قراءات نقدية
عيال الظالمي: الغضب في الشعر العراقي.. صالح رحيم انموذجاً

من خلال استقرائي لنصوص الشاعر (صالح رحيم) والتي انطوت على تكوينه كانسان وحالات الغضب التي تعتريه من جراء الإثارة التي تتعارض مع تطوره الفكري، وبدوافع مختلفة ولدت لديه ردود أفعال أزاءها، فقد غلب على طرحه الفنتازيا المبطنة، والرفض، والغضب، والشدة، فهو المؤرق من قضايا أججت به البحث عن الحلول التي يراها من الضروب المستحيلة، مما أدى به إلى وضع نفسي مرتبك، فالغضب عند القدماء ممن ينشدون الشعر، يأتي ما بين التهديد والوعيد ودعوة الخاطئ إلى الصلاح، فصالح يرى أن الظروف المحيطة لا تلتزم بحدود ولا في الأفق إلى إصلاح، وقد استنفذ صبره وقد تعالت ثورته الذاتية فأنشد نشيده الغاضب، وذلك للتمادي على كينونته وعدم مراعاة الحقوق، فقد أُهينت القيم العليا لذا فمقدار ما ضاع خلال سيره الجديد في دروب الحياة استنفر طاقته ليقول على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو يمتلك الشجاعة لطرح أفكاره ومقدار الحمية التي يحمل للذود عما يؤمن به، فما تعرض له من تجريح وطعن وغبن وانتقاص في الحقوق فجر به غضب الماء لإشباع الداخل بثورة نفسية طاغية على ما أنتج من كتب أدبية شعرية وسردية في المشهد الثقافي العراقي، فكانت ثلاث كتب بعناوين لافتة، تنم عن مكنوناته النفسية وتعامله مع ما يؤثر في شخصيته وحياته المعيشية وتطلعاته وطرق كتابته، فهي على التوالي مجموعة شعرية نثرية (ريشة لطائر منقرض) ومجموعة شعرية نثرية (أهناك مَن يرى؟) وكتاب سردي يقع ضمن الكتب السير شخصية بعنوان (ليس للأسى نبع)، ونظرا لرغبة في المشاركة بمهرجان المربد العالمي، آليت أن أكتب هذا البحث على عجالة، فالغضب لا توجد دراسات كثيرة ومعمقة في تناوله، ولم يخضع للدرس الأكاديمي الأدبي، فقد وجدت أنه نوقش من جوانب مرضية في علم النفس، ومستهجن في الآيدلوجية التقليدية الإجتماعية والدينية ومنهى عنه، فقد قيل في الغضب:
-الغضب يفسد المزاج ويغير الخلق ويسيء العشرة، ويفسد المودة ويقطع الصلة.
-يعصرني غضب أحمق على نفسي أنني أفسد كل شيء واحرق من خلفي المراكب
- الغضب ريح تهب فتطفيء سراج العقل.
- الجهل غضب صامت.
قال الرسول(ص):
قال رجل لرسول الله أوصني، قال: لا تغضب، قال أوصني، قال: لا تغضب، لأنَّ الغضب يسبب شرَّاً، ويسبب خطراً عظيماً.
التمهيد:
دخل الغضب في شتى أصناف القول الشعري بدأ بالعدو وانتقل إلى الزمن والح والمرأة والحياة، فالإنسان في طبعه الغضب، حينما يتعرض للضياع المقصود والقدري، وهو من الصفات التي نهى عنها الدين والعقلاء، وقربوه من الجهل، ولكن ما حيلة المغصوب حقوقه في حقول الحياة؟
فالحديث عن كتب الصالح التي اطلعت وجدت العنوان وكما هو في كل المجالات وفي مختلف الأماكن يُضع لأسباب نفسية، أمّا لجب الانتباه وشد الشخص أو القارئ أو المشاهد أو المتحرك ليقف وهو يرى لافتة، فهذه اللافتة تفرز للمتلقي نوع من الاستغراب أحياناً، أو الفضول لمعرفة ماهية هذا الاسم وأن كان محل لمواد اسم لمطعم أو محل أو على بناية لمنظمة أو عنوان لكتاب، ومن خلال هذه السنين التي عبرت من العمر، واجهت الكثير من العناوين، أحببت بعضها ونفرت من الكثير واحتفظت بالكثير، فمنها فردي الكلمة وثنائي وجمل طويلة ومنها المستعرب والتراثي الغريب، لكن كُتبَ صالح رحيم الثلاث، من العناوين التي تقع كما أدّعي أن أطلق عليها (كتب الحال) وكتب الحال هذه تشي من أول اصطدام بتصورات على أنك تعرف وتفهم ما في داخلها بأنها قادمة من الأعماق، من رحم المكابدات، أسماء ممكن أن تُكَوّن فكرة عنها قبل أن تلجها، أعني بالإمكان قراءة دلالاتها دون قراءتها، على الرغم من أن هناك عناوين لكتب لا تشبه متنها، فكتابه الأول (ريشة لطائر منقرض) يدفعك بالتفكير بالطائر أولاً، ثم بالانقراض ثانياً، وتستنتج وانت تمر على العنوان (الانتهاء) والمحو، وأنه غير موجود حاليا على الأرض، وما يدل على وجوده السابق هذه الريشة، فهو يقع ضمن المجول، وفي دلالة المجهول يقع آلاف العراقيين، الذين يعانون الانقراض ومنهم قرية صالح وعائلته ونفسه، فالدلالة على انقراض صالح هو كتابه نفسه، الذي تحمل معناه الريشة، فالشعور الذي يلزمنا حين نقرأ نصوصه التي يُخرج ما في داخله فيها من رفض تحول ضمن تفاعل داخلي إلى غضب بمفرداته العنيفة أحياناً والمتمردة دائماً وإن أضاف إليها اسناد جملي باهر ووضع عليها بعض مساحيق التجميل وضربة من احتراف كتابي، وموهة في تركيب الجملة ألا أنه يعاني من الاهمال وعدم الاهتمام و(ريشة لطائر منقرض) كتبه ومازال طالبا في الدراسة المسائية، بل الطالب المكافح القابع بقرية تابعة لقضاء الخضر، يعاني من أنواع الأشواك الحياتية الجافة.
