قراءات نقدية

زهير ياسين شليبه: بنية رواية نافذة العنكبوت للروائي العراقي شاكر نوري (3)

أهم ما يمز بنية هذه الرواية هو المونولوج غير التقليدي الذي تعودنا عليه في السبعينات. المونولوج هنا مناجاة الأم، هنا يأتي دورها كما أشرنا، صوت الوالدة العراقية فيه نغمة خاصة، معبّر عن سردية أنثوية عراقية، إنه مساهمة كبيرة في عالم تعدد الأصوات في هذه الرواية، يجسد تاريخ الهم العراقي، صوتٌ يتميز بوضوح الألم ونبرة الحزن، كله شجن، نواح، بكاء، سرد جميل جدا. إنها سردية الأم التي ترى الأمور بطريقةٍ أخرى. ص 149 تسأل ابنَها العريس العنّين: "ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة". ص 150

وتتداخل "سردية" العروس أو تختلط مع مداخلات أم عبد الرحمن "نظرت الزوجة (يقصد شيرين) إلى التقويم الشهري ...صورة زوجها ببزته العسكرية... العروس شيرين... اعتصمت...ارتدت ثوبا أسودَ". ص 151-150

عند بداية المونولوجات يتداخل صوت والدة الجندي المقتول مع صوت أم المحتضر عبد الرحمن بشكل بارع لكنه يحتاج إلى قارئ متانٍّ، لهذا قد يتساءل عمّن يدور الحديث؟ من هي التي استلمت البرقية؟ فيتضح أنها والدة الجندي صديق شيرين أو "زوجها" المقتول في الجبهة لأن الحدث قديم يتم استذكاره. ص 152

إذن سردية عبد الرحمن بأنه أراد أن يستر شيرين ليس بالضرورة دقيقة، قد تكون هلوسة وتبريرات، مجرد ادّعاء، ليغطي "عجزه" مثلًا!

وإن شيرين ليست عذراء، بل إنها وبحسب رواية عبد الرحمن حبلت من صديقه الجندي القتيل، وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: إنه زوجها فلماذا يجب عليه أن يسترها؟ قد يكون الجواب هو: هذا أسلوب الكاتب في الغموض أو "خلط الأوراق" والتبريرات، لو كان خطيبها فحسب بدون عقد زواج شرعي لأصبحت الحبكة أكثر منطقية!

إنها مشكلة اجتماعية تقليدية كُرّستْ لها العديد من النتاجات الروائية والمسرحيات والأفلام العربية الاستهلاكية.

وقد أجابنا الكاتب على هذا السؤال قائلاً: "موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضًا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر".

لا سيما أن غموضًا آخرَ يحفز القارئ على طرح السؤال ويتطلب التركيز لفهم الحبكة، سرد جميل ومونولوج متداخلان تشترك فيه عدة شخصيات يبدأ بإيضاح العقدة والأسرار لكنها قد لا تتعدى الادعاءات لتبرير المواقف وحفظ ماء الوجه بالذات بالنسبة لعجز عبد الرحمن وجنين العروس: نقرأ في الرواية: "خرجت أم الجندي من غرفتها تصرخ: ابني ابني" ص 151 بينما تسأل أم عبد الرحمن ابنها العريس العاجز: "لماذا كنت تنظر لأخيك الكبير نظرات ريبة؟". ص 152

مونولوجات واعترافات متداخلة لتبين الحقائق لكنها تزيد الغموض. لاحظ تجسيد مآسي أمهات الجنود العراقيين!

حوار بين الأم وابنها المحتضر، عبد الرحمن يتحدث في مونولوجه عن حياته والحرب كجندي، ويفسر سبب عجزه الحقيقي لإصابته بشظايا وعن شيرين التي أحبها لكنها تحبل من صديق لها، جندي يموت في الجبهة، فيقرر أن يسترها، ويعلّق على "رواية" أخيه الكبير قرأها واختلف معه في أحداثها! سرد رائع، متجدد ومتناسب مع بنية الرواية المتعددة والمتنوعة!

ولا بدّ أن نشير إلى أن أسلوب الكاتب هنا في التمهيد لبداية نهاية الرواية يتميز بمونولوج طويل من ص141 إلى ص 167 يتضمن حواراتٍ جميلةً بين الأم وابنها المريض وطريح الفراش والعروس شيرين ومولودها الرمز والأخ الكبير. وتتضح في هذه السردية الهجينة كما قلنا أهم الحقائق:

العريس المريض يتحدث عن نفسه وعجزه ويتضح انه عاجز ليس بسبب طفولته بل شظايا دخلت قضيبه.

