قراءات نقدية
فاطمة عبد الله: الحوارية وسلطة الكلمة.. قراءة نقدية لنص "من عمق الكلمة"
للشاعر مصطفى سليمان
[.. يُعد نص "من عمق الكلمة" للشاعر مصطفى سليمان عملًا أدبياً عميقاً يتناول الأبعاد الفلسفية والاجتماعية للكلمة بوصفها كياناً يتجاوز التعبير ليحمل سلطة وسياقاً حوارياً متشابكاً. من خلال توظيف التعددية الصوتية والحوارية كما بلورها ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin) يبرز النص ديناميكية الكلمة بوصفها محوراً للتفاعل بين الذات والمجتمع والزمان. في هذه القراءة نستعرض النص أكاديمياً عبر عدة محاور: التعددية الصوتية والحوارية وسلطة الكلمة والزمكان والأبعاد البلاغية والأسلوبية..]
- التعددية الصوتية / تعدد الأصوات داخل النص:
[.. التعددية الصوتية تعني حضور أصوات متعددة تتفاعل داخل النص، مما يعطيه عمقاً وديناميكية. في نص مصطفى سليمان يظهر هذا التعدد جلياً من خلال الأصوات التالية
- صوت الذات (الشاعر):
يتحدث الشاعر بصوت يغلب عليه الحزن والاغتراب.. "مروا من حيث راق لكم... خذوا ماهيتي معكم... لا تجعلوا أحداً يدوس ما تبقى مني.".. هنا يعكس النص حالة انكسار وجودي حيث يناجي الشاعر الآخرين بأسلوب استسلامي يحمل في طياته احتجاجاً صامتاً على الظلم.
- صوت المجتمع (الآخر):
ينتقد النص استخدام المجتمع للكلمة بطريقة غير نبيلة كما في قوله: "كونوا نبلاء لمرة واحدة للمرة الوحيدة... لا تتركوا أثر بشاعة الفضيحة." هذا الصوت يمثل دعوة أخلاقية للمجتمع كي يرتقي إلى مستوى إنساني أسمى مما يعكس توتراً بين الفرد والمجتمع.
- صوت الكلمة ككيان مستقل:
الكلمة ليست مجرد أداة بل كيان يحمل سلطة وتأثيراً: "آه من الكلمة... أي قوة ستقف وجه صراحة الكلمات؟".. هذا التصور يبرز وعي الكاتب بأن الكلمة ليست حيادية بل تشكل الواقع الاجتماعي والإنساني.
- الحوارية: النص بوصفه تفاعلاً حياً:
الحوارية هي قدرة النصوص على التفاعل مع نصوص وخطابات أخرى ضمن سياق اجتماعي وثقافي.. يظهر ذلك في النص من خلال محاورة المجتمع: "لم أخن حلماً، لم أفتح جرحاً... لم أترك يوماً رسالة جريحة تنتظر عشاء حضوري مائدة الحقيقة."
يبدو الشاعر هنا في حالة دفاع أمام قاض مجازي يمثل المجتمع مما يجعل النص أشبه بمحاورة أخلاقية تعيد تعريف العدالة والصدق.
أيضا هناك نجد محاورة الزمن والمستقبل
"إنها محكمة الفصل العليا... يوم تشهد الأقلام، المحابر، المخيلات أنها بريئة مما كانوا يسطرون."
النص يستبق كلمات المستقبل ويستدعي الماضي مما يمنحه طابعاً ديناميكياً حيث تصبح الكلمة حكماً مطلقاً على الأفعال.. وكذلك في النص يتجلى لنا بوضوح التناص مع النصوص الأخرى
إشارة النص إلى مفاهيم مثل: "يوم تشهد الأقلام" تحمل تناصاً مع النصوص الدينية مما يضفي بعداً ثقافياً وروحياً على سلطة الكلمة.
- الكلمة بوصفها سلطة:
الكلمة في النص ليست مجرد وسيلة تعبير بل سلطة حاكمة تمتلك القدرة على محاسبة الأفراد والمجتمعات.. "آه من الكلمة.. إنها محكمة الفصل العليا... يوم تنطق الكلمة آخر فرصة."
هذا التصوير يعكس فلسفة ترى في اللغة أداة أخلاقية واجتماعية قادرة على التأثير أو الخيانة.
- النفي والاغتراب:
"أشيحوا عني بأقنعتكم... انزعوا جواز سفري عن كل جنسية.".. تعكس هذه العبارة كيف يمكن للكلمة أن تصبح أداة للنفي مما يعمق الشعور بالاغتراب عن المجتمع والهوية.
- البعد الأيديولوجي:
إساءة استخدام الكلمة تبرز كيف يمكن للغة أن تعيد انتاج السلطة أو مقاومتها مما يجعلها محوراً للصراع بين القيم الأخلاقية والظلم.
