قراءات نقدية
فى ذكرى مرور قرن على ظهور رواية مدام دالاوي

مدام دالاوي والحداثة في الأدب
بقلم: مالليكا ديساي وكونال راي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
بأسلوبها التجريبي وتأملاتها الجميلة في الحياة والفقد، تُعد رواية مدام دالاوي لفرجينيا وولف نصًا حداثيًا معقدًا وجذابًا في آن، وأحد أهم الأعمال في المدونة الأدبية البريطانية. تتبع الرواية حياة كلاريسا دالاوي، سيدة من علية القوم، وهي تستعد للحفل الذي ستقيمه مساء ذلك اليوم. كما تُعد واحدة من أكثر أعمال وولف تحديًا، وقد يجدها القارئ غير المعتاد على أسلوبها صعبة منذ البداية. يتجلى هذا في أن الرواية تبدأ بإلقاء القارئ مباشرة في خضم يوم كلاريسا وتدفق أفكارها، دون أي شرح مسبق. إلا أنه ما إن يفهم القارئ استخدام وولف لتقنية تيار الوعي، حتى يصبح من السهل فهم السرد، مما يتيح له التأمل في القضايا التي تعالجها الرواية.
يُعد عمل وولف نصًا حداثيًا مهمًا لأنه يكسر القيود التقليدية بعدة طرق. فهناك مواضيع متعددة تُتناول في الرواية مثل المثلية الجنسية، والاضطرابات النفسية، والتواصل والخصوصية، والاضطهاد، وغيرها، وذلك من خلال الشخصيات، وبنية الحبكة غير التقليدية، والأسلوب السردي. كما أن استخدام وولف لتيار الوعي له أثر فاعل في هذه العناصر أيضًا.
تدخل الرواية في التأملات الداخلية لشخصياتها، مما يخلق تأثيرًا نفسيًا واقعيًا وقويًا. وتُعتبر فرجينيا وولف واحدة من أبرز المدافعين عن تيار الوعي، إذ تتيح للقارئ الدخول إلى عقول وقلوب شخصياتها. فهي تضيف مستوى من الواقعية النفسية لم تتمكن الروايات الفيكتورية من بلوغه. فالأحداث اليومية تُرى من منظور جديد، حيث تُستكشف العمليات الداخلية للشخصيات، وتتنافس الذكريات على الحضور، وتظهر الأفكار دون سابق إنذار، وتُمنح الأمور العميقة والتافهة على حد سواء نفس القدر من الأهمية. وهكذا يُحاكي أسلوب الرواية أنماط التفكير البشري، حيث تتدفق الأفكار دون توقف، وتنتقل فجأة من فكرة إلى أخرى أو من ذكرى إلى أخرى. لذا تشد الرواية انتباه القارئ وتجعله مشاركًا نشطًا في أحداث اليوم.
ينبع انخراط القارئ من غياب الراوي الواحد. إذ تُروى الرواية كاملة من خلال المونولوجات الداخلية للشخصيات، لا من خلال الحوارات الخارجية. وهنا تلعب وولف بفكرة الحوار، حيث إن معظم الشخصيات لا تتحدث بصوت مسموع، لكن تياراتها الفكرية الداخلية واضحة بما يكفي لتوضح التفاعلات فيما بينها. ويتعزز ذلك بتعليقات خفية على السلوكيات الظاهرة والمظاهر الخارجية.
ما يجعل مدام دالاوي رواية ساحرة بحق هو الطريقة التي تنتقل بها الوعي بين الشخصيات بانسيابية تامة. ومع ذلك، فإن هذه التحولات دقيقة وقد تمر دون أن تُلاحظ. قد لا يكون القارئ مستعدًا في المرة الأولى التي تُدخل فيها وولف وعي شخصية أخرى في السرد، والسهولة التي يتم بها ذلك تجعله يتوقف لوهلة ويتساءل عن كيفية تغيُّر وجهة النظر فجأة. تكمن براعة الكاتبة في طريقة صنعها لهذه الروابط، باستخدام أحداث يومية اعتيادية لربط الشخصيات من خلال الزمان والمكان. وكما تتبدل الأفكار، يتبدل الوعي، ويجب على القارئ أن يكون يقظًا لتحديد اللحظة التي يتغير فيها السرد. وتستخدم الرواية هذا الأسلوب ببراعة، خاصة أن الجمل تُصاغ لتتدفق كالأفكار تمامًا.
