قراءات نقدية
ميمون حرش: النورس التائه في المرافئ.. عن الشاعر رضوان بن شيكر

صدر للشاعر المغربي رضوان بن شيكر ديوانه الأول "مرافئ التيهان"، الطبعة الأولى- عام 2019- دار فضاءات للنشر والتوزيع- المركز الرئيسي -عمان-، تأخر هذا المولود الأول كثيراً، ورقياً، بالنظر لقيمة الشاعر رضوان، وعمله الدؤوب مع الحروف، والكلمات، ومع ذلك فالكتابة الإبداعية شغلت رضوان في كل وقت، والشاعر- حسب رأيه- لا يصنعه طبعُ ديوان أو عدة دواوين بقدر ما يضعه على السكة ذلك الألق الشعري المتسربل في نصٍ واحد، أومتعدد.
عُش النورس
الشاعر رضوان ابن مدينة الناظور، وُلد وترعرع بين دروبها وضواحيها، ويجري حبُّها في كيانه مجرى الدم في العروق، يفرح لانتصاراتها، ويتألم لانكساراتها أيضاً، أصوله وأجداده من بني شيكر، بلدة المجاهدين والصالحين والمبدعين. أفرد للناظور، في ديوانه، قصائدَ عديدة، منها قصيدة جميلة أسماها " بقلب ثقيل وبلا مزاج" ص /35/، يقول في مقطع شعري مؤثر عن الناظور فيها، معبراً عن حالة من الحالات الإنسانية والنفسية بالخصوص:
" ليس في الناظور مُتسع للأحلام،
قالت إحداهن ذات تقاطع
وهي تعبر الشارع الطويل
مسرعة الخطو،
بقلب ثقيل وبلا مزاج
/ .../ "
تبدو الناظور، في هذا النص، قاتمة، وفق المعنى الذي يريده الشاعر، وغير قابلة للعيش بسبب عدم توفر مجموعة من الشروط الضرورية والأساسية للعيش فيها، والمتوفرة في أغلب المدن الأخرى، فنحن ننتقد، وأحياناً بشدة، الجهات المسؤولة غيرةً منا على هذه المدينة العزيزة، والغالية منذ الأزل والمتوجة بسحر وجمالية بحر مارتشيكا.
أيكون تائها، في مدينة تائهة، أتكون الناظورُ الكسيحة، المفتقرة لمشاريعَ، وبنية تحتية، وبدون سينما ولا حديقة، ولا مسرح إحدى هذه المرافئ الموغلة في التيهان؟
سيقربنا الديوان "مرافئ التيهان"، من رضوان، ذلك الشاعر الولهان، ونكتشف ما في داخله من "ريف" أصيل يخزنه في ذاته، معبراً لنا وله، عن كينونة يترسب في عمقها قدرٌ غير يسير من الوهج "الرومانسي"، والحب "القيسي" لأرضه، وبلدته المنسيّة الناظور حيث تترعرع، كيف أراد أن يكون، طائراً شحروراً، ويحلق، بالطموح والتحدي، شاعراً أثيراً، سِمتُه نصرة الجمال، بالشعر، والضرب في الأرض، عبر تَرحال سندبادي لنُشدان "مرافئ التيهان" بحثاً عن اللؤلؤة المفقودة في الطبيعة، ولدى "الإنسان".
كيف اهتدى رضوان لــ "مرافئ التيهان "؛ هذا العنوان الجميل يشعرني، أنا القاريْ العاشق لشعره، بأنه سفينة، وُجِد ليكون فوقها قبطاناً، تمخر عباب البحر بحثاً عن مرافئ عجيبة يغلفها تيهان.. أسر لي قائلا في حوارٍ لي معه:
" أنا دائم العلاقة بالطبيعة وعندي عشق كبير بالجبال والوديان والبحار والشواطئ وأبحث دائماً عن التَّجوال والسفر الى المناطق الطبيعية، وأجدني مشدوداً إلى سحرها.. قصيدتي هي سفينتي، وما دمت أدير دفتها فأنا قبطان أمخر عباب مرافئ حياتي ".