- الزمكان:
التفاعل بين الزمان والمكان.. يركز باختين على مفهوم "الزمكان" (Chronotope) في النصوص الأدبية حيث يربط بين الأحداث والواقع الثقافي والتاريخي.
- الزمن:
لنلقي الضوء على طبيعة الزمن في النص:
نجد الزمن معلق/أبدي.. فالنص يعكس زمناً رمزياً غير محدد مثل "يوم تشهد الأقلام"، يجسد قضايا إنسانية أزلية كالعدالة والصدق.
و يرتبط هذا الزمن بفكرة الزمن الأخلاقي أو الديني الذي يتجاوز الزمن الفيزيائي ليكون لحظة فاصلة بين الحق والباطل.
- زمن الماضي والحاضر والمستقبل:
يتفاعل الشاعر مع الماضي عبر استدعاء تجارب الانكسار والحزن في حين يعبر الحاضر عن صراع واغتراب.. وينظر إلى المستقبل كحكم نهائي يجمع بين الأمل والقلق مما يعزز النظرة الديناميكية للزمن.
أما الزمن النفسي في النص:
يتجلى لدى الشاعر معبرا عن اغتراب داخلي عميق كما في قوله "انزعوا جواز سفري عن كل جنسية.".. الزمن النفسي يتمثل في شعور بالبطء والانتظار حين يمتزج الحزن بالاغتراب مما يجعل الزمن عنصراً مؤثراً على وعي الذات.
أيضا نجد الزمن كسلطة عليا.. الزمن في النص ليس مجرد سياق بل سلطة عليا وقاض نهائي كما يظهر في "يوم تشهد الأقلام.".. هذا الزمن يعبر عن عدالة مطلقة وأبعاد دينية وفلسفية كونه يمثل الحقيقة التي لا مهرب منها...
- تناقضات الزمن:
النص يعكس تناقضاً بين الزمن الثابت والأبدي (مثل أزلية "يوم تشهد الأقلام") وبين الحركة التي تظهر في الانتقالات من مشاعر الاغتراب إلى التأمل والدعوة.. هذا التوتر يعبر عن صراع داخلي بين الثبات الزمني والتحولات النفسية والاجتماعية..
أما المكان في النص هنا رمزي يعكس العزلة والاغتراب مما يجعل النص يعبر عن فضاء نفسي أكثر منه جغرافي.. "يُتمَ صحارٍ لم تعد تتسع أنفاس عشيرة... امتنعت مضارب القبيلة".
- الأبعاد البلاغية والأسلوبية:
- الصورة الشعرية:
النص غني بالصور التي تجسد مشاعر الشاعر مثل: "يُتمَ صحارٍ لم تعد تتسع عشيرة."
الصورة هنا تعكس العزلة بطريقة جمالية تربط بين الذات والبيئة المحيطة...
- التكرار والإيقاع:
استخدام التكرار، مثل "آه من الكلمة"، يخلق إيقاعاً داخلياً يعزز التأثير العاطفي للنص.
- التناص:
الإشارة إلى "محكمة الفصل العليا" و"يوم تشهد الأقلام" تحمل تناصاً دينياً وأخلاقياً يعزز سلطة الكلمة بوصفها حكماً نهائيا ً.
- النبرة العامة:
النبرة تتراوح بين الحزن والاحتجاج والدعوة للتأمل مما يجعل النص متعدد الطبقات العاطفية.
- البنية النصية:
النص يتخذ بنية تصاعدية، تبدأ من التأمل الفردي وتنتهي بالدعوة الجماعية، مما يمنحه تماسكاً ديناميكياً.
وكما يقول باختين: "الأدب العظيم هو ذاك الذي يعكس التفاعل الحي بين الأصوات المختلفة". نص "من عمق الكلمة" يجسد هذا التفاعل من خلال تعددية الأصوات وحواريته الغنية. الكلمة في هذا النص ليست مجرد أداة تعبير بل كيان مستقل يحمل سلطة أخلاقية واجتماعية تتداخل فيه الأبعاد النفسية والثقافية والزمانية....
القراءة تبرز النص بوصفه دعوة للحوار والتأمل في قضايا العدالة والصدق والهوية مما يجعله عملاً أدبياً غنياً بالتأويلات والدلالات.
***
إنجاز الأستاذة فاطمة عبد الله
.........................
من عمق الكلمة
[... أيها المارون لحد وجعي
العابرون جثامين حروفي
أوصيكم خيرا بالجناة.. (سُذَّج)...
ما أتقنوا فن الجريمة.. اعذروا (سذاجتهم)
... خذوا معاولهم، مجارفهم، أظافرهم المنكسرة
و لا تتركوا أثر بشاعة الفضيحة
... كونوا نبلاء لمرة واحدة، للمرة الوحيدة
.. للمرة الأخيرة..
