قراءات نقدية

فؤاد الجشي: رواية "صوت الحمير" لأيمن العتوم

الذكريات وحدها شاهدة على الفلوات التي مررنا بها، كنّا صغارًا نلعب ونلهو في المزارع والنخيل، وكانت الطبيعة تزف الناظرين، الهواء، المطر الذي كان فورة بركان تتفجر داخل العيون العميقة. وبين الحقول نشاهد العصافير بأشكالها وأنواعها، وما بين المرامي نرى تلك السمكات الصغيرة التي نسميها "الحرسون"، ومن هذا وذاك نرى الحيوانات بأنواعها في الحقول ترعى بالعشب الأخضر، منها البقر والحمير، تلك الدابة التي يستخدمها بعض الفلاحين في التنقل والنقل. بل تراها تجرّ عربتها في الأسواق، تقف مع مالكها تنتظر زبونًا عازمًا للذهاب إلى قريته يحمل احتياجات منزله.

لكنّ الحمار يزدان بأنواع الحنّاء التي تصبغ على جسده، فهي شفرة المالك عندما تضيع أو تُسرق. ولك من الجهالة جزء منها، مع شقاوة اليوم، قد ترى حمارًا يمشي لا مالك يملكه، ضائعًا في أرض الله، وقد يقوم بعض الصبية بإيذائه بالعصي والحجارة، فتسمع نهيقه متألمًا من أفعالهم الشنيعة، وهم يهرجون ويضحكون بكلّ فرح وسرور. بقيت تلك الذكريات مؤلمة في حقّ الحمار الذي يحمل أثقالًا ينوء الإنسان بحملها.

تداعت هذه الصور التراثية إلى مخيلتي وأنا أقرأ رواية "صوت الحمير" للروائي أيمن العتوم، وهي رواية لم تتركني كما كنت قبل قراءتها، إذ ما إن أغلقت آخر صفحاتها، حتى وجدتني أبحث عن أعمال أخرى لكاتبها. الرواية غريبة في فكرتها، مدهشة في طرحها، وتنبض بشيءٍ من السخرية الحزينة التي تُشبه صرخة مكتومة. تدور أحداثها حول الشيخ علي، الرجل الذي كان يومًا غارقًا في السكر والإهمال، ثم جرّته خيانة زوجته وعشيقها إلى لحظة دموية دفعته إلى قتل الاثنين. تلك الجريمة فتحت له باب التوبة، فهرب من قريته، وذهب إلى مصر، حيث التحق بالأزهر وتخرّج إمامًا، ثم عاد إلى قريته ليقود الناس إلى الخير، أو هكذا أراد.

لكن عودته لم تكن خاتمة، بل بداية حقيقية لرحلة أخرى، رحلة وجودية، جسّدها شراؤه لحمار لم يكن يعلم أنه يتكلم. أبو صابر، الحمار الذي يخفي لسانًا بشريًا، وعقلًا ناضجًا، وقلبًا صبورًا. لم تكن العلاقة بين الشيخ علي والحمار علاقة مالك بمملوكه، بل تحوّلت إلى علاقة إنسان بمرآته، بظلّه، وربما بضميره. عبر الحوارات التي تنشأ بينهما، نكتشف عالمًا جديدًا، حيث للحمار رأي وحكمة وتأمل وسخرية لاذعة من بني الإنسان.

في مسيرتهم بين القرى، يتعرضان لمواقف عديدة: الذئاب، السقوط في الهضاب، الضياع، والموت المحدق، وكلّ موقف يحمل تجربة عميقة، يكشف فيها أبو صابر للشيخ علي شيئًا من نفسه ومن الحياة. حين يسقط الشيخ في هوة جبلية وتبدو نجاته مستحيلة، يعود الحمار، في لحظة وفاء ويجلب له النجدة من المدينة، في لحظة اختزلت كلّ شيء. لم يكن مجرّد إنقاذ، بل كان إعلانًا صامتًا عن عمق العلاقة، وعن إنسانية هذا الكائن الذي نُسقط عليه كلّ صفات الغباء والبلادة ظلمًا.

الروائي جعل من الحمار حكيمًا، بينما يجعل من الإنسان موضع التساؤل. قلبَ الصورة النمطية، ليجعل القارئ يعيد النظر في تصوراته الثابتة. فالحمار في ثقافتنا الشعبية رمز للغباء والهوان والاستغلال، بينما هو في الحقيقة مخلوق صبور خدوم، لا يشكو ولا يُقدّر. نسج الكاتب روايته بأسلوب يجمع بين السرد التقليدي والحوار الرمزي، بكلمات مشبعة بشاعرية العتوم المعهودة، وبتأملاته التي تغوص في النفس والدين والوجود، أدت إلى أن تجتمع في شخصية القارئ صفات متضادة، فهو يبتسم ويتألم ويغضب ويتأمل، في آنٍ واحد.

الرواية لا تقف عند حدّ التوبة، أو علاقة الشيخ بالحمار، بل تتجاوزها لتمسّ قضايا أكبر، كالعدالة والرحمة، وأهمية الإنصات إلى الآخر، وفكرة من يملك "الحق في الحديث"، ومن تُمنح له سلطة التوجيه. وربما كانت الرواية كلها صرخة في وجه مجتمع يُقصي المختلف، ويصنف الكائنات، ويمنح التفوق لمن يملك الصوت الأعلى، لا العقل الأعمق.

حين أغلقتُ الرواية، قفزت إلى ذهني مرة أخرى تلك المشاهد التراثية التي تداعت حين كنت أستمتع بقراءة الرواية. كانت مجرّد مشاهد عابرة، لكنها اليوم صارت مشاهد دامعة، بعد أن أعطى العتوم صوتًا لمن لا صوت له. لقد قدّم لنا درسًا في الإنصات، وربما في الإنسانية.

***

فؤاد الجشي - السعودية

في المثقف اليوم