قراءات نقدية
عدنان عويد: دراسة نقديّة لقصة "روحٌ وخمسةُ ظِلال" للقاصة وطفة الفرات

وطفة الفرات.. هكذا أرات لاسمها أن يكون فراتيّاً بعظمة الفرات الخالد، الذي لم ينس عبر تاريخه الطويل من ارتبط به أو عاش على ضفتيه، حيث لازالت آثارهم متجذرة في تربته وشامخة كأشجار حوره وصفصافه، ترمي بظلالها على صفحات مياهه بفرح الخلود. فالخلود سر الحياة، وكل منا يبحث عنه في مهد ولادته وبالطريقة التي يمتلك فيها أدواته المعرفيّة أو الابداعيّة.
وطفة.. أديبة قاصة، فراتية التربة والهوى من محافظة الرقة. امتلكت ناصية اللغة، ومهنة الحرف وصياغته قلائد من شيح الفرات وكيصومه وغربه وطرفاه وورده الجوري، تتجلى في تربته ومائه وطينه وزله ونخيله وأهله وشعبيّة لهجتهم، الكثير مما كتبت من قصص أو خواطر عن حب أهل الفرات وأحلامهم وآمالهم وآلامهم وفقرهم وجوعهم وغربتهم وأفرحهم وأحزنهم. وما يميز "وطفة الفرات" تلك القدرة الهائلة على تصوير أحداث قصصها بدقة فائقة، كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة في الحياة والأدب معاً، مكنتها من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها وأحلامها.
بنية الحدث القصصي:
إن بنية الحدث القصصي لـ (روح.. وخمسة ظلال) التي بين أيدينا تحكي عن حالات فقدٍ لخمسة شخصيات شكلوا ظلال روح وجسد عند القاصة، مات منهم أربعة، وظل واحد شكل في القصة كلها ذاكرة إنسان تُرك حياً لا ليعيش.. بل ليتذكر. وأن تصير عيناه حافظةً لوجوه غابت، وصوتاً هو الوحيد الذي مازال ينادي أسماء لا يرد عليها أحد منها.
مع الفقد يملأ الحنين روح من فقد أحبته، ليفجر في داخل هذه الروح الألم وغربة الروح ذاتها، فمع حضور الحنين تقول "وطفة": (الحنين …ليس ما نشعر به حين نفتقد.. بل ما نشعر به حين نتألم لأننا ما زلنا نتذكر).
هم خمسة أخوة كما تقول القاصة (هي أصغرهم كانت مثل حافة قصيدةٍ لا تُقرأ، أو كلمة تُركت على الهامش، لكنها تشهد على كل المعنى.. خمسة إخوة كأصابع يدٍ كانت تمسك الحياة دون خوف ثم تناثرت.. كل إصبعٍ منها في جهة كأن الحياة تقول: لا تجتمعوا مجددا).
تقول القاصة "وطفة" عن سماتِ وخصائصَ كل فقيد منهم:
الأول: كان يغني.. وجمال صوته يفتح أبواب الفجر حتى أيقن أهله بأن الشمس لن تخرج إلا إذا غنّى. إلا أنه اختفى ذات صباح قالوا إنّه التحق بالغيم… وأمه كانت تقول وهي تكفكف الغبار عن وسادته: “من يرحل بصوته، لا يعود بجسده.”
أما الثاني: فكان يحلم كثيرا في مستقبل مزهر يعيش فيه.. كان يخطط كما تقول "وطف" لبناء مدنٍ فوق السحاب. ولكن خاب كل حلمه في عالم لا يعرف إلا الحرب والموت.. لقد أخذته الحرب وضاع حلمه الذي كان يرسم ملامحه في دفتره … ولم يعد منه لأهله إلا هذا الدفتر بعد أن حرقت نيران المعركة أجزاءً، وبقاء نظرة عالقة في صورة.. وفردة حذاء..
والفقيد الثالث" كان قلب العائلة كما تقول "وطفة" (إن ضحك ضحكت العائلة كلها، وإن مرض …مرضت السماء.). لقد أصابه المرض في صمت، ومات في صمت، وكانت فاجعة رحيله في صمت أيضاً، وعند فراقه حزنت حتى السماء التي أبت أن تمطر لشدّة حزنها.