ولكنه كموهوب لابد أن يصل وحين اختلط بالجمع المثقف، أوصل صوته إلى الحقل الأدبي عانى من بعض النفوس المريضة ولم يكن بحالة لزيادة الأشواك فلديه الكثير، فأطلق كتابه (أهناك مَن يرى؟) فهو مهووس في السؤال هذا السؤال يشمل الكثير على الرغم من أن الجميع مبصرين، أو لهم عيون ألا أنه يعرف لا يرونه، وحال كل منتج يحتاج للمشترين، فما قيمة البضاعة أن لم يكن هناك روّاد ومعجبين ومترددين ليروا ما لديه؟ وربما كان يريد أكثر من كونه شاعراً يحتاج لمن يرى حاله ووضع حياته وحال بيئته وافرادها، فالسؤال للبحث عن الصالحين والباذلين الذين يمدون يد العون دون السؤال ولو مع النفس عن الفائدة, فهم يعملون ضمن الفضاء الانساني الشاسع، فهذه الجملة الاستفهامية (أهناك من يرى) تولِّد سؤال آخر في المتلقي ترى ماذا يريد صاحب الكتاب إن رأيت ما في داخله، وماذا يحمل الكتاب في تضاعيفه؟
أما بعد أن مَنَّت كورونا علينا بهمها وألمها الغير محسوب وانجلاء غبرتها، وتنفس العديد من الطلبة هدنة القساوة في الامتحانات، دخل صالح قسم الفلسفة وهو القسم الذي أراه مكملاً لشخصيته على الرغم من قلة الانتفاع المادي في الوقت الحاضر، أنتج لنا كتاب أطلق عليه (ليس للأسى نبع) وهو كتاب سردي وثّق فيه مقدار المأساة التي مرت به، ومشاهداته ورأيه بها، وملاحظاته وقناعاته، ولكن غلبت عليه النظرة السوداوية، ففي الكتاب نفس ناقمة وروح تفتقد إلا لأدنى أدوات الأمل، فتحليل هذا العنوان يبدأ بفعل ناقص لا يولد، فهو عقيم يفيد النفي، لهذا فهو بائر كأرض صالح الغاضبة والممحلة، وكلمة(الأسى) وهذه الكلمة المستعمرة التي ينضوي تحتها المعاناة والآلام والتعب، والوحدة وعديد من الخسارات الباهظة، أمل كلمة(نبع) في المشرقة دون نور يذكر فهي موجودة في السياق غير فاعلة في العمل النفسي لنفيها من تواجد المحل إلا في الجملة، مجرد كلمة إفهام في الجملة على الخلو، وشعرنا يعتقد أن الأسى قدرياً، ولا يأتي من مسببات حياتية مادية، أو بشرية وطبيعية، هو قدر مكتوب ولا بد من معايشته.
في الكتب الثلاثة أستشف غضب الشاعر أورثتها له الطبيعة والبيئة والمجتمع، وربما من قوة القدر، وهو رافضاً المصالحة والمهادنة مع أي منها، ولسان حاله يقول: هي دروب كُتِبتْ علينا فما باليد من حيلة من أن أمشيها مقاتلاً ساخطا.
التأثير البيئي الذي يولد الغضب:
الثقافة الشعبية موروثاً غنياً للعمل الأدبي والعلمي وخاصة في الحقل الإنساني، ومهما تعددت اشكالها وخاض بها من خاض إلا أنها دائما بكرا، فالتراث الشعبي على الرغم من أهميته، وقلة المشتغلين به ألا أنه ثروة تحتاج لينفض عنها الرماد، وهي تمدنا بأصوات وفكر غني بفعل عوامل مختلفة أهمها المكان، وعوامل الإجهاض مستمرة لقتل الروح النامية فيها بمختلف الأوامر وفق التحولات الراهنة ومدى تأثير ذلك على النتاج اللغوي ابتداءً من مفهوم العائلة المتماسكة على المستوى الأفراد وشبكة العلاقات.
حينما أتحدث عن الغضب في شعر(صالح رحيم) أتحدث عن قرية ميتة أو شبه ميتة، أو قريبة من الموت، وشهدت تغييرات (كمجتمع) وتحولات عميقة شملت مختلف بنيتها الاجتماعية، لم تشهدها في تاريخها الماضي لبروز قيم جديدة كسرت التابو العشائري، واختلفت فيها الطبقات التي انتجتها خلال سنوات عمرها.
ما هي اهم التغييرات التي طرأت على المجتمع بصورة عامة وشملت هذا المكون من البيئة المحلية الت يلها تأثير مباشر على حياة الشاعر؟
التغيير الاجتماعي: ويشمل تغير الآليات والأساليب المتبعة داخل الهيكل الاجتماعي، كالرموز الثقافية وأنظمة القيم، وقد تنوعت وفق عوامل تغير ضاغط خارجي، ومنها:
العامل الفكري: علمنة الفكر في تطور الطابع النقدي، حيث تأثرت المنظومة الاجتماعية تأثرا ملحوظاً في التطور العلمي وفي كافة المجالات مما أدى بالزحف على المبادئ والقيم المتوارثة، وكسر قيد التحكم الحاصل للعادات المتوارثة، أحدثت هزّة في الوعي والنظرة السائدة لدى الشاعر، لأنها أنتجت أساليب جديدة تعمل على أساس عقلائي، ولمّا كانت طبيعة الشاعر أكثر عاطفية وثبات قيمي مع تعاطفه بالقادم وإغراءه إلا أن الصراع الداخلي أظهر غضبا اتجاه القيود المؤطرة بالتطور وتهديم القيم، وبدأ هذا الصراع يظهر عبر مفردات قد تكون غير مقصودة مباشرة، مع وجود رغبة وقتية بالانغماس بالتنوع الجديد والعلمنة لما لها من صوت تعرية للباليات من الموروث وتقديمه لأغلب المتفتحين على انه عوائق في طريق النجاح
والتقدم الثقافي والاجتماعي لدى الشباب، ففي مجموعة (اهناك من يرى[1]؟) وفي صفحة 11، هناك نص(درس) يقول:
إفعل ما شأت،، هذه الليلة
فالغراب في رأسي،، والجثة في العراء
ولدي ما يكفي من النعيق
لأعلم العالم
طريقة دفن جديدة
اجد أنَّه تعلم درساً كافياً ممن ينالوا منه أو منهم كمجموعة ضعيفة في البيئة، لم يعد يهتم، ففي تفكيره النابه صورا متعددة اختار أحدها او اسوئها تعاضدا، الغراب شاهد القتل الأول على الأرض، وجثة الضحية في الفلاة، ففي فكره الذي بدأ يتلمس البياض وعدم صموده أمام الفجائع، يكفيه من أنه مملوء نعيقاً، فلم يعد كما سبق، فهو اليوم صاحب الدرس وعلى العالم أن يتعلم طرقه وأفكاره، فرفضه لم يعد كما كان متلقيا بائساً، الدفن في التراب له طرق، فهذا الغضب الظاهر بـ (لديَّ ما يكفي) لقدرةٍ فكرية جديدة وتحول في طرق غير معهودة.