النورس التائه
رضوان، كما يشي ديوانه، "تائه" في مرافئَ شتى، وشاعر فارس، يمتطي فرسه، لا يكاد ينزل أبداً، يتحرك كقطع الشطرنج من مرفأ لآخر، لا يترجل هذا الفارس أبداً، يوقع "تيـهانه" كلما حل بمكان، ترى عما يبحث؟ وعن أي مرفأ ينشد، ما سماته؟ وهل محطته الأخيرة ستقنعه، إذا ترجل، وهذا مستحيل، ببعض الاستقرار، على الأقل، بحيث يضع فيه عصا تسياره في النهاية؟
"التيه" تيمة غالبة على نصوص الديوان " مرافئ التيهان"، غيرُ خافٍ ذلك حتى في بعض عناوين الديوان: "في المطار" ص/ 15/، "أقف خارج حقائبي" ص / 97/، و "في الشاون ضاع مني ظلي" ص / 91/، و"ضفاف قصية" ص/51 /... ينثر الشاعر رضوان، في هذه القصائد، وغيرها كثير، مفرداتٍ من بطن التيه نحو: المطار- السفن- الحقائب- الطريق- الرصيف- التَرحال... أيهرب من شيء ما هذا الرجل التائه؟
التيه هو " المكتوب على شاعرنا"، يمشي ملكاً بين قصائدها، ويقف " خارج حقائبها" حسب تعبيره،
ولولا هذا التيهان، يقر الشاعر رضوان، ما استطاع كتابة سطر واحد من الإبداع الشعري، هذا "اللاستقرار" هو الذي يذكي في أوصاله شرارةَ الإبداع في دواخله ويستفز غرائز الكتابة لديه، في قلق وجودي آسر، ولنقل، مطمأنين، بأنه قصبة فارغة من الداخل دون هذا التيهان، وبقلق وجودي يتغذى شعره، ومَلء هذه القصبة الفارغة ضرورة لازبة مع جرعة من الذروة الإبداعية لإيقاظ الحواس مع "فلاشات" الحياة.
القلق الوجودي الذي يسكن المبدع رضوان هو الذي يحفزه على الترحال والسفر، لا يهرب من شيء تحديداً، يقول لي هامساً:
"من حين لآخر، أنسى نفسي وأضيع في إحدى المدن التي لا أعرفها فأمشي في اتجاهات مختلفة، لأسبر أغوار ذاتي، وهذا هو التيه الذي تتحدث عنه وقد يكون أحياناً أخرى نوعاً من الاغتراب والضياع الذي يعيشه كل منا في محيطه أو مجتمعه والعوالم المفروضة عليه. "
فراخ النورس
يتكون الديوان "مرافئ التيهان" من (23) قصيدة، متوسطة الطول، عدَدُ "الجمل الشعرية" في أطول قصيدة منها هو (41) جملة: (ضفاف قصية) ص/51/، وأقصرها (19) جملة (بلقيس الثانية) ص/ 61 /... والقصائد، في كل الديوان، رغم هذا النفَس القصير، زخمة وسمينة المعنى والمبنى، وطليقة الخيال، و"الشحنة" الدلالية فيها مركونة في مفاصلها بعناية شديدة، وبين "كيْف" سامي الدلالة، و" كمّ" قصير يبني رضوانُ معالمَ قصائده، بدقة، في هندسة أنيقة، وديباجة لافتة بين هذين العالمين.
الشاعر، حين يحس بـأنه عطل من أي إضافة، ببساطة لأنه يكون قد وفّى كل ما يريد قوله معبراً عن الفكرة من كل جوانبها، لا يهمه تمطيط النص، بقدر تكثيفه رغم "الهزال "، والأهم هو أن يفلح النص في طرح مجموعة من التساؤلات الذاتية والموضوعية، التي عايشها.