يبدأ المونولوج هنا بين الأم وابنها العريس وهو على فراش الموت: "قل لي أي شيء قل لي عبد الرحمن لم اكن أطلب منك أن تصبح بطلا لكنك بطل .... ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة التي كنت تحلم بتمثيلها على المسرح". ص 150

وهنا يتداخل سرد آخر بين الزوجة والأم ينقلنا الكاتب ببراعة إلى شيرين عندما كانت (زوجة الجندي) تتحدث مع والدته أثناء استلامهما برقية وفاته. ص 152 لكن، في هذه الأثناء تواصل أم عبد الرحمن حوارَها مع ابنها ومناجاته قبل أن يرحل عنها، يقول لها: " كنت في بطنك عندما انغرست في صدره (والده) رصاصات عدوه". ص 153

في "نزوة الموت" تحضر أيضا إحدى فرضيات موت الأب بينما كان ابنه البطل جنينًا في بطن امه. ص 153

لماذا تتكرر هذه الواقعة؟ إنها أليغوريا الموت الذي أهلك العراقيين! كأن الموت بطل من أبطال الرواية، أو أحد أعمدتها ورمز الحياة العراقية!

الموت! الموت! إنه الغياب والآلام، ابتلى به العراقيون منذ العهود القديمة وحروبهم الشرسة، يمارس الموت حضورَه هنا ايضاً. ص 154

البرقية والحلم عمودان مهمان تقف عليهما بنية هذه الرواية كما هو الحال في رواية "نزوة الموت"، حيث يقول البطل العائد من فرنسا لينقل رفات أبيه: "الخطيئة ابتدأت منذ اليوم الذي استلمت فيه برقية من أمي". ص 93

أما الزمان فيصوره الكاتب بوضوح من خلال أبطال الرواية الجنود: زوج شيرين الأول المقتول في الجبهة وبرقية الشؤم التي تعلن هذا الخبر المشؤوم، ونعيق الغربان فوقهم، وعريس شيرين الحالي الذي يعاني من عجز جنسي بسبب الحرب، "لا أعتقد بوقوع حرب أخرى بعد هاتين الحربين". ص 100

وإذا أردنا الحديث عن البنية، فلا بد لنا أيضًا من الإشارة إلى أن الكاتب يأخذ بيد القارئ بسلاسة لتبدأ نهاية المأساة، إن صح القول مجازًا فنحن أمام رواية غير تقليدية لا تلتزم بالمقومات المعروفة ولا بالأبعاد الثلاثة.

تدخل على الخط في السرد هنا شخصية عبد الرحمن نفسه، بطريقة رائعة لتتحقق البوليفونيا!

يعاني عبد الرحمن من الحُمّى ثم يموت! ص 148 تنتهي هذه الرواية بطريقة تتناسب مع بنيتها التي اعتمدت في النهاية على حوارات افراد العائلة وذكرياتهم.

تعتمد البنية بالأساس على تطور الأحداث ارتباطا بحياة الجنين وعمره داخل بطن شيرين كل شهر له فصل فهي تتكون من تسعة فصول لكل فصل عنوان يدل على محتواه. نظرة تجديدية في ابتكار بنية محدثة!

يلعب طائر البوم دوره في تطور الحدث وتصاعده بحيث يجعل البنية أكثر حيوية، ويبدأ بلوغ ذروة المضمون (ص 150) بقدوم ساعي البريد والبرقية كما هو الحال في "نزوة الموت" وكما أشرنا سابقًا في مقالنا هذا.

إنه موقف مثرٍ ومهم في بنية الرواية كأنه مشهد فيلم روائي!

"ظهر ساعي البريد ... برقية البرقيات مخيفة دائما مثل نعيب البوم تحمل فأل الشر قرأ اسم زوجها أصبح في قائمة المفقودين... ". ص 151

إنها ليست رواية بحبكة تقليدية، ولهذا تظهر هنا تساؤلات من المتلقي العادي موجهة للكاتب، إنها عصية الفهم على القارئ العادي، وليس هناك ضيرًا، لكن لا بأس من التوضيح أحيانًا بكلمة واحدة قد تنقذ الموقف ولا تُسيء للسرد.

لنلاحظ مرّةً أخرى كيف تتداخل الأصوات والسرديات المتنوعة في هذه الرواية، يترك الجندي المريض المحتضر، وصيتَه إلى أخيه. ص 156

إن الوصية، عمليًا، مخطوط صغير آخر يختلف عما كتبه ويكتبه الراوي الأصلي الذي لم يعد ساردًا عليمًا، يقول: " من حقي أن أسرد قصتي، ومن حق أمي وشيرين أن تسردا قصتهما" ص 156، فيشرح قصتهما، بينما شيرين تقرأ "مخطوطته" عند تعبه بسبب مرضه، ويتضح أنها (شيرين) كانت تحب شخصًا آخرَ غير عبد الرحمن و"حملت منه جنينها ...". ص 159

وهكذا فإن السرد الأخير يحصل فيه بعض "التشويش" والارتدادات بسبب تداخل أربع سرديات مثل:

- سردية الأخ الكبير، السارد الأصلي الفنطازي يستخدم رمزية العناكب والمضاجعة والعلاقة مع شيرين "العنكبوت" وقتلها بالسيف في نهاية الرواية، وقصة عجز عبد الرحمن منذ طفولته.

