قراءات نقدية
كريمة بن مسعود: نبوءات المينرفا

تتواصل رحلة الإبداع مع سامي الساحلي وتتشعب فروعها، فيتنقل بنا المبدع السامي بكل سلاسة وانسيابية ويسافر بنا من فراديسه وجنانه في الرسم الخلاق المتفرد الذي يجسد جدلية الصراع بين الوعي واللاوعي، بين التلقائية والعفوية والإرتجال وبين الرسم القصدي والمتعمد والمدروس.
ليأخذنا إلى بحور الشعر العميقة فيتناول تارة صراعات بين البحار والبحر، بحر الواقع وبحر الهوى، في ديوانه " سندباد الحكايا"، ويصف طورا آخر لوحات بديعة مستوحاة من رسومه وخياله وفكره الخصب المتجدد، تتجلى في ديوانه "قناديل العشق " وغيرها من الأشعار.
بعدها يبحر بنا في ميدان الأدب ضمن العديد من الروايات التي تتميز بالأبعاد المتعددة، وتزخر بالأفكار الفلسفية المعاصرة، والتى تتناول صراع الإنسان المعاصر بين الحرية والتحرر والبحث عن كينونة الأشياء وصراع الوجود الأبدي وماهيته وغيرها من قيم إنسانية، وبأسلوب سردى رائع.
ومن أهم كتاباته في مجال الأدب الحديث والمعاصر، كتابه الفريد والمتميز " نبوءات المينيرفا"، وهو عبارة عن مجموعة أقصوصات في الأدب الذهني والسرد الفلسفي، ذات أسلوب أدبي فريد وتفكير فلسفي عميق، تتناول مشكلة الهوية الشخصية والوجدان البشري. حيث تبحث شخصياته فى أسئلة مثل من أنا؟، وما هى أهدافي ورغباتي؟، وكيف يمكنني تحقيق السعادة؟
كما تمزج العديد من شخصيات سامي الساحلي بين العقلانية والجوانب العاطفية والجدل الفلسفى، إذ تتيح للقارئ فرصة التفكير فى أفكار مثل الحرية والقيم والوجود، والزمن.
كما تتحدث عن التناقضات فى العلاقات الإنسانية والحب، وكيف يتأثر الفرد بالظروف الإجتماعية والتاريخية التى يعيشها، فتظهر أفكار فلسفية حول الحرية والقدر وتأثير القرارات الفردية على مجرى الحياة.
كذلك يقدم سامي الساحلي نظرة عميقة على التاريخ السياسى والإجتماعى، وهو ما منح كتابه "نبوءات المينيرفا" وغيره من الروايات والكتابات البعد السياسي والإجتماعى والفلسفى فى معترك الحياة.
إضافة إلى أن رواياته تستكشف العلاقات الإنسانية بأشكالها المختلفة، مثل الحب والصداقة والخيانة والغيرة.. حيث يعرض سامي الساحلي.. كيف يمكن أن تؤثر هذه العلاقات على الأفراد نفسياً وتغير مسار حياتهم.
وبالتالى تشجع رواياته القراء على التأمل والتفكير العميق فى معاناة الإنسان والبحث عن معنى الحياة.