رضوان شاعر مثقف، مولع بالأدب الفرنسي، ويتحدث كأحد أبناء موليير، ولهذا صلة وتأثير واضحان، في بعض قصائد الديوان، من الشاعر آرثر رامبو/ الشاعر المشاء.. وكذلك من غيره من شعراء فرنسا الذين أصابوا هوىً في نفسية رضوان الشعرية.. يقول عن هذا التأثير:
"أكتب وأقرأ كثيراً بالفرنسية وعندي علاقة وطيدة بهذه الثقافة وترجمت العديد من النصوص الإبداعية من هذه اللغة إلى العربية، وأعشق الشعر الفرنسي وخاصة شعراء المدرسة السوريالية: لويس أراغون؛ بول إيلوار؛ اندري بروتون... "
ولعل هذا ما يستدعي قارئاً خاصاً لشعر رضوان، مؤكداً ما يلي "أكتب بلغة شعرية غير عادية، فيها الكثير من الانزياحات اللغوية التي تضع القارئ أمام عدة تأويلات وإيحاءات، والنص الشعري يميز نفسه بالخروج عن المألوف كما هو معروف بعيداً عن التقريرية التي تنعدم فيها نسبة التأويل ويضع القارئ أمام دلالة واحدة رغم اختلاف مستويات القراء وتنوع مشاربهم الثقافية".
الشاعر رضوان مولع بالتراث الإنساني والأساطير، ولذلك تجد الكثير من نصوصه تعكس هذا الولع، يستحضرها باستمرار من أجل إضفاء الجمالية على النص، وكذلك من أجل مساءلة هذا التراث أحياناً.
التراث في " "مرافئ التيهان " عش دافئ يغنيه باستحضار الشخصيات التاريخية والأسطورية {الفنيق، الأندلس، غرناطة، بلقيس، طارق بن زياد، البئر التي تحيل على قصة سيدنا يوسف، رالابويا...} يوظفها، جمالياً، من أجل التماهي مع بعض الحالات والحكايات واستحضارها لتوظيفها.
النورس الرياضي
الأرقام في ديوان "مرافئ التيهان" حاضرة، وبقوة؛ وعموماً، بعض الأرقام، في الأدب، وفي السينما، حظيت باهتمام كبير، نحو، مثالاً لا حصراً، رقم 13 في السينما (الجمعة 13 Vendredi13-)، الغرفة رقم/101 /في رواية جورج أورويل، "1984"..
لنقرأ مقطعاً من قصيدة " لا يشفى بالنسيان أحدٌ" ص /105/:
"قبل أن أرتمي عميقاً
في أزقة الصيف المتشابهة،
المحفوفة بالصدى،
الغارقة في وحل أصوات
الباعة المتجولين،
المكتظة بقسمات الغرباء
الفارّين من جحيم الضجر.
أدلف إلى الغرفة رقم 15،
أطيل النظر في المرآة
كأني أراني أول مرة،
أكتب رسالة طويلة جداً."
فكان سؤالي عن الغرفة رقم {15}.. ما سرها، ولماذا تحديداً هذا الرقم؟
يبرر رضوان ذلك بقوله: "عندما أسافر أطلب الحجز دائماً في الغرفة رقم 15 في الفنادق التي أنزل فيها، وهو رقم أتفاءل به وأعشقه لأسباب ذاتية محضة، ولا علاقة لذلك بالسياسية أو بأي حدث خارجي آخر.
الطائر النورس
للشاعر رضوان علاقة خاصة مع الطيور، أفرد لها قصائد جميلة، وللنورس، عنده، عشق خاص؛ أبيات رائقة عن العصافير نقرأها في قصائد كثيرة من الديوان، وتحصد النوارس حصة الأسد فيها.