ففي كلمة(دفن) وهو طمر أي شيء في التراب، لكي تختفي معالمة أو ما يدل عليه لدى الشاعر طريقة دفن جديدة، ربما عملية دفنه في قرية بعيدة عن الضوء، واختفاء أبسط الوسائل التي تتيح لساقية الحياة أن تتهدج في مشيتها، يعتقدها دفن لذا هناك مطلح شعبي متعارف عليه عند ابتعاد الشخص عن التواجد في الأماكن التي يتواجد بها أقرانه وزملائه سوى بعمل بدائرة بعيدة أو بمكان بعيد أو نأى عن الجميع وقطع التواصل، يسأل: (أنت وين دافن روحك) أي أين دفنت روحك، لذا ألاحظ ان الكلمة كبرت وأصبحت شاملة لشتى أنواع الدفن، وصالح يعرف قسما كبيرا منهن فيقول من كتابه السردي(ليس للأسى نبع):
(ليس من الشجاعة ترك الروح والجسد عندما يتعرضان لوحشية الأنا، يبدو أن هناك تعاونا مشتركاً، تبادلية يحتاجها الجميع، ولابد أن يخضع الجميع لمبدأ واحد، لأجل ان يدرك كل منهم ماذا يريد، وماذا ينفع وجوده، وقد توصلت إلى ذلك بنفسي، أن أعامل الثلاثة معاملة العبيد، فلمحت من بعيد نور الخلاص الأول[2]).
بعد تفكير وحمل نفسه على أن يعتمد على شجاعته كموقف من ثلاثة فيه وهم الحاضن لموجودات الله، الروح والأنا، قرر معاملة الثلاثة كلً حسب ماهيته كعبيد ليتظاهر بأن يجلس على مفترش الحقيقة وينظر لما تأول إليه ماهية هؤلاء العبيد فأدرك النور، فالسؤال: هل حقق (صالح) ما يدعي أم أنها مجرد مفردات، أتلمس ماهية الروح ومعرفة ماذا تريد؟ إنه الحنق عن تواجدها بجسد بالٍ كجسدة الصغير الحجم ومادى غضبه من تكوينه الخَلْقي، فنحن في أوقات معينه نكره أجزاء في اجسادنا، وما فداحة العوامل الاجتماعية، وتنوره الفكري الفردي، في وسط لا يشبع نهمه المعرفي، يؤدي بتفكيره على انه (كصالح في ثمود)، لهذا انتج ليس للأسى نبع على أنه قدر مكتوب، فهو إبن بيئة صعبة.
من الأوامر التي تغضب (صالح رحيم) نظام الوصايا الذي يفرضه الكبار حيث يمارس رغباته منذ أن كان صبياً فحملها في تضاعيف فكره، حيث أن كل الرغبات التي تحاكي الغائر في النفس، فمن الرغبات الممنوعة في سن من العمر العرف لا يسمح بها، هي التدخين والغناء والتمثيل والمنع يزحف على اختيار الأصدقاء والسمر معهم، وربما يصدر أمر بتحديد أولئك، فولدت هذه الأعراف الرفض وتحول تدريجيا من جمر يتنامى تحت الرماد في داخله إلى صوت غضب مغطى بالنصيحة، وهو يرى (صالحا) مازال ذلك الصبي الخائف، ففي مجموعة (ريشة لطائر منقرض) حيث بدأ افراغ همَّه في نتاجه، الأول حيث يرى نفسه فتى لائذا بظل ما لكي لا يرى لمجرد أن يدخن سيكارة، ليقول لذلك الصبي:
الطفل الخائف في أقصى المقهى
أقول: لا تخف
لا تخف أُخيّك
ولا من أي أحد[3].
فقد أصبح كبيرا وقادرا عن الدفاع عمّا يريد، ولكونهم أقرانه والذين أتوا بعده صغارا خائفين من سطوة الوصايا الأسرية وخوفا من الانزلاق في متاهات لا تحمد عقباها تبدأ بسيكارة، ولأنه يحمل فكر الصغار الذي غادر، على أن من يدخن سيصبح كبيرا وسط الرجال ووسم بطابع البلوغ الرجولي، لذا يقول له:
الدخان في كل مكان
في رئة المريض
وفي رئة المعافى
الدخان هو مجرد أن تبقى على قيد الحياة
فهو يراه في كل شيء، في الاجساد والنوايا، وهذه النشوة والشعور لا يزيد من قامتك بل يحملك فوق قيود الالفاظ والأصوات، وحرارة التبغ التي تكوي حنجرتك وتبدأ بإشاخة أوتارها فتخشن، فأنت وبقايا الدخان على حافات أوراق الأشجار سواء، كلاكما لن تدوما في الأرض، والدخان يحتل جزءً كيراً من أجسامنا، حيث نملأ ساحات الاعتصام ومجالس الساسة ومعارك الدول ومجالس اللصوص ودسائس الخونة.
العامل السياسي: بما إن الدولة هي ظل الله في حكم المجتمع، لأنها الجهة الوحيدة المخولة لتغيير بعض القوانين وتنظيم العلاقات ولها التصريح أو أ مر أو التفويض بتغيير وتشريع وإلغاء واستحداث بدائل للقوانين التي لم تعد توائم الوضع الحالي، فالقصور المتعمد و الإهمال أو الإغضاء عمّا يريده الشعب ويعتني بمصالحه المهمة في العيش والأمن والمتطلبات الحياتية التي تمسه صورة مباشرة يزعج الشعب كلّه، ولكنه يؤثر تأثيرا قوياّ على المثقف ويؤذي الأديب الذي مُلكه الكلمة وسراج فكره المتفتح الصور المثلى والخيال لما في الحياة من (الشارع والمتنزه ودور السينما والمسرح ومنابر الشعر)، فالتقصير في قوانين الحياة العامة لها مداليل على كل المخرجات حتى تصل إلى لقمة العيش، لهذا يغضب الشاعر وان ألبس قوله صوراّ غير معلنه أو هاجم مباشرة الدولة وتشريعاتها أو اخفاقاتها أو تهميشها.
