قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في قصة (القلعة) لمحمود جنداري

تشريح الزمن الشاهدي وآليات الموصوف الصوري
توطئة: تتمازج آليات البناء السردي في مجمل تصورات وتشكلات الأهمية الوظائفية في قصة (القلعة) للقاص محمود جنداري، بما يوفر للقراءة والتلقي ذلك التماسك في عمليتي (السياق ــ الوظيفة) لذا أصبحت جوهر عملية القص في موضوعة القصة القصيرة موضع بحثنا، وكأنها عملية ل (تشريح الزمن) عبر ذلك المحور الشاهدي من حسية المكان السياقي الموغل في محكي رؤية ذلك السارد الذي غدا ينقل لنا مؤثثات النص، كما لو أنه ذلك الناقل الحكواتي لصور وهيئات ومواضع مكونات وشخوص وتواريخ وغبار مداخل تلك المدينة المرجعية. وعلى هذا النحو صرنا نعاين عملية المسرود الذاتي لأهم جزيئيات حكاية القلعة ومجموع تشاكلاتها المرجعية في الحكي الذي أخذ لنفسه ذلك النوع من المسرود العرضي غالبا، مما جعل تمفصلات سياق النص منكفئة على حدود وثيقة موغلة في الهيئة السياقية دون ذلك الولوج التمثيلي لفحوى مستلزمات العاملية الذاتية في وظيفة الحكي المسرود عرضا.
ــ الاسقاطية الفضائية في حكاية الشاهد العاملي
1ــ البنية الزمكانية:
إذا عاينا من جهتنا نحو تلك الأبنية الزماكانية لحدود مسمى (القلعة) لوجدنا ثمة مؤطرات خاصة للمادة المحكية، إذ ألفيناها موسومة بذلك المجسد الزمكاني وبتواريخ ومسميات واستدلالات فقدت بعض من أدوارها المشكلة للمعنى المستقل في مسعى الوظيفة التخييلية. لذا يطول وصف وعرض رحلة السارد الصوري، وهو يجتهد في توفير أقصى الدلالات الثبوتية للزمن المرجعي لذلك المبنى التاريخي النابض بحركة القلق والاغتراب الزمني الفاصل بين مرجعية الحوادث الواقعة في أوليات الطبيعة التاريخية للصرح الحجري (القلعة ؟؟) وبين ذلك السارد الذي يحاول أن يحفز قابليته التخييلية في أضفاء حركة ولمسة وجودية جديدة إلى أولئك الندل والخدم والأسود السبعة وأبوابها المغلقة منذ تمنع الغبار والأتربة عن الكشف عن ملامح الهيئات داخل حواضن القلعة: (فتح الندل أبوابها في وقت مبكر من بعد ظهر يوم الخميس، فأندفع هواء ساخن حار مسعور مفاجىء.اندفع يصخب ودخل الحانة من كل أبوابها فأزاح أغطية الموائد المرمرية الآخذة في التشقق والتلف. ومن الحانة أنطلق الهواء في المدينة يجوب شوارعها محدثا ضجة عنيفة تراجعت مع الظلال داخل أزقتها بعد أختناقها بالهواء الساخن الذي يوحي وكأنه منبعث من جحيم مشتعل. / ص24 ــ مختارات من القصة العراقية الحديثة) ومن خلال تصعيد سياق عنف الزمن الميثولوجي الخارج من بواطن حصون القلعة يتولد الزمن النفسي السارد في دخيلاء العوالم الهيكلية لأرواح الندل داخل الحانة القلعوية، حيث تتسيد تلك الرياح الساخنة كفضاء محمل بروائح وآثار الأسرار والتواريخ والأسلحة والتماثيل التي تحتفظ بها حصون القلعة منذ ربع قرن. إنها أي ـ القلعة ـ مغامرة زمكانية مؤسطرة من قبل مستوى الشكل والمضمون المصائري للوقائع الميثولوجية المدونة فوق أدراج خزانات الملفات والمخطوطات القديمة، أنها إذن ملفوظا لسانيا ـ حكائيا فحسب من وجهة تبئيرات السارد الصوري الذي غدا يؤثث فراغات الزمن الحضوري بالصور والرموز والهيئات المحنطة للندل والأسود والأجساد الخاصة بالجنود فوق مقاعد وأرائك الحانة.
