبر عن عدم الراحة في صميم هذه العلاقة.
أما في البيت الثاني، فـ"نصب الخيمة" هو عنصر رمزي قوي يشير إلى التشتت والاغتراب. فقد كان من المفترض أن يستقر الشاعر في وطنه الأصلي (وادي الرافدين) ولكنه اختار الخيمة، التي تمثل موقفي الترحال والانقطاع. الخيمة هي تذكير بمؤقتية الاستقرار والهوية الضائعة.
2. التحليل البنيوي
القصيدة تركز على ثنائية "وطن – ذات"، وهذه الثنائية تكشف عن الصراع الداخلي للشاعر بين الانتماء إلى أرضه واغتراب ذاته. التباين بين مفهوم الوطن واحتياجات الذات يخلق حالة من التوتر الدائم، حيث يبحث الشاعر عن مكان يحقق فيه توازنه الشخصي، بينما ترفض الأرض أن تكون ملاذًا له.
ترتيب الأبيات يعزز من فكرة التصاعد الدرامي، حيث يبدأ الأمر بمفارقة تثير الصدمة، ثم ينتقل إلى حالة من السكون (الراحة)، ليحدث التحول الجذري في النهاية، حيث يعلن الشاعر عن "موت" رمزي.
3. التحليل السيميائي
في هذا السياق، "الوطن" لا يقتصر على كونه مكانًا جغرافيًا، بل يتخذ طابعًا أعمق مرتبطًا بالأمن النفسي والانتماء الثقافي والتاريخي. كما أن "الخيمة" تصبح استعارة للهوية المشتتة والضياع في المنافي، فهي ليست رمزًا للاستقرار، بل هي دالة على الافتقار إلى الجذور والهوية الثابتة.
أما "الموت" فهو ليس موتًا جسديًا، بل موتٌ للهوية أو فَقدٌ للانتماء، الأمر الذي يعكس حجم الأثر الكبير للاغتراب على الذات.
4. الدلالة الإزاحية
يتمكن الشاعر من إزاحة معاني الكلمات العادية وتوجيهها نحو سياقات ذات دلالات أعمق. "الراحة" التي يتم الحديث عنها لا تتعلق بتوقف الجسد عن التعب، بل ترتبط بالموت الرمزي. كما أن "نصب الخيمة" في مكان آخر غير "وادي الرافدين" يعني رفض الشاعر للانتماء التقليدي. هو لا يختار الهجرة من وطنه فحسب، بل يختار فقدان الهوية التي يمثلها هذا الوادي.
5. الاستعارات
- الوطن كمصدر للراحة: استعارة توضح أن الوطن في ذاكرة الشاعر ليس مجرد مكان يعيش فيه، بل هو "حضن" روحاني يشعر فيه بالسلام الداخلي.
- الخيمة كذات شاردة: استعارة تعبر عن حالة من الضياع والاغتراب، حيث لا يوجد مكان ثابت للذات في الخارج.
- الوادي كمهد للإنسانية: استعارة تشير إلى أن وادي الرافدين يمثل بداية التاريخ والجذور العميقة للإنسانية، وهو المكان الذي يعكس الاستقرار والتقاليد.
6. الاستنتاج النهائي
القصيدة تُصور كيف أن اغتراب الشاعر عن "وادي الرافدين" لا يمثل مجرد ابتعاد عن مكان جغرافي، بل هو قطع للصلة بالجذور التاريخية والثقافية. هذا الانقطاع يخلق موتًا رمزيًا في هوية الشاعر، مما يعبّر عن فجيعة الاغتراب الذي لا يقتصر على بعد جغرافي بل يمتد ليشمل التدمير الروحي.
7. استخلاص العبر
- الانتماء لا يُفصَل عن الهوية: إذا قُطِعَت الجذور، فإن الذات تصبح ميتة رمزيًا. التفريط في الروابط الثقافية يؤدي إلى موت أكثر قسوة من الموت الجسدي.
- الاغتراب كحكم مبكر على الذات: يؤدي الاغتراب عن الوطن إلى "إعدام" الهوية الثقافية في الخارج، ويعكس هذا كيف يمكن للإنسان أن يفقد جزءًا من ذاته في الرحيل.
خاتمة
تُظهر نتائج هذا البحث أن قصيدة “ومضة” لا تكتفي بوصف حالة اغترابٍ سطحية، بل تُمثِّل انتحارًا رمزيًّا للهوية كلما فُصِمَت الصلة بالأصل. إن المعالجات البلاغية—من توازي الأفعال إلى توظيف الخيمة والموت كعلامات—تبني سردًا دراميًّا يتدرج من الراحة الزائفة إلى الموت الحقيقي للذات. ومن ذلك نخلص إلى أن النص يؤكد على أنّ الانتماء ليس امتيازًا جغرافيًّا فحسب، بل ضرورة وجودية وحضارية لا يمكن تجاوزها دون دفع ثمنٍ ثقافي ونفسي باهِظ. هذه الدراسة تدعو إلى مزيد من المقارنات مع نصوص المهجرية العربية ونماذج أدبية عالمية تناولت الاغتراب الرمزي، لتوسيع آفاق فهم تأثير التشرد على تكوين الذات الشعري.
***
سهيل الزهاوي