مرحلة ما بعد سقوط الحكم السابق، كثر الباعة وتكاثرت الأصوات من الأزقة والحواري وجابت القرى والأرياف والقصبات باختلاف أصنافهم واشكالهم وطرق بيعهم وما يحملون مما يباع، من الكلام الفضفاض إلى الوطن، وبين غمرات الباعة يوجد باعة الخضر وباعة الرزق وباعة القيم وكل بما لديه فرح، ولكن المشتري والمعجب والمساند لم يكن كما كان فرحا متأملاً الخير، لأن الأصوات تغيرت نبراتها بهشاشة حناجرها، و(صالح رحيم) ينظر للباعة على أنهم متجولون، رافضا البيع أو الابتياع من أحد بل بدأ يشفق على تهرأ صوت الجوّال أو حتى المستقر منهم فقدم مفردات غضبه وفق نصيحة الانكسار على ما كان يحمل وما آل إليه الحال، حيث (صوتك المبحوح) لينبهه بأن صوته ما عاد يسمع، فيقول:
بدأ يسبب إحراجاً للجيران
الباعة الذين هم أصدقائك
الذين بدأوا يشفقون عليك[4]
وهنا قد ينطلق من معيار إنساني آخر وهو محاكاة البائع الحقيقي ليعلمه آن أوان الوضع الحالي أن يستريح، وان الأسواق متشابه، فالكل يقدم ما يحمل للبيع لكي يشتري ما يحب، فلا يمكن ان تشتري دون بيع، فالعراقيون لديهم مثلٌ يقول: (البائع ينادي على ما في سلته)، ولكنه رافضاً ان يدخل السوق ليخرج محملاً بأصوات الباعة وطرق تأدية موادهم المباعة، لذا يذكّر البائع:
كل كلمة تخرج من فمك اليوم
تقارن حاضرها المجروح
بأيام عزّها التليد.
واني أرى أن لغة الخطاب موجهة لقائد عراقي بارز في الصراع السياسي القائم على تهديم البلد، وان حاضر صوتك لا يشفع له ماضٍ تولى، فحاضرك تشوه بأفعالك وأصبحت مفرداتك الغير واضحة مجروحة إسوة بحاضرها الملطخ بدم الشباب، حيث يذكر:
حيث هناك الماضي
وكانت الكلمات أطفال
وآذان المستمعين أعياد
آنذاك كان صوتك يثلج الصدر ويشرحه، وتوفي آمال وتطلعات الشعب مفرداتك، كأنها أطفال تبعث المسرة لأنهم جمال الله وبراءة الضحكة الآملة بوطن حرٍّ، ونحن نبحث عن الراحة بعد العناء والهدوء بعد ضجيج الحروب، والدعة بعد عسر مخاضات ودمار للنفس وسجون لمفردات، فكنا نسمعك كتهاليل الأعياد، وفي صورة مشهدية أخرى للسعادات والتهاليل التي يأسف عليها باطنا، قوله في نص (سعادات):
(ثمة أشياء تزدهر لأتفه سبب، وثمة أخرى تذبل لأتفه سبب أيضا، كنت ماشياً ذات يوم في أحد شوارع المدينة، وإذا بي ارى مشهدين: الأول هو غصن اخضر يتدلى من عربة حمل، والثاني فتاة تدفن ابتسامتها بيديها خجلاً، بينما كنت أسير مستمتعا بهاذين المشهدين ارتطم رأسي بسيارة واقفة، من دون أن أشعر بألم يذكر، فصار ينزف، حتى سالت السعادتان مع الدم[5])
لو قفنا عند هذين المشهدين لوجدنا أن الغصن الأخضر المتدلي من عربة النقل، ناتج من قتل شجرة، أو إزالة أغصان شجرة مزهرة في بيت ما أو شارع ما، وهذا الغصن كان ملجأ لعصافير وفيء لمتعب وربما سند لثمرة، فكلمة سعادة لهذا المشهد هو فنتزايا الألم الذي يُدفع، المشهد الثاني، هو كبت الحريات، والانتقاد من ان امرأة تضحك في السوق، كي تعبير عن فرحها أو مشهد مضحك فالعرف يقول عليها أن لا تخرج أسنانها التي لا تظهر ما عدى التي تظهر أثناء الحديث، فالفتاة تخضع لكتم الضحكة والفرحة وحرية التعبير ولو بضحكة، وهذا ليس بسعادة، ولنعود إلى نهاية المشاهد مجتمعة، فقد سالت بنهاية المطاف دماً، كل سعاداتنا لونها دموي، لذلك قدّم (صالح) مشهدا سوداوي تحت لافتة السعادات .
العامل الاقتصادي: تغيرت الكرة الأرضية أثناء الثورة الصناعية وما بعدها، فأحدثت تغييراّ في النظام الاجتماعي وذلك لتنوع أنظمة الإنتاج في مختلف أرجاء المعمورة، كذلك أجد التغيير السياسي في العراق ما بعد 2003، أحدث هزة في المجتمع العراقي، في كل مناحي الحياة، وخاصة المصادر التي لها علاقة مباشرة بحياة الفرد، فالتغيير السياسي اهمل الجانب الصناعي تماماً واغلقت مصادر الانتاج الاقتصادي، فازداد اعداد الايادي العاطلة، لذلك ادّى هذا العمل لتجمع الشعب نحو المجال المتاح في اجهزة الدولة العاطلة، فتنوعت اهداف الناس، وجلس الكثير على مصاطب الغضب لما يروا من التخبط الحاصل في المخرجات الاقتصادية والتنموية وما يحصل من الحرمان والنقص الحاصل في مطبخ الأسرة وغلاء المعيشة يوّلد الغضب الجمعي، وأكيد يكون الشاعر هو القائد الأول لذلك لم يسكت الشعراء في اغلب المناسبات الثقافية والجماهيرية الشعبية والنخبوية، (صالح رحيم) شاعر شاب ابن المجتمع الريفي الغاضب كله لموت المحاصيل الزراعية والنبات المنتج لقلّة المياه وابتعاد الراحة أو الطريق اليها بعيدا عن دروب مسالك أرجلهم، كذاك هو ابن أسير آثر الانزواء بعد ان خاب امله في العيش المستقر والراحة من بعد عناء وغربة وكذب ومصالح شخصية وعدم تقدير، وعودته لأرضه التي قتلها العطش.