ولا يخفانا أن هذه النظرة الشاملة والعميقة للحياة والوجود للأديب الشاعر والفنان سامي الساحلي، مرجعها تكوينه الوافر وخبرته الشاسعة في جميع المجالات، اللذان اكتسبهما خلال تنقلاته وأسفاره بين الشرق والغرب ومختلف أقطاع العالم، وقد كان لذلك تأثير كبير على كتاباته وخاصة في مجال الفن الذي بدوره أثر كثيرا على كتاباته سواء كان ذلك في الصور الشعرية، أو في الوصف السردي والتفكير الوجودي الفلسفي في المجال الأدبي، حيث تذكرنا كتاباته دائما بخياله اللامحدود الواضح خاصة في اللوحات السريالية المتأرجحة بين الواقع والخيال، لفناننا المخضرم، المتشائل، إذ قام برسم شخصياته التي هي جزء لا يتجزأ منه ومن حياته وذاته الفرحة حينا والمعذبة أحيانا، بعناية فائقة في لوحاته، وخاصة تلك التي تعبر عن البحر والبحارة ومعاناتهم اليومية اللذيذة لكسب الرزق، وسبر بحور الدنيا والعشق والغرام، وبين أسطر كتاباته، ونخص بالذكر كتاب" نبوءات المينيرفا "، حيث أعطى فيه لهذه الشخصيات بعدا فلسفيا، فأصبحت تمثل رموزا لمفاهيم مثل الحرية والحب، وكمثال على ذلك قوله في أقصوصة: "نبوءات راسبوتين العرب":"...بدأت أكتشف نفسي وأبحث عن الغد، اليوم، وصفحات الحب." ثم قوله:"...ربما حلمت أني عصفور أطير... لا هذا ليس حلما ولكن سأعيشه عن قريب...".
كما جعل شخصياته ترمز لمفاهيم أخرى مثل السلطة والوجدان وغيرها من المفاهيم الوجودية.
وتمثل التجارب الشخصية لأبطاله تصاعدا هرمونيا للصراع بين الفرد والنظام من جهة وبين الأنا للبطل ومنظوره الفلسفي للحياة وصراعه معها بشتى الطرق، أو أي وسيلة يسعى من خلالها لأجل التغيير.
ونستحضر هنا قوله في أقصوصة: " كامنجا":"أنا حر وإسمي...
لا لن أقول
بل تعرفون...
سأعيده على أسماعكم لآخر مرة
أنا... حررررر"
و يتناول أديبنا المبدع الشخصية ليمنحها جدلية التعايش مع حركة النص الروائى الذى يكتبه، كذلك يبتعد فى محور الشخصية التى منحها أشكالًا تبدو للوهلة الأولى بأنها عادية هزلية أو لامبالية أو هامشية.. إلخ، ثم يفاجئ بها القارئ بغرائبيتها وعمقها الفلسفي، وكمثال على ذلك أقصوصة " سبيل الغفران" و"هنيئا لك..كش ملك" وغيرها...
كما يقدم سامي الساحلي في " نبوءات المينيرفا" نظرة شاملة ومعمقة عن الإنسانية والعالم السياسي والثقافي والإجتماعي والفني، وصراعاتهم، والبحث عن الاستقرار.
ويشيد الكتاب بزخم من الأفكار الفلسفية المعاصرة، والصراعات الوجودية والعديد من القيم الإنسانية، والإتجاهات الفلسفية التي جعلت الانسان محاصرا بتناقضات الذات والهوية واستلاب الفرد في عالم متسلط، كما كانت هذه الإتجاهات الفلسفية والصراعات الذاتية والوجودية موضع دراسة للفيلسوف الألماني " تيودور أدورنو" ضمن محاولته الانحياز لإنقاذ الذات. وقد أثارها الأديب الشاعر والفنان سامي الساحلي بأسلوب سردي مميز، ينقل القارئ إلى عوالم مختلفة تجعله أكثر التصاقا بواقع يتوزع بين التمرد تارة وبين البحث عن معنى الحياة المتجددة في عالمنا المعاصر تارة أخرى.
كما تقاطعت هذه الدراسات الفلسفية لسامي الساحلي مع الفكر "الهيڨلي" (جورج فريدريش هيغل فيلسوف ألماني) بوصفه وتحليله للتجربة الانسانية من أجل اكتشاف حركة العقل وآليته التي تجسدت في الجدل في جوهره السلبي لطبيعة الاشياء.