- سردية عبد الرحمن هي في حقيقة الأمر "وصيته" المكتوبة، يسردَها ويحكيها مؤلفها حيث يصورّ أخطاء مخطوطة أخيه ويعلّق عليها وتحريريا حيث تقرأها شيرين.

- سردية والدة عبد الرحمن وسردية شيرين التي تصلنا على شكل مداخلات.

- أما السرد عن برقية الجندي القتيل! فهو مجرد غموض مقصود من الكاتب يتطلب قراءة متأنية وتفاعل القارئ مع الأفكار بطريقة إبداعية.

هل هي حكاية أو اعتراف عبد الرحمن بأن شيرين حامل من الجندي الميت المقتول في الحرب؟ أم أن الجنين من أخيه؟ هل الجنين (الشبيه) ابن الجندي أم ابن الراوي الأول أخيه (الكبير)؟ غير واضح، وبقيت الامور غير واضحة حتى في آخر صفحة في الرواية. أنظر ص 167

ليس المهم مَن الفاعل بل الأهم الاستفادة من دروس الماضي ونبذ الحروب وتحقيق الاستقرار والحفاظ على أرواح البشر!

نهاية الرواية:

النهاية لوحدها لها معمارها الخاص، تعتمد على مونولوج الأم وحوارها مع الابن الكبير وذكريات عن المرحوم عبد الرحمن. ص 150

طائر البوم عن طفولة عبد الرحمن وخدمته العسكرية، أسلوب رائع، عبد الرحمن العنّين يكتب عن نفسه. ص 155 ويطّلع عليها اخوه الكبير. إذن نحن الآن أمام ساردين عليمين لكل منهما سرديته الخاصة به، فيتحقّقَ التناص وتتداخل هاتان المخطوطتان. ويفاجئنا الكاتب بساردَتين أخريين، تسرد الأم روايتها، والزوجة شيرين لها أيضًا رؤيتها الخاصة بها تعبر عنها في "سرديتها"، أو قسمًا من المخطوطة، فهُما تشتركان فيها

وكأننا نقرأ "مناحةً" عراقية نسائيةً بامتياز!  أنظر الصفحات 149-155

أخيرًا لا بدّ لنا من القول إن بنية نهاية الرواية بدءًا من تمهيدها إلى الذروة تتسم باعترافاتٍ مسهبةٍ بلغة تتداخل فيها الأصوات والحقائق، يساهم القارئ الفطِن في إعادة ترتيبها نتيجة عند تفاعله مع النص أثناء القراءة.

إنه سرد سيمفوني رائع على امتداد عدة صفحات. أنظر 149- 167

إنها سيناريو جدي لفيلم اجتماعي عن مأساة المجتمع العربي: العذرية والعفّة وليلة الدخلة!

تنتهي ذروة النهاية بوصف رائع جدا لولادة شيرين وليدها الجديد، ص 142 وتقدمه الأم بعملية التوليد، قائلةً: "يشبه أباه" ص 143 لكنها تشك بالأخ الكبير، صرخت في وجهه وكأننا أمام مشهد مسرحي أو لقطة سينمائية معبّرة: "أنت"! ص 143

في المقابل يضمحل العريس المريض ويعاني من الحمى والكوابيس ويتحدث عن الموت، وهي موضوعة الكاتب نفسها في "نزوة الموت" عندما يتساءل السارد: "ما شكل الموت" ص 147 تحولت شيرين في الحلم إلى عنكبوت ضخم يخنقه. العنكبوت تمارس مع الذكر مرة واحدة وتخنقه ويموت عبد الرحمن!

لكن المولود العراقي الجديد يكمّل المنظومة الأليغورية في هذه الرواية، فيُجسّدُ "أليغوريا" الحياة بغض النظر عن هوية والده المجهولة، وتبقى الأفكار حيّةً متوهجةً تبعثُ وميضها في أذهان قرائها من الأجيال القادمة التي عليها استخلاص العِبر من مآسي الحرب!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.......................

1- شاكر نوري. نافذة العنكبوت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2000

2- زكية خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفينكس للنشر والتوزيع القاهره 2017

وأنظر دراستنا الموسعة عنها: د. زهير ياسين شليبه. قراءة في رواية " سري الخطير" لزكيه خيرهم. جريدة المثقف. 24 ايار 2023

3- د. زهير ياسين شليبه. غائب طعمه فرمان. دراسة نقديه مقارنة. دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996

ومقالنا: قراءة في رواية زينب للدكتور عارف الساعدي. جريدة المثقف. ديسمبر/ كانون الأول 2023

4- أنظر: حوارنا مع الكاتب شاكر نوري. ملحق القبس الثقافي 04 مايو/ أيّار 2024

في المثقف اليوم