نقرأ في قصيدة " على غير العادة" ص /14/:
سأتكئ على هذا الخراب
/.../
لأصنع من غيمة تائهة
في سماء خيباتي
ظلا لأشجار العنفوان
/.../
أو مرفأ ترسو إليه نوارسي
العائدة من إبحارات التعب"
ونقرأ أبضاً في " بقايا جموح" ص /46/:
" يا أيتها النوارس العابرة
في وجع الصباح والمساء.
هل لك أن تهـبي للفنيق
صياح الرياح
أو تقلديه صوت الأنبياء"
وكذلك نقرأ مقطعاً جميلا عن "النوارس" في قصيدة " بلقيس الثانية" ص /63/و/64/.. هذا فضلاً عن كلام شاعري جميل عن "الحَمام" في قصيدة " أقف خارج حقائبي" ص /101/، وعن " طائر أسطوري "في قصيدة" لا يُشفى بالنسيان أحد" ص /107/...وفي قصيدة "البرزخ الذي بيننا" ص /83/، وفي قصيدة " في الشاون ضاع مني ظلي" ص/94/...
أسجل إعجابي بكل هذه القصائد، المطرزة بعقيق " العصافير"، والنورس واسطة عقدها..
هل الطيور هنا مناسبة لتيمة " التيهان" الطاغية في الديوان"؟.. ثم لماذا النوارس تحديداً؟" ما الذي يميزها عن طيور أخرى تغنى بها في ديوانه، يجيبني قائلا:
"النورس طائر دائم الحضور في الموانئ وعلى الشواطئ وعلى السفن وهو ملتصق وملازم لعالم البحر والترحال والتيه. وهو، في نفس الوقت، طائر جميل، ويعيش بقرب البحارة والملاحين، وكثيراً ما تجد البعض منها على سفينة تبحر إلى منطقة بعيدة. عندما أتملى النوارس تجتاحني عواصف من الحنين وأحياناً حالات من الكآبة والسوداوية وأنا أراها تشيع البحارة في رحلة الصيد المحفوفة بالخطر غالباً، أو وهي تحتفل بعودتهم الى الميناء سالمين غانمين، النورس طائر له سطوة عليّ وأجده غريباً وغامضاً، قريباً وبعيداً في نفس الوقت".
النورس يحلق في سماء الطبيعة
يحتفي الشاعر رضوان بالطبيعة بشكل مبهر، وديوانه في "مرافئ التيهان" ممهور بها؛ يتغنى في نصوصه، بالطبيعة، مستحضراً عوالمها (الفصول- الشتاء- القطف -السحاب- العاصفة-البحر- ظلال- عباب- نجمة...)، يقولون " كثير الشعر ألهمته الطبيعة ".. لذا لا غرو أن تُلهمه الطبيعة وتشغف قلبه، ويبحث فيها عن القضايا التي يطرحها؛ علاقته بالطبيعة وطيدة، وعشقه لها كبير، مُعجب هو بالجبال والوديان والبحار والشواطئ، يحمله ذلك للتجوال والسفر إلى مناطق الطبيعية حيث تفتح له سحرها آفاقاً واسعة للتأمل والاستشراف بفعل تناقضاتها المتأرجحة بين السكون، والجموح، والقوة والهوان.
النورس بين القصة والقصيدة
ظاهرة استرعت انتباهي وأنا أستمتع بقصائد " المرافئ"، بدتْ لي بعض النصوص عبارة عن قصص قصيرة، " في المطار"، ص/15/، و"ليل غرناطة السرمدي "ص /15/، و "امرأة خارج الفصول" ص /39/، و"ضفاف قصية" ص /53/.. الشاعر رضوان فيها حكّاء ماهر.. يحرص فيها على الزمكان، والبطل والحدث، والعقدة والتنوير...هو تداخل بين القص ونظم الشعر مطلوب لخلق جنس أدبي واحد هو النص الشعري، لذا لا يخلو نص في الديوان دون لمسة من مقومات الكتابة القصصية كالوصف والحكي.