بقي الرابع من الأخوة الذي ناله الفقد. فهو توأم الروح والجسد للقاصة كما تقول "وطفة" كانا طفين لا يتفارقان.. كانا ينامان في فراش واحد، يتشاركان الغطاء والحلم والسكينة معا.. عندما كبر بدأت شقيقته تشعر بالغربة نحوه.. لم تعد ألفة الطفولة تهزه اتجاه شقيقته، حتى سألته أخته:
- أين هو صوتك الذي كنت تنادين به في طفولتنا..
- رد عليها: “دفنتُه كي أعيش.” فأي حياة هذه يا أختاه التي تطلب منا فناء حتى الذاكرة. ومن يفقد ذاكرته سيفقد وجوده في هذه الحياة ذاتها.
بقيت أخيرا القاصة.. بقيت كما تقول "وطفة" لتحرس أسماء إخوتها الذين غادروا عالمها الشقي.. بقيت تحمل صورهم في صدرها، الذي تحول فيه هذا الصدر إلى معرض لتلك الوجوه التي فارقتها.. تناديهم.. تكلمهم تناجيهم، ولكن لا مجيب. فأصبحت ذكراهم تثقل كاهلها، وشغلت حياتها، فجعلها هم الفقد وعذاب الروح (تجلس كل ليلة في فناء البيت القديم…تحمل قميصا لهذا… دفتراً لذاك…… صورةً للآخر… ودمعةً لما تبقّى.). لقد أصبحت الوحشة عالمها، واتخذت من الريح صديقا لها تناشدها أن تشفي حنيها، راجية منها أن تمر "بأسمائهم… لعلّهم يسمعون وهي تذكر الريح بأنهم أربعة..
أول.. ثانٍ… ثالث…. رابع…ومعهم حنينها وصمتها وفقدها…
تسطر "وطفة" في نهاية قصتها رؤيةً فلسفيّةً في عالم الفقد والعذاب والقهر: لم يعُد الغياب موتاً.. وفي عالم الغياب يظل الإنسان حياً فقط ليهتف بأسماء من ماتوا…من رحلوا، ولكن يظل لهذا الهتاف صدى شأنه شأن من رحل لن يعود. وعند الفقد يتفجر الحنين ليشكل عالم وجع الإنسان وغربته الروحيّة.
التكنيك الفني في القصة:
عنوان القصة: (روح.. وخمسة ظلال)، لم يأت عنوان القصة عبثياً، بقدر ما جاء عتبة سيميائيّة أوليّة لقصتها، مدروسة بدقة عالية، فهو تعبير عن موقف إنساني تراجيدي في جوهره، والمعادلة الفكرية فيه تأتي بين طرف الروح التي تشكل عصب حياة الإنسان وعنصر وجوده الفعلي، فعند ضعف الروح أو تلاشيها تضعف مسيرة حياة الإنسان وقد تنتهي، وبين الظلال التي تعني التلاشي أو الفقد.. فالظل الذي يغيب صاحبه، يبقى ولكن يتحول إلى ذكرى.
السرد أو الرؤية من الخلف:
في حالة السرد من الخلف يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيّة الروائيّة، فهو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. فالسارد كلي العلم. والسارد في هذه القصة هو الضمير المتكلم، وهذا ما أعطى القاصة القدرة على استبطان شخصيات قصتها واطلاعنا على عوالم تلك الشخصيات والجوانب الخاصة بها، رغم أن شخصيات القصة فاقدة لأسمائها، الأمر الذي تحولت فيه هذه الشخصيات في القصة إلى رموز لها دلالات أرحب وأعمق، قدمتها القاصة بأبعاد إنسانيّة تتكرر في المجتمع، وهنا يترك للمتلقي تأويل الأبعاد الفكريّة والإنسانيّة لهذه الشخصيات.