ولعل أهم الأفكار والتساؤلات والصراعات الذاتية والوجودية التي تعرض إليها سامي الساحلي في فكره الفلسفي بصفة عامة وفي كتابه " نبوءات المينيرفا" بصفة خاصة، هي صراع الزمكان، حيث نجد شخصياته تتنقل في سرعة الضوء بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتتأرجح بين السماء والأرض وبين عالم الواقع وعوالم خرافية وعوالم أخرى تمزج بين الواقع والحلم مردها الخيال الشاسع اللامحدود لفناننا الأديب والشاعر، والذي تجلى في العديد من الأقصوصات منها " ابن بطوطة " و " ليلة مرصعة بالنجوم"، فالممكن التخييلي الذي يمنحه لنا السرد ها هنا، هو معنى المستقبل بوصفه مواجهة لقوة الزمان المدمرة، وهشاشة الحياة معًا. لكن الهوية التي تخترعها القصص ليست هوية فوق الزمان، بل هي هوية تاريخية زمنية تجيز العبور من التاريخ إلى السرد.
والذي يجعل الوجود في العالم يمر عبر السؤال عن الزمان، وأن ليس من زمان إلا صلب الكينونة، وذلك عبر مفهوم المستقبل بوصفه هو الذي يصنع الحاضر، وهو الذي يجعل الوجود في العالم ممكنًا أيضًا.
وهنا نستحضر ما يقوله الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور" في الفقرة رقم ٦٥ من كتاب "الكينونة والزمان"، حيث نقرأ ما يلي: «فالكانيَّة تنبثق من المستقبل، بحيث إن المستقبل الذي قد-كان (وبعبارة أفضل: الذي كان-يكون) قد سرَّح الحاضر انطلاقًا من ذاته. وإن هذا النحو من الظاهرة الموحِّدة، من جهة ما هي مستقبل يكون-ما-كان-على-سبيل-الاستحضار، نحن نسميها الزمانية.» وانطلاقًا من هنا نصبح كائنات مفتوحة على المستقبل بوصفنا «اعتزامًا مستبقًا»، وقدرة على الاستشراف، واستطاعة للإقبال على الممكن، وهو معنى أن نوجَد على نحو أصيل.
كما جاء في كتاب "السرد الفلسفي" للأديب والمفكر العراقي "عبد اللطيف الحرز" أن الفلسفة هي تصورات لكائن حادث زماني، وقد توصل إلى هذه المعرفة المتكلمون من خلال تطور زماني في سنوات التعليم والتعلَم. إذن كل المفاهيم الفلسفية من هذه الناحية هي مفاهيم زمانية، وبالتالي فهي جزء من تاريخ شخصي لمجموعة من الناس.
كما عبر العديد من الأدباء عن فكرة الصراع الزمكاني أمثال الكاتب والروائي المصري "توفيق الحكيم" في كتابه " عودة الروح" وكذلك "أهل الكهف" الذي تأثر فيه بقصة أهل الكهف في القرآن الكريم.
مجموعة من الصراعات والجدليات والأفكار الوجودية جمعها سامي الساحلي في كتابه الفريد والمميز " نبوءات المينيرفا" ليؤكد ما قاله المفكر والأديب الدكتور السويسري "كارل يونغ": "الصراعات هي جزء لا يتجزأ من التطور الإنساني، ومن خلالها يتم تحقيق التغيير والتقدم "، من جهة، ومن جهة أخرى ليلهم القراء للتفكير في القضايا الأخلاقية والفلسفية المعقدة وتحفيزهم على البحث في المعاني العميقة للحياة والإنسانية والبحث عن الإستقرار وكذلك البحث لفك عقدة الحياة الساكنة في الروح البشرية.
كما يمثل كتاب " نبوءات المينيرفا" من منظورنا الشخصي قراءة مثيرة للعقل الإنساني ولمحبي الأدب الذهني والفلسفي، تحتاج إلى وقت لفهم وتقدير جميع الأفكار والرموز المدرجة فيه لأنه يتناول مواضيع غير تقليدية أو رتيبة ويقدم تحليلات عميقة للشخصيات والمجتمعات العالمية والإنسانية تنم عن فهم عميق لمبدعنا السامي للحياة ومعناها...
***
بقلم: الشاعرة التونسية كريمة بن مسعود - تونس