فمن اهداء صالح رحيم في مجموعته (ريشة لطائر منقرض) يقول:
(إلى الولد الذي يستيقظ مبكراً من أجل دراسته، فيضربه المدير في صباح بارد بالعصا على يديه لأنه لم يجلب الخمسمائة ديناراً التي تخص أجرة المعلمات، ذلك الولد الذي شتم المدير وترك المدرسة غاضباً، الولد الذي تحبه المعلمة لنباهته ولشدة حبه كتبت له أحسنت يا حمار، اليه ذلك الحمار الذي ضاع في الوديان ... [6])
لنراجع كمية الغضب الذي يحمّله (صالح رحيم) للوضع الذي كان به وهو تلميذا وكيف أجبرته حالته المادية على ترك الدراسة، اجد ثلاث عوامل مهمة وقاسية تجرح هذا الكيان الضعيف، وهنّ (عامل الفقر، عندما يكون الفقر مؤسسة وراثية في العائلة، فالعائلة لا تملك أن تدفع للولد الخمسمائة دينار، لكي ينجو من العقاب ويكمل دراسته، والقانون الذي شرّع على ان تكون أجرة سيارة نقل المعلمات لمدرسته ليس على الدولة وهي في ضرف طباعة العملة النقدية في البلاد وخارج القانون الدولي النقدي، فهذا القانون جائر، فالناس لا تملك لأن الدولة لا تملك نقد مالي، وعدم الاهتمام بمستقبل الطفل الذي هجر مقعده الدراسي وما سيترتب عليه قادم السنوات التي أنتجت (صالحاً) ونوعية العمل التربوي وطرق التعامل مع التلميذ لبناء شخصيته من قبل المعلمة وفنتازيا الجملة (احسنت يا حمار) بدلالة المحبة، ومقدار الفراغ الذي يعيشه لحظة التدوين قصر الكلمات ليترك مساحة منقطة خلف جملة (الحمار الذي ضاع بالوديان) وغضبه على أنه ضاع كمتعلم وضاع والده في حرب لم تنصف عائلته حتى في غيابه كأسير حرب، وكعائد مساند لحملة التغيير وقادتهم وعملية تهميشه، ومن ثم موته وتركه في أعتى الرياح وهو متزوج وطالب ولا يملك من حطام الدنيا سوى الأنفاس.
التغييرات الاجتماعية تطرأ على المجتمع أما بشكل تطوري تدريجي وفق منهج واضح وبرامج معدة سلفا، واعدت المعالجات لعوائق قد تصادف المنهج العلمي التطوري وتطبيقه، أو منهج اجتماعي ثوري مفاجئ ومؤثر وجذري، فالمجتمع الذي نكابد العيش فيه، هُدِّم تدريجيا، فما بين ثوري أثر على حياة الفرد العراقي وبين ما سبقه يولّد الغضب والرفض، فقد ضاعت كل الطموحات الفردية التي يحملها كل فرد حسب تفكيره، ونظرته للحياة واحلامه التي ينغي تحقيقها (صالح رحيم) تلك البقعة الزاهرة التي اصبحت بلقعاً، فهو الباحث عن المشابه له، في شتى المعمورة ويستعمل هؤلاء كرموز يضع عليهم همومه الكبيرة ويخلص كاهله مما يرهقه كفرد معدم فمثلا اختياره (شوبنهاور) كعنوان لنص، هذا الرجل الذي بدأ مع والده التاجر السفر واطلع على مختلف البلدان وشاهدها ووثق ما رأى في كتاب أسماه (يوميات سفر) ووضع به الحياة بأفراحها وتعاستها حيث تعلم عدة لغات، ووضع نفسه أزاء مساوء الحياة، وكان سفره قد غمره وهو ابن السابعة عشر وبتعليم متوسط الشعور بالتعاسة، كما هو (بوذا)، لذلك جنّد نفسه ليجيب على سؤال : كيف نخفف من معاناة الحياة؟ .. أو بعبارة أخرى .. ما الوصفة التي من خلالها نجابه ضجر عالمنا وملله وبؤسه؟
فكلمة التعاسة القاسم المشترك مع (صالح) فقد ارسى لها مع القذارة قدرا كبيرا من المفردات في كتبه الثلاث، فالتعاسة لها مسميات ومصطلحات شتى تعنيها وتدل عليها لنقول عنه عاش تعيسا مثلاً، ولنقرأ جزء قليل من نص (لعبة العذاب) :
(أعيش مثل حبة أرز في قعر كوب الشاي، سهواً سقطت من طبق العائلة، لم ينتبه أحد إلى وجودي، ولا إلى ضياعي[7]) فهو يرى انه جاء عن رغبة جسدية، وسكن قعر الإناء فقط سقط سهواً، كما يسقط أبناء الفقراء في مختلف الأواني بعد متعة عابرة، فهو ينمو دون اهتمام ويكبر دون اهتمام لشتى الظروف، ويضيع دون أن ينتبه أحد له، إلا تشكل هذه الحياة تعاسة حقيقية لفرد في مجتمع إنساني يبحث في قيمة خلق الإنسان، لذا فعملية استحضار شوبنهاور لم تأتي من ترف كتابي.
إذن تشابه الحالة التي كان عليها (شوبنهاور) تشبه إلى حد ما حالة(صالح) مع فارق مالي كبير، فواقع صالح مرير وعقله يبحث عن حلول للمعاناة الحالية والمنتظرة، جعله ينظر في أعطافه، في بيئته ويتمنى أو يحاول الفرار من هذا الواقع إلى كرم الحقل والسنابل ليسقطه على العيش الذي يحلم، ومن واقع بيئي وهو حصاد الأرض حين ينقل خطواته واستدارات رأسه إذ يرى الطيور تتهاوى على مزارع القمح، والنمل بلا كلل ينقل الحبوب إلى ممالكه، وأن الرزق مساق بكرم السنابل، فيرجو أن يكون مجتمعه نسخة لما يتطلع إليه، فيقول:
أيام الحصاد
تعانق كل سنبلة أختها
فيتساقط القمح
دون تدخل الفلاح والمنجل
وتترك كل سنبلة
حصة للطير وأخرى للنمل
كرمى لفتاة جميلة مثل إبنتيً.[8]
ألاحظ أن (صالحاً) قلقا على ابنته التي ولجت الحياة، لكن سنابل البيئة بائرة من الحبوب، فهو كريم بمحبته لهذه المخلوقة العجيبة، فلا يرى تبدل للحياة مع قدومها، وعليه يجب أن يسعى لتغيير عالمه، وتستقر الزروع والطيور ويكف الصياد عن المطاردة، وتهجع الطريدة لتعيش باطمئنان، وتكف الرياح على أن تجرح كل ما تشبه ابنته، وعلى الرغم من سعادته على قدوم ورحيل الفتيات تحت مظلّة شوبنهاور التي يعتقد ألا أنه رافضاً لما يعانين من سوء التصرف للأسر وهدر حقوقهن/ لذلك كان يرجو أن تكون الحياة كعناق السنابل حيث يعيش عليها الطائر والزاحف والراكض، الصغير والكبير والأكبر وبتساوي الحقوق في خيرات البلاد.