النورس وضربة المعلم
يقول في قصيدة " اثنان" ص /49 / {أعتبرها مليحة الديوان}:
"واحد تسكنه المسافات
المتدفقة
في أروقة المدى،
وانسيابات الأشياء المضمرة
في طراوة الذهول،
يحمل خيباته واحتضاراته
قيثارة للفلوات
/.../
وآخر فقد نسغ الحياة
فأضرم ظمأ السنين
في أوداجه ثمّ استكان،
في انتظار موت هادئ
وترانيم جنازة سائرة".
"الأول تسكنه المسافات، والآخر/ الثاني فَقَد نسغ الحياة"، أيهما رضوان هنا؟ الأول؟ أم الثاني؟، وإذا افترضنا وجودَ ثالث، ألا يكون ترياقاً لهذا التيه بين المشّاء / الأول، والميّت/ الثاني؟ ألا يُلِح الأول والثاني في طلب الثالث؟ أليس الشاعر رضوان، هو هذا الثالث مثلا، ومن يدري، ربما، هو امتداد لكل الأرقام المتبقية...؟ لاحظوا معي أيضاً - وهذه "ضربة معلم" أسجلها للشاعر رضوان - استعمالاته للفعل في هذا المقطع.. مع "الأول" يوظف المضارع "تسكنه"، ومع "الثاني" يختار الماضي "فَقَــد".. واحد متحرك، والثاني ثابت. عالمان متناقضان.. فما الرسالة التي يبغي رضوان إيصالها؟
يقول شارحاً:
"كل واحد منا يعيش هذا التناقض أو هذه المفارقة، هذا الصراع الدائم والأزلي في ذاته بين الجموح والاستكانة والاستقرار أو التيهان. هذه الأشياء هي التي تجعل الواحد منا مختلفاً ومتميزاً عن الآخر، وليس نسخة منه. أنا الأول والثاني وربما الثالث وإن شئت أنا إلى مالا نهاية، أنا هذا المتعدد وهذا المتشظي في العوالم. فهذه الجدلية هي المكون الأساسي لهذا الكائن التائه الذي يبحر من وإلى مرافئ التيهان"
النورس اللغوي والموسيقي
{ات} حرفٌ صوتي سيميولوجي، يرفرف في "مرافئ التيهان"، كطائر السنونو، فوق كل القصائد بدون استثناء، تَفتتنُ به النصوص حد التماهي في {الشرفات- الشهوات-الغجريات- المتاهات- الراقصات-النهايات-الرقصات- الرغبات-الخيبات- المفازات- المسافات- الاحتمالات- الخسارات- الصباحات-الفلوات- النداءات-القبلات- الهمسات- النايات-الكلمات- الحكايات- القطارات- المساءات- المتاهات- اللذات-الأصوات-البدايات-الجهات-الأغنيات- الغيمات...}، يصل العدد منه لـِ/44 /صوتاً، اثنان منها ( الشهوات – المسافات ) مُكرر كثيراً ؛صدى هذا الصوت يتكرر في آخر السطر/ البيت الشعري كنوتة موسيقية. في سيمفونية رائعة.
لنقرأ مثلا قصيدة " أصداء تأبى الأفول" ص /117/
"لدي الآن ما يكفي
من الخطوات
لألتفت فأراني
لا ألوي على شيء
أثني المسافات
أغالب فيك البعد
بالنبيذ والأغنيات".
وفي قصيدة" في الشاون ضاع مني ظلي" ص /94/:
" والليل يسري بنا
يستدرجنا على منابع اللذات
ولنا كل هذا السكون،
ثم طفقنا نقطف الشهوات
/.../
وعطر جسدها الناصع
يلفني من كل الجهات"
هذا الصوت "روِيّ" مُتوج في نصوص كثيرة كما قلت، ولا تخلو قصيدة إلا صدح به الشاعر، يتكرر في قصائد كثيرة، فيمنحنا، بانسيابية عجيبة، إيقاعاً داخلياً، وخارجياً.. ولعله راهن عليه في موسيقى النصوص، ليسحرَ به القراء.