لذلك، فإن مدام دالاوي ليست رواية تقليدية من حيث السرد. إنها أشبه بفسيفساء من الذكريات والأفكار المتداخلة لشخصيات مختلفة مجتمعة معًا. تجمع بين الماضي والحاضر، وتُفسح المجال لتقاطعات متعددة للمنظور في يوم واحد. أما من حيث الحبكة، فإن الرواية تدفعنا لتجاوز بنيتها الظاهرة وفهم كل شخصية وما تمثله. تلعب الرواية على ثنائية الزمن والزمنية، عبر التنقل بين الماضي والحاضر، مما يعكس التقلّب العاطفي والزمني لدى كلاريسا. والانتقالات بين الأزمنة سريعة حقًا، لكن عقولنا بدورها قد تكون سريعة التحوّل بنفس القدر. فالبشر يبدو أنهم خاضعون لزمن الساعة الذي يتقدم بلا توقف، لكنهم في الواقع ليسوا كذلك. إذ إن عقولهم تتجاهل الزمن الخارجي وتتبع نوعًا آخر من الزمن الداخلي. وتركز الرواية على هذا الإحساس الداخلي بالزمن وتُقابله بمفهوم الزمن الخارجي، عبر تقدم اليوم. وتُعد ساعة "بيج بن" رمزًا دائمًا للزمن في الرواية، إذ تربط حياة الشخصيات من خلال مرور الوقت. وتستخدم وولف بقية المدينة للحفاظ على الإحساس بالزمن أيضًا. فالرواية تكاد ترسم خريطة لمدينة لندن، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من حياة شخصياتها.
وعليه، تُعد مدام دالاوي رواية حداثية مفصلية، لأنها تبتعد عن فكرة وجوب تقديم "حبكة" محكمة للقارئ. فقد رفضت وولف بنفسها أن تكون عبدة للحبكة. وبينما كانت الرواية الفيكتورية التقليدية تولي أهمية كبيرة للبنية والشكل، فإن وولف تركز في روايتها على "لماذا" و"كيف" يحدث الحدث. لا تُقدم الرواية تسلسلاً زمنيًا للأحداث المهمة فحسب، بل تتنقل ذهابًا وإيابًا عبر الزمن، لتُمكِّن القارئ من عيش اليوم ذاته من وجهات نظر شخصيات متعددة. وبهذا، يُعاد تقديم التجربة والذاكرة بطريقة جديدة – كسلسلة غير مترابطة من الأفكار.
لا تتناول الرواية شخصيات ممزقة بين الماضي والحاضر فحسب، بل أيضًا بين مثاليْن متعارضيْن: التقاليد والحداثة. يظهر هذا الموضوع في تأملات كلاريسا، إذ تكافح لإيجاد توازن بين الحفاظ على الدور التقليدي الذي تشغله، وتخيل الحياة التي كان يمكن أن تعيشها لو أنها اختارت التمرد على الأعراف. وتذكّر شخصيتها بشخصية هِيدا جابلر في مسرحية هنريك إبسن، والتي عانت هي الأخرى من قيود المجتمع الفيكتوري وانتهى بها الأمر إلى الانتحار. هذا ما يتقاطع مع نهاية مدام دالاوي حين يقدم سبتيموس – لا كلاريسا – على الانتحار، لأن المجتمع لم يستطع تقبُّل مرضه النفسي أو توفير المساعدة الكافية له.
كما أن ابنة كلاريسا، إليزابيث، ممزقة بدورها بين نموذجين: الأم التقليدية، والسيدة كيلمان التي تمثل المرأة العصرية الجديدة. غير أن فرجينيا وولف لا تستخدم الرواية لتُرجّح إحدى المرأتين أو تُفضّل المنظومة التي تمثلها إحداهما على الأخرى، بل تكتفي بتمثيل تعايش التقليد والحداثة جنبًا إلى جنب.