التمهيد للحدث القصي وخاتمته:
إن القاصة استطاعت من خلال خبرتها وعمق تجربتها وشفافية إحساسها، أن تمهد للحدث القصصي هنا وتهيئ الجو له بسلاسة وتنسيق عالٍ، يستجيب مع المواقف الواردة في بنية القصة بشكل يثير الرغبة عند المتلقي لمعرفة النهاية. فالقاصة مثقفة مهدت لقصتها بروى فكريّة عميقة تناولت فيها ربط الذكرة بالإنسان، وجعلت من هذه الذاكرة وسيلة لإثبات حياة الإنسان، بل جعلت الإنسان نفسه هو الذاكرة حيث تقول: (أن تُترَك حياً لا لتعيش..بل لتتذكّر). ثم ذهبت في مقدمة سردها إلى الاشارة (للحنين) الذي يتولد مع الفقد، وبالتالي نحن نشعر بالحنين لأننا نتذكر. بهذا العمق الفلسفي الذي ربطت فيه "وطفة" ما بين التذكر والحنين والألم في حياة الإنسان، مهدت لقصتها.
أما نهاية القصة فجاءت مرتبطة في مقدمتها أو التمهيد لها، حيث ظلت الفكرة الفلسفيّة للفقد والذاكرة والألم هي العوالم التي تهيمن على الإنسان. تقول القاصة في نهاية قصتها: (هكذا أفهم الحنين الآن، أنه وجعي حين أنادي، ولا يردّ إلا الليل.).
لغة القصة وتشكيلها البلاغي والسردي:
لقد اعتمد القاصة في سرد قصتها على شكل حكاية.. حكاية تحمل أبعاداً اجتماعيّة وفلسفيّة أو فكريّة، عرضت أحداثها بلغة سهلة عذبة رقيقة غنيّة وشفافة، تكاد ترتفع بأسلوب صياغتها إلى مستوى الشعر، وما منحها أو أجاز لها هذه السمة هو ترابط عبارات القصة وتماسكها وجماليّة صورها وانزياحاتها ومفردات البلاغة فيها التي منحت بنية السرد القصصي رتماً موسيقيّاً هادئاً مشبعاً بالحزن، يجعل المتلقي يشعر عند قرأتها كأنه يقرأ قصيدة نثر، وهذا الشكل من السرد السهل والممتنع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة والحائز على قدرات فنيّة عالية. إن هذا السرد مستمد في الحقيقة من وضوح الرؤية وعمقها عن القاصة "وطفة" بحيث تتلاشى هنا الحواجز إلى حد كبير بين القاصة والمتلقي.
الأبعاد الإنسانيّة للقصة:
إن الكاتب أو الأديب أو الفنان الحقيقي، هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به، وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها، والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن. وإن الأديب الملتزم هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته.
إن العناية بالإنسان.. بهمومه ورقيه، تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه، ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته أو تعذيبه وسجنه وحتى قتله.
لا شك إن قصة (روح.. وخمسة ظلال)، هي عمل لا يخرج عن سياق الأعمال الملتزمة بقضايا الإنسان، ربما تعبر القصة عن حياة حياة حالة فردية معينة أرادت القصة تسليط الضوء عليها، بيد أن القاصة هي ابنة سورية أيضاً التي عاشت خمسة عشر عاماً من القهر والعذاب والجوع والظلم والتشرد وسفك الدماء، وبالتالي جاءت قصتها هذه تعبيراً حياً عن معاناة الشعب السوري الذي فقدت فيه أكثر الأسر فقيداً أو اكثر، بل هناك أسر قتل كل أفرادها في هذه الحرب القذرة.
(روح.. وخمسة ظلال)، هي تعبير مصغر برأيي عن ملحمة الموت في سورية، هذه الملحمة التي جاءت في جوهرها لتجسد - بعلم "وطفة" أو بدون علمها -، بشكل مكثف، وبرؤى فلسفيّة وفكريّة وبفنية عاليّة، جعلت المتلقي يعيش كل كلمة أو عبارة فيها لأنها تعبر عنه أو عن أخيه أو قريبه أو جاره.. لقد تحول الموت في سورية إلى عادة لم يعد له ذاك التأثير العميق على السطح، بسبب كثرة من مات أو قتل، ولكن (التذكر) ظل جذوة تسعر في أعماق كل نفس كل فرد من سوريا يتصاعد لهيبا يحرق الروح عندما تفتح دفاتره.
كل الشكر للقاصة المبدعة "وطفة الفرات" التي دخلت إلى أعماق كل منا، وجعلتنا نفكر من جديد بمن فقناهم، والأهم لماذا فقدناهم.
***
د. عدنان عويد:
كاتب وباحث من سوريّة