بإطلالتي على حياته وجدت إشكالات تحيط به كعدو وعوائق تؤذيه كشاعر واهمها:
أ- عوائق اجتماعية:
"يخضع الفرد في العراق لهيمنة اجتماعية، تعود إلى البنية الاجتماعية التقليدية بالخصوص الأسرية، إذ لا زالت الشخصية الفردية تقدر التقليدية والخضوعية والعدوانية التسلطية والتراتبية[9]"، فهو يخضع لأعراف وقيم بعيدة كل البعد عن توجهاته وقلة الدعم مما دفعه إلى النفور وعدم التوافق مع المحيط الذي نشأ به وتطور فرديا وسط تراجع ملحوظ في البيئة بصورة عامة، كما يظهر الطلبة دافع ضعيف نحو التوجه الآيدلوجي المحافظ ودافع قوي نحو التوجه الآيدلوجي التحرري، ففي نص (كلهم بخير) وغضب من عملية التعامل الشكلي حول إشكالية اللون والعرق ضمن الطائفية الإنسانية، فالتقابل الطبقي من حيث النسب، ذهب هذا الرجل لمناقشته، في النص المشار إليه، إلى (زبيبة أم عنتر) ليكشف أعماق الشخصية العربية، وعمل الإنسان حين يتجرد من انسانيته، ومدى سخطه على الرغم من تعامله الهادئ وطريقة مناقشته لهذه الثيمة في المجتمع، موضحا التقابل في سخطه ورضاه، قبوله ورفضه، الحرية والرأي، في العيش وتساوي الحقوق والواجبات والتمييز على أساس اللون والعرق، (كلهم بخير) نص يتعدى التواجد الفعلي للجميع حيث (كانوا بخير) أما الآن لا، ولكن المخاطب (زبيبة) المرأة السوداء التي ديست بقانون الاستعباد والمتعة، والأم المحتقرة من قومها، وقد قال عنترة في اشعاره، الإزدواجية في التعامل معه، يقول صالح:
كلهم بخير
يعشقون ويقطعون الطريق
ينجبون الأولاد
يتمتعون بأشرف الأنساب
إلا أنتِ
كانت الحرية دماً مؤكسداً
يتشاطره في جوفك الغرقى
هنا الإعتمال الداخلي وأثره على تكوين الجملة الادبية الشعرية، بإيجاز عملوا كل شيء في ظل السطوة والحريات المتاحة لهم واختياراتهم ومصاهرة الأشراف من القوم وأنت أم بطلهم، وهذه المحاكات ليست لماضٍ تولى بل اليوم، هكذا يعامل الفقراء والمساكين لحماية الدهاقنة ضمن العرف السياسي السائد الذي أنجب مجتمع معاق عاد لألف سنة خلت، حيث يستتب الأمر لهم (إلا أنتِ) مستثناة لأنك لا تشبهينهم، ومساحة الحرية ملزمة بلون دمك المؤكسد، الدم المحترق في داخل هذا الجوف الذي استبيح، فولدك كأولادنا وحياتك في عصر الحرية عند الطبقة الضعيفة كانت (يتشاطره في جوفك الغرقى) لأنَّ كل الغرقى يتحول لونهم إلى الإزرقاق ثم إلى السواد عند تعرضه للهواء أو الشمس لكنهم أموات ونحن انت ولكننا أحياء، فالنتيجة وادة جميعا حيات رمل تذرى بالرياح دون مأسوفٍ عليها، هكذا ليقول خاتماً المقطع:
حياتك ذرة رمل لا أكثر
ذرة رمل سوداء اسمها زبيبة.
ب- عوائق ثقافية:
البيئة الاجتماعية تخضع لتقاليد وثقافة متوارثة وعادات أكل عليها الدهر وتناساها، ولكنها ماثلة تحيطه من كل الجهات، فالتوجهات الثقافية تتصف بثقافة جمعية وثقافة فردية وتختلف من الاتجاهات بحدوث انزياحات في القيم من التقليدية أي القديمة إلى الجديدة، والبارزة الحضور في المجتمع بفعل التطور الإعلامي والإنفتاح الفكري وهو نتاج الرفض للقديم عند الشباب، وخاصة أن الشاعر كمتطلع يطمح ليكوّن شخصية مستقلة ونفض الإضطهاد الثقافي التقليدي ضمن بيئته المحلية، وجدت الشاعر في كتابه السردي قد أماط اللثام عما يكتنزه من موروث ثقافي مغطى بشال (العيب) أي الخجل، وهذه ثقافة المنع العامة المتفق عليها والغير قادر أي شخص كسرها كتابو تتضمن لا حديث لشاب وسط الكبار، ومنع الجلوس وسط الكبار ومنع الدفاع عن نفسك وإن اتهمت زوراً من قبل كبير بالعمر وحين تقول لولي أمرك : يقول : أعرف ولكنه رجل كبير، ومما يماثلها من القضايا حتى تكبر ممسوخ الإرادة، وفي أغلب الأحيان تتنازل بفعل الوراثة عن حقك، وكذلك الثقافات الخاصة بحقوق المرأة ومكانتها وثقافة التواصل الاجتماعي فهناك العديد من النواهي المبتكرة التي يجب اطاعتها دون النقاش فيها لأنها من المسلمات الوراثية التقليدية العامة والتي تنتصر على الفردية، فصالح هنا في نص (المحو) من كتابه السردي (ليس للأسى نبع) يتلمس طريقاً نحو القمة الصعبة، ويعدُّ العثرات إجمالاً، ليخبرنا:
(خلعت نعليَّ وتقدمت متخذاً من العشب بوصلة للوصول إلى الجبل، العشبُ ليس دليلاً، فقد جرحتني نباتات ذات أشواك، وسقطت على وجهي عدة مرات بفعل سواقٍ صغيرة اعترضتْ طريقي بين وقت وآخر، أوصلني العشب إلى أرض ترابية وسقطت على وجهي سقطةٌ لم أنهض بعدها، فقدت القدرة على الوقوف..)[10]
محاكاة هكذا نص يصور ويتحدث عن صورة من واقع مرير، بالإمكان القول وهذا يشبه ما سلف ونكتفي، فالموروث الشعبي فيه الكثير من الاخلاق التي تنتمي إلى القيم العليا، ولكنه لا يصلح لكل العصور ومادامت الخليقة تبحث عن الجديد في ثقافة مختلفة ونحن نتبادل معها تجارياً وحضارياً وأدبياً فلابد من مؤثر تدريجي سيحدث في المجتمعات كمحايث ناتج من التواصل والتلاقح ليكون جزءً من المجتمع الآخر لا يشبهها ولكنه يتجذر بها، قد يوجد هذا في تطلع صالح الشاعر، ولكنه على الرغم من انتهاجه النهج المعتدل النامي ألا هناك الكثير من الأشواك في نباتات جرحته، وكثير من السواقي التي يعتبرها صغير على اغراقه أصبحت عثرات في طريقه نحو الرقي الذي هو ينشده، فاتبع لون الأمل فأسلمه التراب، ولم يصل الجبل، لم يصل القمة المنشودة، وهذه آخر سقطة أسلمته نهاية التطلعات، لو انتقلنا لمجموعة (ريشة لطائر منقرض) وخاصة إلى نص(سيرة الغبار) يخبرنا الشاعر، بأن الأماكن تكبر وتتسع حسب حالته النفسية، لا حسب كينونتها الحقيقية في الطبيعة، وتُحَب ويرغب فيها أيضا، فكرياً وخيالاً عبر ما تمنحه من ثقافة الولوج إلى عالم لا يتصوره الإنسان العادي، فيقول باللافتة الأولى:
مرة جربت أن أتسلل
إلى داخل ذرة غبار،
دخلت الذّرة،
فشعرت بسعة المكان
وآهٍ كم كانت الحياة
ضيقة، قُلتُ ..