... نبلا منكم.. احملوا معكم تعبي، قلقي، ألقي
.. وما تبقى مني.. أحلامي الكسيرة..
... خذوا ماهيتي معكم.. خذوا ظلالي اليتيمة
ولا تجعلوا أحدا يدوس ما تبقى مني
... فأنا لم أخن حلما، لم أفتح جرحا
و لم أجعل حرفا يبكي ألما وسط كلمة
و لا تركت يوما رسالة جريحة
تنتظر عشاء حضوري
.. مخلفا وعدي ومائدة الحقيقة..
... ولا تركت أبدا وصية مشفرة
.. استعصت صائدي كنوز الذاكرة.. !]
*
[... أنا هكذا ولدت وكذلك حييت
لم يتعدَّ حلمي مسافة المخيلة
تقاذفتني ضروب الألم.. مسيرة مسيرة
.. من صلب خديعة إلى مهد خديعة..
... مروا من حيث راق لكم
.. من هنا، هناك، هنالك..
أو عبر شتات أمنياتي الصغيرة
... فأنا من عاش يُتمَ صحارٍ
لم تعد تتسع أنفاس شعاب عشيرة
.. أَنْ ناءت.. ومضارب القبيلة..
... احملوا نعشا فارغا وجوبوا المدينة
اعلنوا.. بالكاد مت وانهوها قضية
... انكروا صنائعي كما لم أكن أبدا حيا
أشيحوا عني بأعقنعتكم
انزعوا جواز سفري عن كل جنسية
و إن اهتديتم.. ترحموا علي كثيرا غزيرا
أو كيفما شئتم.. إن شئتم
من أجل حروف داعبت سهادكم يوما
.. رافقتكم ولم تكن أبدا شقية..
هدهدتْ نومكم بكل النثريات المسالمة
من أجل أمنية ابتدأنا المشي بساطها سويا
ما زغنا المحجة فيها أبدا ولا السبيل
... من أجل راحة اشتقنا إليها
.. وما أسعفتنا نداءات القريحة.. !]
*
[... لم أكتب يوما بدمي
لا ولم أتلفظه حتى.. ولا أنا له أستطيع
شعار ألسن المتصنعين مختلقي الأكذوبة
... كتبت.. وأكتب بمداد دمع الخديعة
و كلما تبخر.. لَعقَتِ اليراع من لهاث خطوي
لتكمل معي نهاية ما بدأت
.. صمت الحملان الوديعة..
... شتات القطيع.. أقتَطِع من حروفي
و عساها تبتعد.. أرمي الذئاب الجائعة
.. أَنْ يفتر نهمها..
... أن ترحم شقاء الحرف خضم الكلمة
أن ترأف لحال التائهين بحثا
عن ومضة، همسة، خاطرة
.. تيه الصحاري الموحشة..
... أن تعلم فقط كون من يكتب
لا وقت له تشذيب خصلات السهاد
يكفي أنه قابع صلب عوالمه الموجعة
لا ينتظر تشجيعا مجوفا.. بلون الشفقة
يكفيه معاناة... يكفيه أنه واقف
حيث جلس الكل
.. مدرجات الفرجة المثيرة.. !]
*
[... أنا لا أحاسب ولا أعاتب.. أحدا
فلم ولن أكون أبدا.. بهكذا.. أنا
.. هو سيل الحروف إن وصل الزبى..
... سنلتقي لا محالة.. سنلتقي جميعا
و الكل سيقف وجها لوجه حقيقة الكلمة
... لا النقط ستنفع، لا الفواصل ولا الحركات
لا التأكيد سيجدي، لا المرموز ولا الاستعارات
لا المعلوم سيشفع، لا المجهول ولا الغيبيات
... آه من الكلمة.. ومنها هي الكلمة
أي قوة ستقف وجه صراحة الكلمات
... إنها محكمة الفصل العليا
.. محكمة الكلمة..
... يوم تشهد الأقلام، المحابر، المخيلات
أنها بريئة مما كانوا يسطرون
... مما نظموا ومما هم كانوا ينثرون
ما ظلمتهم الكلمة.. بل كانوا هم الظالمون
يوم لا ينفع المتشدقين العذر
... لهم (.......) أبد الآبدين.. (.......) العار
يوم تنطق الكلمة آخر فرصة.. آخر جلسة
من غرر بكم، ألم تكونوا تعقلون
.. من أين لكم (.......).. وكيف.. !؟
... تنطق ألسنتهم رغم أنوفهم
أنهم كانوا يمتهنون (.......) واضحة النهار
(.......) الغير نثرا وما طاب لهم من أشعار
... يوم ينصف المعذبون صلب الكلمة
فلا شبه (كلمة) تعلو فخامة الكلمة
إنها وبكل البساطة:
.. إنها.. عدالة "محكمة الكلمة".. !]
***
مصطفى سليمان / المغرب