تُجسّد شخصياتها بشكل فعّال نماذج كاريكاتورية لمُثُل المجتمع الفيكتوري، ومع ذلك تبقى قريبة من القارئ بسبب اطلاعه على أفكارها وطريقة معالجتها لحياتها الداخلية. وبذلك، تبعث مدام دالاوي برسالة تدعو إلى ضرورة تحوّل المجتمع في طريقة تفكيره، لا بمجرد وصف أفعال الشخصيات الظاهرة، بل بكشف تياراتهم الفكرية الداخلية. وقد ذكّرني هذا، كقارئ، بعمل إرنست همنجواي أهمية أن تكون جادًا، وهو هجاء للمجتمع الفيكتوري وأعرافه. غير أن مدام دالاوي تُسلّط الضوء على الطبقة العليا في المجتمع، وتُقابلها بشخصية سبتيموس، الجندي السابق الذي شهد أهوال الحرب. وتُوجّه وولف نقدًا لاذعًا للطبقات الحاكمة، لاهتمامها الزائد بالبذخ والمجاملات الاجتماعية، في وقت يعاني فيه أشخاص مثل سبتيموس من صدمات عميقة بسبب غياب الفهم والرعاية في المجتمع.
ومن خلال شخصية كلاريسا، تُبرز وولف كيف أن دورها كمضيفة حفلات ليس سوى صورة للحياة المرسومة لها، مشيرةً بذلك إلى الكيفية التي صُوِّرت بها الشخصيات النسائية في الأدب ما قبل الحداثي. غير أن ظهور الحداثة الأدبية قدّم لنا شخصية مثيرة للاهتمام في كلاريسا، إذ رسمت وولف توازنًا بارعًا في ملامحها، وفي الوقت ذاته سمحت لصراعاتها الداخلية بالظهور من خلال مونولوجاتها الداخلية.
أرادت وولف أن تكون كلاريسا صوت "الحقيقة العاقلة"، بينما يكون سبتيموس صوت "الحقيقة المجنونة"، وقد مكّنه انفصاله عن الواقع من إصدار أحكام قاسية على الآخرين، لا تستطيع كلاريسا إصدارها. ورغم أنه يبدو مختلفًا عنها على السطح، إلا أنه يشترك معها في سمات عديدة. فبصفته "الظل" أو "المرآة لها"، يُجسّد سبتيموس التناقض بين الصراع الواعي لقدامى المحاربين من الطبقة العاملة، وتلك الرفاهية العمياء التي تنعم بها الطبقة العليا. ومعاناته تُشكّك في الكيفية التي يعمل بها المجتمع الإنجليزي. وبما أن أفكاره تتردد كثيرًا في ذهن كلاريسا، تصبح الحدود الفاصلة بين ما يُعتبر عقلانيةً وجنونًا أضيق فأضيق.
رغم أن الأمر قد يحدث تدريجيًا، إلا أن القارئ يُدرك في النهاية أن سبتيموس وكلاريسا، رغم أنهما يبدوان نقيضين تمامًا للوهلة الأولى، متشابهان إلى حدّ كبير في نظرتهما إلى الحياة. فكلاريسا دالاوي، من خلال حفلاتها – رغم سطحيتها – تمنح نفسها للعالم وتشارك في الحياة. أما سبتيموس، فرغم توقه لذلك، فإنه عاجز عن مشاركة الآخرين حياتهم أو العطاء لهم، لأنه لم يبقَ لديه شيء ليمنحه.
وهكذا، فإن الرواية، والتي حملت اسم مدام دالاوي عن حق، تُصوّر مجتمعًا يتمحور حول العلاقات التي يقيمها المرء مع الآخرين. والفكرة التي تنقلها وولف هي أنه، رغم امتلاك الإنسان لأفكار داخلية فردية، إلا أنه يظل خاضعًا لعلاقاته الخارجية. كما تتناول الرواية شكلًا من أشكال الأسر، إذ تسعى الشخصيات للعثور على هويةٍ لها، لكنها تبقى مقيدة بالزمن، ومتطلبات المجتمع، والحرب، وغيرها. ومن هنا، يسري في الرواية شوق عميق إلى الحرية.
تُعد مدام دالاوي عملًا حداثيًا بالغ التحدي، لكنه أيضًا مثالٌ نموذجي، يضم بين دفّتيه طيفًا واسعًا من الموضوعات والأفكار، مما يجعله كتابًا لا غنى عن قراءته لأي شخص مهتم بالأدب.
(انتهت)
***
.................
* مراجعة كتاب – مدام دالاوي لفرجينيا وولف