وحينما يناقش ذرة الغبار ويؤنسنها على انها ممكن ان تشعرك بأنك على قيد الدنيا، يخلق لها فعلاً تقوم به، أو تسببه بقصدية، وبطريقة ذكية لتؤنسه وتشعره بانه حيٌّ، يقول:
فعلة ذكية من ذرة الغبار
أن تسب لي العطاس
كرسالة أنني
ما زلت في الداخل.
هذا الهروب العقلي من واقع ثقافي مبني على مالا يطيق أو يحتمل، فها هو يهرب إلى أصغر موجود الكون او الطبيعة الماثلة، لتشكل لديه متسع من العظمة والذكاء لتشعره على أنه حي، لأنه يناقش العلم، وبث الحياة في جسدة الذي أكلته آفة التخلف البيئي والمجتمعي المحيط.
ج- عوائق اقتصادية:
اعظم ما أنتجته المنظومة السياسية هو الفساد، وزيادة في تهديم البنية الاقتصادية كالبنى التحتية للوطن، ونهب المال العام، وظهور طبقة مخملية سياسية مهجنة فارهة، وزيادة بنسبة الفقر بين الشعب العراقي والسماوي كأعظم نسبة فقر في العراق، ومشكلة الفقر ترجع إلى عوامل خارجية تخص مسؤولية النظام الحاكم، وعوامل داخلية مرتبطة بالنفس البشرية، توضع على عاتق الفقراء أنفسهم وهناك دراسات كثيرة في هذه الجوانب، ولكن مدى تأثير الفقر على نتاج الشاعر وسخطه ورفضه لواقع وجد نفسه فيه مرغما، وما للفقر من عواقب نفسية فهو مشكلة اجتماعية حتى يصبح مؤسسة لها إعلام تبريري وناس تعمل على أدامتها، فالتزاوج بين الفقراء غير مبرر وكثرة انتاج أحفاد لزيادة حجم الفقر، وعدم المصاهرة مع طبقة أخرى لإيجاد منافذ للعيش، فالشاعر نتاج هذا المصنع المبرر بالقدر، والطوق المدام بثوب الرضا، وفقد كتب صالح:
ولدت في العاشر من مايو
في السنة الرابعة والتسعين من القرن العشرين
وقد كان والدي في السجن
فتجرعت المرَّ في المهد // حتى صار حلواً
وتغنيت وحدي في حظيرة الأصدقاء والأحبة
كان جدي رحمه الله
مغرماً بالنبي صالح وبناقته التي عُقِرت
فسمّني تيمناً باسمه
ولمّا كبرتُ رأيتُ الناس يعقرون كل شيء
رأيت الناس يعقرون الناس
وأنا لست نبياً لأنهى
أنا مجرد صالحٍ لا ناقة لي في هذا العالم ولا جمل
صالحٌ رأى الجمل يتطلع إلى نجاته من ثقب الإبرة!
أستشف هذا التهكم والرفض لحياته، اسمه لرجل عشق نبي، وحياته مغطاة بشال الفقر الوالد في السجن، فعلاقة الفرد بالجماعة والمحيط الاكبر وقد ولد في خضم صراعات دموية، فوالده في السجن، هنا فقد للدفء العاطفي لانتفاء أحد أطرافه، ومع بنية أسرية تقليدية، فالكل بالمعمل المتنامي من الأمية وقلة التحصيل العلمي، فالمستوى الإقتصادي المتقارب أو المتساوي عند الجميع، وإهمال نصفه بربات البيوت، فوجد أن الناس يعقر بعضها بعضاً، مع باقي الاشياء,
د- عوائق سياسية:
انتشار وانشطار في المؤسسة الحكومية وتحولها إلى دويلات لها قوانينها وأعرافها وسياستها بفردانية وظهور الدول العقيمة في الجانب الديني والاجتماعي، اوجد الكثير من الرفض الشعبي المتزايد، والذي يبدأ بحراك ثقافي أدبي والتعبير عنه علناً، وما ثورة تشرين الشبابية إلا مخرجات الغضب المتنامي في جوف الشباب ونظرة الضياع أدت إلى ظهور شعارات عميقة .. العامة(نازل آخذ حقّي) والخاصة المثقفة: (نريد وطن) وكلها في مصب نهر الرفض الذي أظهر الغضب الصادح، لذا شهدت الساحة الاحتجاجية الغاضبة تفاؤلاً لتغيير مع اصرار على التشبث بالسلطة من الفاسدين لما يتمتعون به من ثروات وسلطة، ولكن الشعب تنوع من حيث المشاركة، والوقوف بعيدا، ومؤيدا وفق آراء مختلفة ولكن الفاسدين انتصروا، بعد أن أوجدوا منافذ لتغيير المعادلة وزج القوة المناهضة في حرب مصيرية في حرب داعش، فانتصرت الهوية الوطنية لتقف على اعلى السلم ثم الدينية والطائفية والقومية والعشائرية، من هنا أجد أن الشاعر ككائن متفاعل مع كل ما يحيط به كعراقي يعد الخيبات المتلاحقة، ينتج نصا (وجوه متعددة لجمجمة واحدة) في مجموعة أهناك من يرى؟، يطرح علينا ما يراه بصوفه غاضبا مما يحطنا ويشمله فيقول للوطن:
آه يا وطني
كم من مرض مزمن
احصيت حتى الآن
وكم من منهم قضى نحبه // وكم ينتظر,
يبدو أن هذا هو حتفنا // من الأبدية الفاجرة
أمل ينطوي على نفسه //وآخر يبتكر شكاً
لكل حقيقة مطلقة // نحن الذين تساقطوا
من شجرة دون الاهتمام.[11]
هذا الجزء السردي مما اورده ضمن النص المذكور أعلاه، يختصر ما أشرت إليه سلفا عن حالة الفرد الرافض والغاضب بفكر حر لا من غضب إنفعالي جاهل، فهو يرى ويكابد ويترجم غضبه.