يعلق قائلاً:
"صراحة أنا أوظف الكلمات والجمل والاستعارات والمجازات التي تليق باللحظة الشعرية التي أكون فيها أثناء الكتابة، ولا أختار كلمات معينة لإثارة انتباه القارئ مثلا أو إبهاره. أنا اكتب لذاتي أولا، ولذلك لا أضع في حسباني، أثناء الفعل الإبداعي، قارئاً معيناً.. وهذا هو الطقس الوحيد الذي أحرص عليه وألتزم به أثناء الكتابة وأحاول إفراغ كل الشحنات الشعرية واللغوية في النص.."
بالإضافة إلى الصوت الموسيقي نقف على صور شعرية جميلة جداً رسمها باحترافية في "مرافئ التيهان".. لنقرأ مثلا في قصيدة "ضفاف قصية" ص /53/ و/54/":
"وهذه النايات البعيدة
تأتيني كأجراس كنائس
تدق في مهب الرحيل
سمفونية هذا الغروب
الذي لا يشبهني،
الملتصق بعُنقي
كأنما خِيط بجلدي."
السؤال هو:" ما هو الشكل الذي اتخذه في الديوان، وتحديداً في رسم "صور شعرية" أخاذة، أهو التقليد والتجديد، أم الترميز، أم أنه رسم أبعاد هذه الصور ودلالاتها على الثوابت البلاغية من تشبيه، واستعارة، وكناية، ومجاز؟
وبشكل خاص ينحاز رضوان بن شيكر في صوره الشعرية إلى استعمال الكثير من الاستعارات والمجازات والانزياحات اللغوية، وهي مكونات تتناسب بشكل جيد مع طريقته في الكتابة، فالشعرية المعاصرة هي كتابة بأكثر من دال، وهي انفجارات متتالية، في اللغة وفي الإيقاع، وفي الزواج الذي يحدث بين البياض والسواد.
يقول:"... عندما أكتب لا أراهن على هذه الأبعاد أو أضع في حسباني هذه التصورات، أنا اقوم فقط بالتقاط الصور والفلاشات وأضعها في السياق الشعري مع بعض التقليم والتشذيب."
أما عن اللغة فيستعمل في "مرافئ التيهان"، بحرص شديد، ألفاظاً وعباراتٍ مُتداولة، ومستهلكة، ولكنه يجعلها، بضربة معلم، تتسربل-انسياباً- في سياق بياني، متحكم فيه، من خلال اللغة وإمكانيتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع... كذلك يُلحف التركيب على مستوى الجملة، معطفَ الانزياح باستمالة لغة الإيحاء، والمجاز، والرمز ...كيف تهتدي لوسائل التعبير في الديوان بهذا الشكل البديع؟
العبارات والألفاظ في الديوان تنتقل من المستوى العادي المستهلك إلى المستوى الشعري الإبداعي الخلاق والخارج عن المألوف، وأعتقد أن هذا الفعل من وظائف الشعر المعاصر مع استعمال لغة شعرية عميقة إضافة إلى توظيف التراث، وهذا ما يضفي جمالية، ويهب للنص الشعري الحديث سمة التميز مقارنة مع النصوص التقليدية الغارقة في الاجترار والابتذال سواء في الثيمات أو الشكل ...وهذا ما يجعل الشاعر ينحاز، بشكل كبير، إلى الكتابة الإبداعية الحداثية لما لها من تأثير ووقع على القارئ من خلال العوالم التي تقدمها له.