2ــ المنظور اللازمني في رؤية السارد الدمجي:
في وضع آخر، يدمج السارد مستحضرات وجوده اللازمني داخل محددات زمكانية غير منتهية من بناء القلعة: (لم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي أدخل الحانة من بوابتها الأمامية. لا أحد يعرف أين البوابة الأمامية. ليس لدي وقت للانتظار أكثر من هذا، لقد أغلقت منذ ربع قرن وكنت آخر من خرج منها. / ص24) كما يتم الادماج بين زمن السارد مضافا إلى زمن سياق (ربع قرن ؟؟) بأسلوب يكشف لنا بأن الصيغة الظرفية للحال الساردي، لا تفصل لنا بين مروية وقائع الزمن القلعوي وزمن الحاضر الوصفي للسارد: فهل الصوت الساردي هو مرآة مونولوجية تعكس حقيقة الانتماء لذلك الزمن القلعوي ؟ أم أن الصوت السردي في سياق تبئير خطاب ميثولوجي مؤثث بروح حكاية المكان ؟ الجواب إن لغة السارد العليم في النص تشف عن تحقق هوية (السارد الصوري ؟) الذي يتكفل بجمع شيفرات عملية إنتاج المكان ضمن مشخصات تتحرك كدمى متخيلة تضفي على ذاتها طابعا يكاد أن يكون تناصيا إذا شئنا قول هذا أو ما يمنح هوية السرد دينامية تشريحية خاصة في قراءة وتوظيف الزمكانية (المافوق ـ الواقع).
3ــ التشخيص الحكائي: انشطارات آفاق التخييل
لعلنا بعد اطلاعنا على بعض من الوحدات السابقة واللاحقة من الأجزاء النصية، أصبحنا نتوخى دقة المقاربة في مكونات المواضع الخاصة في مسار الصوغ للسارد الحكائي وانعراجاته عبر عوالم امتدادات التذكر والتخيل والاستيهام: (منذ ربع قرن وأنا أتوهم بل أمني نفسي بأن أكون أول الداخلين إليها عند إعادة فتحها، أحاول أن أكون متواجدا مع الندل الأوائل: ميخائيل، وبطليموس، والحمزاوي، ومع الرواد القدامى الأصدقاء: جرجيس، وإبراهيم، ويافث، مع الشيوخ الكبار والأسطوات المهرة في حفر الأقبية وتلسين القبور والمجاري والنقاشون ونقارو المرمر ــ وأحاول أن أكون أكثرهم إلتصاقا بالحانة، مكانا وبشرا، ومسافة الزمن تتوثب عبرها أفكار متوحشة تحاول أن تنطلق خارج معتقلاتها. /ص25) لعل العلامة الوحيدة التي تثبت بكون السارد أداة افتراضية شاخصة بحجر الأساس المفترق بين زمنيين مختلفين، هوذلك الأمر الذي جعل من الفضاء الآنوي له (منشطرا داخليا) أو أنه محاطا في الحد الأدنى بين خطابين (الماقبل ــ المابعد ؟) وصولا إلى قواسم مشتركة بين ماهية الزمكانية الموظفة في كلا الزمنين. وربما نسأل بعبارات موجزة: هل أن السارد ينتمي إلى أحاسيس ذلك المبنى القلعوي كعلامة تتماثل من خلالها جميع وسائط الإمكانية المرجعية في محتوى الحكاية ؟ أم ترى أن السارد راح يدمج فردانية المكان بخلاصات تقاربية من زمنه الاختلافي فغدا بذلك ــ ساردا صوريا ــ يفترض تحفيز العلامات المكانية بحجر من اختلاف الأزمنة ؟ لعل الجواب في أغلب الأحيان هو ما يقودنا إلى تفحص (المتتاليات) السيرورية للزمنين فكلاهما يشكلان بذاتهما حالة من حالات (الأركيولوجيا الاسترجاعية ؟) في الزمن وصولا إلى لحظة من لحظات الطبيعة المكانية والذاتية المسكونة بهاجس الاستبعاد اللازمني أو اللامكاني، أي أن القاص جنداري اراد من وراء عيش سارده المشارك الفات رؤية جديدة بين (الأصل ــ الإظهار ــ التعارض ــ الافتراض) حتى تكون العلاقة بين الزمنين بمعنى رؤية حول تشريح الزمن المنظور وتأسيس نواته من خلال مفترقات شاهدية في دائرة ضوء (الراوي الصوري) الذي يسعى إلى خلق حالات مسرودة عرضا وذاتا لأجل تضمين الحضور بالأفعال المنفية في خطاب سرديات صورية بانورامية تمنح للأشياء خواصية الاستراتيجية الاسطورية وعلاماتها المؤشرة في بنية المسرود كعلاقة رؤية وعلامة وإيحاء.