مشكلات تنامي الغضب
مشاكل الطبقة الضعيفة:
تعاني الطبقة الضعيفة في الوطن من مخرجات الظرف الحالي والسابق من (الفساد، عدم المساواة، الفقر، الفرص، التمييز الحزبي والولائي)
مشاكل فردية:
ونتجت من عدة عوامل سالفة الذكر ومنها: (الأمية، والحروب، الانحراف الجرمي والجنسي، المخدرات، واللا مبالات، والهدف المالي).
تغييرات اثرت نفسياً
ظهور العديد من المنظمات الانسانية الصورية والرابحة حقيقةً، والمتغطية بأردية شتى كالتجسسية والداعية إلى المثلية والإباحية لهدم القيم الأسرية وابراز قيم بديلة لثلم سور الاسرة العراقية، الموجهة من اعداء الدين والمجتمع وفق أيدولوجيات مختلفة، فأصبح الوطن ساحة التجريب والتخريب والاهدار.
ظهور الاوبئة وتزايد حالات الأمراض المستعصية كالسرطان والتشوهات الخلقية ونقص الأدوية وتفشي ظاهرة المتاجرة بالأعضاء البشرية والأرواح بسبب مخلفات الحروب.
المناظر البشعة في السوشيل ميديا ومدى تأثيرها على الحالة النفسية وعدم الفهم بالدراسات العالمية ومعرفة ما يرغب الفرد الشرقي والتنبؤ بمستقبله وفق ما يهوى ببرامج مسمومة ومدعومة بوسائل عالية الدقة بجمع المعلومات ومعرفة الأهواء والتوصل لمعرفة التفكير الفردي .
ضياع القانون العملي والتنطع بالقانون الورقي والتلفازي اللفظي، وجر الشعب وفق درج استهتاري بما اوجدته الشرائع بإدخال ما يخالفها على أن الجديد أصلح.
هدم القيم الدينية الباقية بوفادة القوانين الغربية والازدواجية، وتشوية الذوق وتضعيف الأمر الديني واغواء الانحراف الجنسي بإفشاء المثلية والجندرية، وطمس تكريم القيمة الإنسانية المقدسة ليتساوى مع الحيوانات وزواج النوع الواحد والله العالم بالقادم.
ظهور العصابات الإجرامية المنظمة بمختلف أنواعها وخطورتها على النفس:
(المليشيات التابعة للأحزاب والكتل، العصابات السياسية، العصابات الخارجية والداعمة للخونة، عصابات السلب والنهب والقتل، عصابات الطائفية، عصابات الغش والنصب)
عملية تجاهل ما يسمع وما يرى، هي عملية نفسية طاردة أصبحت لدى الشخص العراقي لأن النفس دائما تحاول النأي عن المؤذيات، وطرد المنغصات وتجنب الخوض بها، وهذا عامل فطري في النفس البشرية.
نتائج البحث:
الغضب الفكري ناتج من عملية القراءة والاحتكاك والاطلاع ومقارنته مع الوضع الراهن. الشاعر (صالح رحيم) والتي انطوت على تكوينه كانسان وحالات الغضب التي تعتريه من جراء الإثارة التي تتعارض مع تطوره الفكري، وبدوافع مختلفة ولدت لديه ردود أفعال أزاءها.
الرفض يولد الغضب نتيجة لظروف إقتصادية معيشية كالفقر وديمومته من قبل الأسرة وباقي المحيط المجتمعي، فالشاعر المؤرق من قضايا أججت به البحث عن الحلول التي يراها من الضروب المستحيلة، مما أدى به إلى وضع نفسي مرتبك، فالغضب عند القدماء ممن ينشدون الشعر، يأتي ما بين التهديد والوعيد ودعوة الخاطئ إلى الصلاح.
رفض الواقع هو تطلع الطلبة والادباء ومنهم الشعراء إلى التحرر من قيود التوجهات الآيدلوجية التقليدية. فصالح يرى أن الظروف المحيطة لا تلتزم بحدود ولا في الأفق إلى إصلاح، وقد استنفذ صبره وقد تعالت ثورته الذاتية فأنشد نشيده الغاضب، وذلك للتمادي على كينونته وعدم مراعاة الحقوق.
الوضع السياسي السائد وتفشي منظومة الفساد والذي اصبح اخطبوط تتواجد أذرعه في كل أماكن الدولة وبناها التحتية، فالشاعر يرى أُهينت القيم العليا لذا فمقدار ما ضاع خلال سيره الجديد في دروب الحياة استنفر طاقته ليقول على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو يمتلك الشجاعة لطرح أفكاره ومقدار الحمية التي يحمل للذود عما يؤمن به.
الحالة النفسية ابتداءً من النشأة الأولى إلى انهزام الاماني يولد الضغط النفسي الذي يجعل النتاج الأدبي ساخطا رافضا، فقد غلب على طرحه الفنتازيا المبطنة، والرفض، والغضب، والشدة، فما تعرض له من تجريح وطعن وغبن وانتقاص في الحقوق فجر به غضب الماء لإشباع الداخل بثورة نفسية طاغية.
الثقافة التقليدي لمجتمع الطبقة الضعيفة، وبناها الهشة، والحاجة المستمرة للمتلسط أوجد الغضب الشعري في نتاج الشاعر.
فقدان الأمل وظهرو عوامل نفسية لتراكمية اجتماعية تخص الهوية العراقية والسيادة.
***
عيال الظالمي
.........................
[1]. اهناك من يرى؟، صالح رحيم، ص 11.
[2] ليس للأسى نبع، صالح رحيم،،مطبعة لازورد، 2022، ص5.
[3] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، ص8-9.
[4] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، ص12.
[5] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، ص10 كتاب الكتروني.
[6] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، دار الدرويش، بلغاريا، 2020، ص5.
[7] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، ص29 كتاب الكتروني
[8] المصدر السابق
[9] الخيبة والأمل في العراق، لؤي خزعل جبر، دار مسامير،2023، ص54.
[10] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، مطبعة لازورد، 2022، ص43.
[11] أهناك من يرى؟، صالح رحيم، ص82 كتاب الكتروني.