يقول رضوان: "الشعر المعاصر ثورة في التعبير والتغيير وهو قبل كل شيء انفعال وتجربة. وقد أثبت عصرنته من خلال ما يتميز به شكلا ومضموناً، فالمعاني عميقة واللغة إيحائية فيها الكثير من التلميح والايماء .فالشعر لم يعد شعر مناسبات ومهرجانات أو مجرد أدب يطالع للترفيه والتسلية."، والشاعر يلجأ إلى الغموض جنوحاً عن التقليد، والسذاجة والبساطة، لذا يقوم بتكثيف الصور الخيالية و اقتحام المشاعر والانفعالات حيث يتلون النص بضبابية غموضية، فاتساع الأبعاد الثقافية وعمقها في عصرنا وتشبع الشعر الحداثي بها من ناحية ثم لجوء الشاعر الحديث الى تقصي ما وراء الواقع، ساعياً إلى استكشاف الجانب الآخر من العالم والنفاذ إلى صميم الأشياء وجوهرها، والانفتاح على عالم الأساطير غموضه وغرابته، من ناحية ثانية، ثم استخدام لغة شعرية جديدة لم تتعودها ذائقة القارئ كل هذا أضفى على الشعر الحديث غياباً دلالياً وتشتتاً في المفهوم، جعل من النص الشعري الحديث أحياناً لغزاً مغلقاً يقف أمامه القارئ العام، بل الناقد المتخصص حائراً وتائهاً.
وأنا أميل إلى الغموض أكثر في كتاباتي الشعرية ولا أحب الوضوح الفاضح الذي لا يترك مجالا لطرح الأسئلة واستقراء التجارب، سواء في الحياة العادية أو في الكتابة، وهي ميزة وليست تهمة وليس في متناول أي كان أن يقدم للقارئ نصاً شعرياً يتسم بالغموض والجمالية في نفس الوقت. فالشعر نقيض البساطة الساذجة والمستهلك من الكلام واللغة، الشعر أعمق وأبعد من ذلك بسنوات ضوئية.
" مرافئ التيهان" أم الديوان النورس
" مرافئ التيهان" عنوان جذاب، لا أنكر، لكني لوقُدر لي أن أختار عنواناً آخر غير هذا "لرسوتُ" دون تردد على " الديوان النورس" ؛ في ص /59/ من ديوانه نقرأ:
" نورس واحد لا يكفي"
نيابة عن كل عشاق حرفك، نطمع في دواوين أخرى، ونوارس مغردة.
ننتظر أن تحلق عالياً، ونقر أ جديدك.
دام لك التحليق شاعري؛ يطيب لي أن أهدي القراء هذه القصيدة من الديوان:
" في الشاون ضاع مني ظلي"
" ضاع مني ظلي
في الشاون تحت ضوء
خافت،
أسفل منحدر يطل
على الهاوية،
كنا اثنان
ثالثنا الرذاذ
المتساقط كمعزوفة أندلسية
تبث بدون توقف،
وعلى صدري تتماوج أنفاسها
كسفن تقاوم الغرق،
والليل يسري بنا
ملتهب الحواس
يستدرجنا إلى منابع اللذات
قالت للسماء نجومها
ولنا كل هذا السكون،
ثم طفقنا نقطف الشهوات
من أشجارها
ونسرق العصافير
من أعشاشها،
وفستانها الأحمر القاني
يعصف بتلابيب قميصي
كهبوب شديد،
وعطر جسدها الناصع
الشفاف
كشهد مصفى
يلفني من كل الجهات
كحنين جارف.
هناك في الشاون
ضاع مني ظلي
متسكعاً بين الأزقة الزرقاء
وفشلت في تعقب أثره،
أغلب الظن أنه
ليس وحيداً
ولن يعود أبداً"
***
ميمون حرش
........................
ملحوظة: المقال مستمد من حوار طويل لي مع الشاعر رضوان بنشيكر، منشور في كتابي "هؤلاء أسعدوا القراء-حوارات العرين " إصدار 2021.