ــ أسطرة الموصوف وأسطورة الواصف الإمكاني
قد تكون (أسطرة الموصوف ــ الأنا الواصفة) هي السمة الأكثر تحديثا في مراحل نمو الرواية والقصة والقصيدة والفنون الجميلة، خصوصا ونحن ندرس قصة من قصص مجموعة (مصطبة الإلهة) للقاص محمود جنداري الذي أفتتن بوظائف تحفيز المكان السياقي تركيزا ومعالجة وتشكيلا. أردت أن أقول أن ما يهمنا في حيز قصة (القلعة) هو أنضواءها تحت يافطة الأدب المرجعي المؤسطر في الوسائط والانطباع والعلامة والتخييل، لذا فإن المعيار الأوحد في هذا النص القصصي هو (تشريح الزمن) بوسائط مؤسطرة تفصل وتدمج تخوم المكان المرجعي داخل مواقع واصفة بمجريات الأداة الإمكانية. فالموقع المكاني والزمني في هيئة مسرود السارد، غدا مسجلا عبر جهات (مفهوم الراوي = الجهة = مسافة الصور المتخيلة) فالسارد في وسائط النص هو الأداة الواصفة للعوالم الزمكانية للقلعة، وقد تتغير مجريات مدار حكي السارد إلى مستويات معادلة تتمثل من خلالها وسائطية (الإطار اللازمكاني) بصيغة جهات زمنية ومكانية غير متموقعة في مفاصل سياق السرد. ولكن الأبرز من كل هذا، هو ما لاحظناه في كون المتكلم الوحيد في القصة ليس بطبيعته ممن ينتمي إلى المسافة الواصلة بالهيئة الزمكانية للقلعة، إنما هو الحاكي والشاهد والواصف الذي بات متخيلا في اللانتماء لجهات زمنية بكافة عوالمها الموقعية الواضحة والدالة: (كنت أشعر أنني تآلفت بصورة نهائية مع ندلها وظلامها المتربص في الزوايا البعيدة، ورائحتها الآتية عبر تيارات الهواء العنيفة الداخلة والخارجة من أعماق قبو مظلم رطب ملحق بنهايتها. / ص25).
ــ تعليق القراءة:
يحق لنا الجزم بأن نقول أن قصة (القلعة) للقاص الكبير محمود جنداري، هي من النصوص التي أنحصرت بالأساس على عملية إنتاج حساسية الزمكانية المتعلقة ضمن دائرة المتن المرجعي أو السياقي، لذا فإن طبيعة التعامل مع هذا النوع من الموضوعة يتطلب من القاص توظيف ساردا صوريا ينخرط في استجلاء مادة الحكي في ممارسة حدوثية تكتسب بأنباء النص على وفق أشكال مكانية لها كل التباين في القصد والإيحاء ولها كل المقصدية الحيادية في الانفصال والوصال مع تمظهرات صيغ إبداعية تتعامل مع متواليات الزمن الغابر والحجر الفاتر وكأنهما الاستجابة الأرسالية الرابطة في كفاءة الأداة والعامل والخصوصية المنتجة والمؤولة لمعنى الحدود الممكنة للنص المكثف اعتمادا والموسع اختزالا عبر خاصيات الاضفائية الجمالية لأجل لخلق تجربة الأداة المائزة أثرا وتأثيرا في إنتاج آليات المعنى المفترض.
***
حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد