قراءات نقدية

ليث الصندوق: أضواء على أدب الـ Facebook

ألترسيمات والإيقاعات البصرية للبياض والسواد في قصائد جواد الشلال

من غرائب الكتابة عن ظاهرتي البياض والسواد في شعر شاعر ما هو أن تتماهى مدونات سيرتيه الحياتية والإبداعية مع اللون الأول، بينما تتماهى مدونات منجزه الإبداعي مع اللون الثاني. وهذا التباين اللوني ما بين الأبيض المجهول، والأسود الكثيف والمعلوم يكاد أن يكون المظهر الغريب من سيرتي الشاعر جواد الشلال وكذلك من منجزه، فقد بحثت في ملفات الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الإجتماعي عن ومضة ولو خاطفة أو باهتة للتعريف به إنساناً أو شاعراً فلم أفلح، وكأن الشاعر قد تعمّد غمر السيرتين بطبقة كثيفة من بياض الإبهام. وفي المقابل فأن صفحات منجزه الإبداعي على فضاءات ومواقع التواصل الإجتماعي مغمورة بطبقات كثيفة من النصوص بما يسمح لي أن أستعير لها توصيف السواد.

وقريباً من تلك المقاربة اللونية الإستعارية بنصفيها السيري الخارجي، والإبداعي الداخلي فقد لفت انتباهي انغمار الشاعر بلعبة الإيقاعات البصرية للونين إنغماراً كفل له أن يجمع ما بين صفتي الشاعر والرسام، بالرغم من أنه على خلاف الرسامين يستعين على الصفتين بذات المواد، أي الكلمات، وبذات الأداة، أي الكتابة، مع انزياح جمالي طفيف تتحول لديه الكتابة والكلمات من نصوص إلى لوحات تشكيلية، وذلك بتطويعه اللعب على الورقة بالبياض، وهو الفراغ الكتابي أو الطباعي، وبالسواد الذي يرى البعض أنه الكتابة بحروف غامقة، ومنمازة عن سواها. بينما نراه هنا الإمتلاء الكتابي بسد الفراغات والفجوات بجمل طويلة، أو متصلة ببعضها تملأ فضاء الورقة.

وأن كان البعض قد ارتأى في البياض مقابلاً للصمت، ألا أننا نرى أن ثمة فارق ما بين المفهومين، فأن كان الصمت هو اللاشيء، أو العدم، فأن البياض هو الصمت الدال، أو هو الشيء الموجود، ولكنه محتجب وراء ستارة الفراغ التي تحول دون رؤيته، والدليل على وجوده هو في علاقات المجاورة بما قبله وما بعده والتي تُخفي في طياتها آثار ذلك البياض ودلالاته. وبذلك فأن الفراغ الكتابي هو وجود محتجب من دوال غير لسانية، وأن موقعه المختار بقصدية وعناية ضمن النص يضمن له القدرة على التأثير وإنتاج التأويلات، فهو إذن لم يعد مجرّد دال على الصمت بقدر ما أصبح لصمت البياض معنى تكتبه أبجدية الفراغ. وفي المقابل صار الإمتلاء الكتابي يفترض المعنى في تكدس الدوال وتعاقبها، وبذلك لم يعد السواد دالاً فقط على الضجيج الصامت، بقدر ما أصبح لسواد الضجيج معنى تكتبه أبجدية الإمتلاء. وبمعنى آخر أصبح البياض والسواد موجّهات إيحائية تشير إلى داخل النص للبحث فيه عن الحمولات المتوارية.

أن التواشج الهندسي للحروف الطباعية مع التشكيلات اللونية للبياض والسواد في مفهوم الحداثة الشعرية قد أخرج القصائد من سجنها التقليدي كونها مجرّد نصوص مكتوبة للعين فقط، لتصبح لوحات تشكيلية معدّة للتأمل أيضاً، كما أزال حاجز التعالي التاريخي ما بين الشاعر والقاريء عندما سمح للثاني بالمشاركة في كتابة القصائد من خلال تعديل اتجاهاتها القصدية وترك بصمة التأويل عليها. وليس من التندّر القول بأن كل تلك القفزات الجمالية الثورية لم تكن لتُنجز لولا انتقال الشعر من مرحلة الإلقاء إلى مرحلة الكتابة، ذلك الإنتقال الذي مهد للنص الشعري التحول من صيغته الأولى كونه مجرّد صوت يُتلى للأذن إلى صورة تُستقبل بالعين، وبالنتيجة ساهم هذا الإنتقال في تطويع النص ليكون قابلاً للعرض، كما هو معدّ أصلاً للقراءة. وما هذه القراءة إلا محاولة لاستنطاق جانب من ذلك التحول من خلال الانزياحات الفضائية للبياض والسواد ودلالاتها داخل بعض نصوص جواد الشلال على موقع التواصل الإجتماعي أل Facebook.

إحدى آليات رسم البياض الأثيرة لدى جواد الشلال هي آلية القطع، حيث يُفتت الجمل المتكاملة إلى نثار يخلّف فضاءات بيض، كما في المقطع التالي ألذي يتوفر على أربعة قطوعات خلفت خمسة فراغات بيض:

(ألقاكِ

يا ابنة الحب

الجليل

المتقد على نار

الحرب)

ألقطع الأول:

يعقب جملة الإستهلال الفعلية المتكاملة نحوياً، إلا أنها افتقرت إلى توصيف أكثر تفصيلاً لضمير المخاطب الأنثى. وبالرغم من اكتفاء الحاجة النحوية بالضميرين الفاعل والمفعول به، إلا أن مقاصد الشاعر التي لم تتضح عند هذا القطع تتعدى نحويتها إلى تفصيل يستجيب لمضمون الرسالة التي يريد إبلاغها لمحبوبته. وفي غياب ملامح المحبوبة يبقى البياض مهيئاً لاستقبال تأويلات مرجأة للسطر التالي.

ألقطع الثاني:

تمثل في فصل الموصوف (السطر الثاني) عن صفته (السطر الثالث) فأنتج هذا القطع بياضاً مؤقتاً، تأجّلَ ملؤه إلى السطر الثالث المكون من مفردة الصفة (الجليل) وهي الأولى، وستعقبها الصفة الأخرى في السطر التالي. كما أن تأجيل ملء البياض في مستوى هذا القطع لما بعده وضع القاريء أمام تساؤلات عن أسباب فصل الصفة عن موصوفها داخل الجملة الواحدة، وقد تبيّن أن القصد من ذلك هو التمهيد للصدمة الناجمة عن العلاقة القلقة ما بين المتباعدين (ألحب والحرب).

ألقطع الثالث:

أستُهلّت ألجملة التي أعقبت الصفة الأولى لمفردة الحب بالصفة الثانية لها، أي (المتّقد)، ولكن هذا الإستهلال لم يكد يتصل بشبه الجملة (على نار) حتى انقطع تاركاً فضاء بياض رابع من دون الإجابة عن طبيعة العلاقة بين ما رشح من دلالات الأسطر السابقة، تاركاً للقطع التالي وما يليه إضاءة الإحتمالات التأويلية الممكنة.

ألقطع الرابع:

هو القطع الفاصل ما بين القرينين (النار) و(الحرب) والذي يُفترض أن تُختم به سلسلة البياض، بيد أنه ترك بقعة بياض خامسة لا يمكن تأويل ملئِها إلا بما تُخلفه الحروب من قطع للتواصل ما بين ضمير المتكلم في فعل الإستهلال (ألقاكِ)، وما بين المخاطبة التي أوجب عليها قهر الحروب الصمتَ المطبق لتعقب هذا القطع في السطر الأخير مفردة الختام، وكل ختام (الحرب).

والآن:

- أليس من المعقول أن نبحث في البياض الذي خلفته مفردات (الحب + الجليل + نار + الحرب) عن علاقات التشابك والتفاصل ما بينها وأثر تلك العلاقات على العلاقة ما بين المتكلم والمخاطبة؟

- أليس الحب قرين النار؟

- أليس الحب نقيض الحرب؟

- أليس (جلال الحب) في عبارة (الحب الجليل) نقيض (همجية الحرب) التي تحيل إليها عبارة (المتقد على نار الحرب)؟

- أليس الفاصل ما بين جملة الإستهلال (ألقاكِ) وبين (أبنة الحب) أقرب، بما يوحي للإمكان، من الفاصل ما بين جملة الإستهلال (ألقاكِ) وبين مفردة (الحرب) بما يوحي للاستحالة؟

- أليست الفضاءات الأربعة التي سبقت مفردة الختام (الحرب) هي تمظهرات بصرية للدلالات النوعية التي يحفل بها قاموسي الحب والحرب.

- وأخيراً، وليس آخراً، ألم يُساهم هذا النمط من الإيقاع البصري في تحفيز العين على نقل صورة البياض إلى المخيلة لتترجمها إلى معان ودلالات محتملة؟

في مقابل تساؤلات البياض تلك يتولد التساؤل النقيض، تساؤل السواد الذي يدفع إليه ضمّ أشتات الصورة الواحدة في جملة واحدة طويلة، أو ضم الصور العديدة في أسطر متراصة من السواد التعبيري المكثف، والحالتان تدفعان القراءة للبحث عن مسوغات ذلك السواد، وواحدة من مسوغات ذلك السواد أو الإمتلاء الكتابي سنجدها في الإمتلاء الدلالي الذي تمثله السلسلة المتراصة من الجموع، كما في المقتطعات التالية:

(أنا الشعب الممتليء بالعطش وأخبار الملائكة الصالحين وتقنيات الطائرات صغيرة الحجم جداً)

أو:

(أزداد عدد منشدي المراثي، واختفت كؤوس النبيذ، تغيرت الأصوات وتشابكت الألحان، والموت متعدد الأطراف)

أو:

(نعم وأنت تطحنين وحدتك وتصبغين قلبك بالحناء، وتقرأين أناشيد على عظامك المسكونة بتحية الوجع..

لا بأس بكل هذا الحزن الرحيم وأنت تشرين ثيابك المملوءة ببقايا حزن الأمس)

هذا، وتدعم صيغ الجموع تلك ما تضفيه الجمل التالية من هيمنة صيغ الإمتلاء والكلية والعددية والتشابك على النصوص لتسدّ فراغاتها بسواد دلالي يتماهى مع سوادها الكتابي أو الطباعي:

- ألشعب الممتليء بالعطش: دلالة السواد = الإمتلاء

- أزدياد عدد منشدي المراثي: دلالة السواد = ألزيادة + العدد

- أشتباك اللحان: دلالة السواد = التشابك

- ألموت متعدد الأطراف: دلالة السواد = العدد

- كل هذا الحزن الرحيم: دلالة السواد = الكلية

- ألثياب المملوءة ببقايا حزن الأمس: دلالة السواد = الإمتلاء 

 وكما أوجد الشاعر مساحة البياض بتقطيع الجمل المكتملة، فقد عمد في قصيدة (ألملم بقايا الورد وأنتظر زخة مطر) لذات الآلية ليوسّع حجم البياض الذي أوشك أن يلتهم مقاطعها الثلاثة ممهداً لأسئلة بيض مفتوحة على إجابات بيض أيضاً، وتتمحور تلك الأسئلة في الغالب، والتي يُنهي بها القصيدة في مقطعها الثالث حول دلالة الإنتظار، وعدا ذلك فكل ما تراءى في المقطعين الأول والثاني على أنها تساؤلات فليست سوى وهم نحوي كما سنبين ذلك في:

ألمقطع الأول: يضع الشاعر معاناة الأطفال الجادون في انتظارهم للخبز والحرب معاً، في مقابلة مع تحسّر الكبار على ما آلت إليه مصائر الأطفال وما يقاسونه جراء انتظاراتهم، لأن مهمة الكبار كما يرى هي التحسّر، ولذلك يُراكم الشاعر عبء انتظارات الفريقين فيجده عبئاً ثقيلاً، أو بحسب الإنزياح التوصيفي الذي يرتأي الشاعر أنه أقرب إلى مخيلته المنفلته من المحددات التوصيفية المنطقية، فهو عبءٌ سميكٌ. أو بالأحرى أنه يرى (الإنتظار) سميكاً، واصفاً المجرّد بالملموس:

- كم سَميك كلّ هذا الإنتظار

وما بين الطبيعتين المفارقتين يظل الإخبار عن سمك الإنتظار غائباً، أو متسماً بالبياض، ولكنّ غيابه لا يعني انعدامه، ذلك لآن السطور الأولى من هذا المقطع ربما تعين في البحث عن مخرج للمعنى الغائب أو المتواري من خلال جدية مادتي الحياة والموت، وهما (الحليب والحرب):

(ألأطفال لا يعبثون

أنهم ينتظرون

الخبز

والحرب

لا أحد يسقيهم الحقيقة مع

الحليب)

ربما يُسوّغ المنطق السليم (ألمنطق اللاشعري) أو منطق الجمل السود المكتملة إنتظار الحياة عبر مادتها / الحليب، ولكن انتظار الحد المفارق / الموت يوجب اللجوء إلى منطق الجمل البيض المقطّعة، والتي يُلزم تقطيعها على القاريء تفعيل قدراته التأويلية من أجل إكمالها افتراضياً على الأقل.

ولكن البياض دلالياً لم يتأتَ فحسب من فحوى الإخبار الذي أوهم القاريء بأنه نمط من الإستفهام، ذلك لأننا لا نستطيع افتراض الإجابة عددياً عن (السُمك) في المقطع الأول (كم سميكٍ كلّ هذا الإنتظار)، ولا عن (الصعوبة) كما في المقطع الثاني (كم صعبٍ تكرار الإنتظار) هذا من حيث المنطق على الأقل والذي من حق الشاعر تغييبه أو إنكاره، فللشاعر منطقه الخاص، لكننا في كل الأحوال نفترض أن الإجابة بالأسم (كم) الإستفهامية توجب نصب الإسم بعدها، وهذا ما لم يتوفر في الجملتين. ولعل الشاعر أيضاً قد وقع تحت طائلة هذا الوهم عندما ختك الجملة الأولى، جملة (السُمك) بعلامة الإستفهام، بينما أدرك ذلك في الجملة الثانية، جملة (الصعوبة) فحذف علامة الإستفهام، واستعاض عنها بسلسلة ثلاثية من النقاط.

أقول أن دلالة البياض لم تاتِ من فحواه الإخباري فحسب، بل من النتائج الصفرية البيض لذلك الإخبار عن ثقل أو سُمك انتظار الحليب والموت معاً، ذلك الإنتظار الذي عانى الأطفال مرارته، تضاف إليه ثمة علامة بيضاء صفرية أخرى تمثلها الحقيقة الغائبة التي لا يبسطها أحد للإطفال عن مآل انتظارهم:

(لا أحد يسقيهم الحقيقة مع

الحليب)

أما الكبار فهم لا يبحثون عن حل لإنهاء حالة الإنتظار، أو بالأحرى أنهم لا يبحثون عن حل لهذا البياض الدلالي، لأنهم يكتفون بمعالجة وقع مرارته (أو سُمكه) عليهم بالحسرات والدموع:

(فمهمة الكبار

ألحسرات

وذرف الدموع)

ألمقطع الثاني: يحضر قلق الإنتظار مجدداً، ولكن بصيغتين، الأولى صيغة النفي:

(لا أجيد

الإنتظار)

لكن نفي الإجادة أو تبييض أثرها الدلالي يدفع الشاعر إلى توسيع أثر البياض في تركيب جملتها شكلياً أو تقطيعها، وفي المقابل تأتي حالة (عدم الإجادة) مقرونة بعكسها، أو بإثبات الإجادة في حفظ الأسرار، أو تسويد الأثر الدلالي لتلك الإجادة بتعمد الشاعر توسيع أثر السواد في تركيبها شكلياً، أو عدم تقطيعها (أجيد الأسرار حتى تتجمّد). ومع ذلك فالشاعر يبدو وكأنه يخترق أعماق المفردتين (الإنتظار) و(الأسرار) فيرى فيهما ما لا يراه القاموس عندما يضعهما معاً على مستوى واحد من المقايسة الضدية:

(أنا

عادة

أجيد الأسرار حتى تتجمّد

لا أجيد

الإنتظار)

أما الصيغة الثانية، فهي صيغة موافقة للصيفة السابقة في المقطع الأول، أي صيغة الإخبار:

(كم صعب

تكاثر الإنتظار)

ومن الملاحظ أن الإخبار هنا موافق للإخبار في المقطع الأول من حيث توصيف المجرّد بالمزيد من جهة، ومن جهة أخرى فأن الصيغتين تُكمل وتدعم بعضهما معنوياً، فلولا (السُمك) في الأولى لما (صعُب التكاثر) في الثانية.

ألمقطع الثالث: تكتمل في هذا المقطع هندسة الفراغات البيض مع حضور الدلالات المفرغة للأسئلة المفتوحة على البياض، وهي الأسئلة الموجهة إلى الآخر غير الواعي، ألأرضي (الأشجار)، والسماوي (المطر) بعد أن أضفى على الأول وعي الإنتظار:

(أسأل الأشجار

ماذا تنتظر؟)

وأضفى على الثاني وعي الإرادة:

(ألمطر

ماذا يريد؟)

وكذلك السؤال الموجه للذات الواعية المتكلمة (ألأنا)، وهو سؤال الإنتظار ذاته الذي سبق أن وجهه المتكلم لقرينه في الموقع (الأشجار) وكأن الإنتظار هو ضالة المخلوقات الأرضية:

(أنا ماذا

أنتظر؟)

ومع مراوحة الأسئلة الموجهة لكل طرف من الثلاثة ما بين الإنتظار والإرادة، تظل إجاباتهم عنها مقيدة في حدود الصمت الدال، أو البياض؟

وفي مقابل هذا البياض يهيمن سواد شبه مكثف على كثير من القصائد، ولنختر منها قصيدة (رأيت نبيذاً معتقاً يُشبه أصابعكِ)، حيث تتشكل المقاطع من حزمة من الصور، تتمثل كل حزمة في عتبة تُمهّد السابقة منها للاحقة، ثم تُختتم بالصورة الحسم التي تُغلق بها الحزمة الصورية، مع ملاحظة أن جُمل العتبات والجُمل الحسم هي جميعها من الجمل الفعلية، بغض النظر عن طبيعة الأفعال.

يستهل ضمير الغائب المؤنث ألسطر الأول من المقطع الأول من القصيدة، مكتفياً بأثره هذا (لم تكن تهذي)، إذ يغيب بعد هذا الإستهلال ولا يترك له أثراً ضمن هذا المقطع، والأثر الوحيد المهيمن بعد الإفتتاحية على هذا المقطع هو لضمير المتكلم، لكن ضمير الغائب المؤنث سرعان ما يستبدل موقعه النحوي فيتحول إلى ضمير المخاطب المؤنث تاركاً أثراً طفيفاً كما هو أثر الأنثى في المطع الأول، أثراً لا يتعدى جملة (لم أعترف لك)، والأثر الأوسع منه قليلاً في المقطع الرابع:

(لكني لم أعتد أن أقول لك:

أن وجهك نبيذ فرنسي وبعض من ثمار الجنة الطرية)

وعدا ذلك فهذا الضمير يحضر بكامل سلطته التأثيرية في ثريا العنونة ليضيء له أثراً مغيباً في كامل القصيدة، ويوحي بهيمنته عليها، وعلى ضمير المتكلم أيضاً.

وبتجاوز الإفتتاحية من المقطع الأول تتوالى الجمل العتبات، وكالتالي:

1 - كانت أصوات أزيز رصاصات غاضبة

2 - ورسائل مملوءة بالشتائم

3 - وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف

(مع ملاحظة أن الجملتين الإسميتين الثانية والثالثة معطوفتان على الأولى الفعلية مما يُخضعهما لتاثيراتها الفعلية)

4 – أضحك قليلاً لأعي نصف الحياة

5 – أسمع نصف أغنية

6 – وارمي نصف الكأس المملوءة

ولكن أين جملة الحسم ضمن هذا المقطع الذي شغلته بالكامل جمل العتبات الست والتي يُفترض أن تُختم بها سلسلة العتبات. أن افتراض الختام الموقعي لجملة الحسم قد اختل في هذا المقطع وازاح موقع جملة الحسم الفعلية من نهاية المقطع ليدغمها مع العتبة الرابعة مقرناً فعلها بلام التعليل، أي أنها جملة (لأعي نصف الحياة) التي أزيحت موقعياً فحسب، بينما بقى ثقلها الدلالي مؤثراً على كل العتبات الست.

مع المقطع الثاني تتوالى العتبات الفعلية كالتالي:

1 – اعتلي قمة السلم

2 – أتلو خطاباً مدججاً بالشتائم الخفيفة

3 – ألوّح بيدي لمن يُخالفني

أما الجملة الحسم فهي

- ألجمهور كان خفيف الظل (مع ملاحظة أن ابتداء الجملة بمفردة أسمية (الجمهور) يعقبها مباشرة الفعل الناسخ الناقص (كان) لا يلغي فعليتها إذ أنه من اليسير قراءة الجملة التالية المبدوءة بذات الفعل على أنها معطوفة عليها:

- كان يريد مني أن أبدأ بشتائم ثقيلة حتى يتسنى لهم الضحك بإفراط.

ولكن ما الدلالة المعنوية لانحسار البياض نسبياً عن القصيدة وإحلال السواد بدله؟ ربما تكون الدلالة في حالات الإمتلاء المعبّر عنها بجموع المفردات (أصوات / رصاصات / حروق / شتائم / جمهور / سلالم / ألبيوت / ثمار). وهذا النمط الدلالي للسواد سبق أن أتينا على نظيره، لكن ما يميزه عنه في هذا النص هو في المحددات المتراوحة ما بين الزيادة والنقص دون أن تبلغ العدم:

- فالحروق ليست من الدرجات الطفيفة الأولى، بل هي من الثالثة (وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف)

- والضحك خضع للمقايسة فهو لم يُعدم تماماً، ولم يُكثر بإفراط، بل هو في حدود القلة (أضحك قليلاً)

- والأمر كذلك بالنسبة لوعي الحياة فهو لم يُعدم تماماً، كما أنه لم يكن في أقصى مستوياته، بل اقتُصر على النصف (لأعي نصف الحياة).

- والأمر كذلك لنصف الأغنية (أسمع نصف أغنية).

- وللكأس التي خضعت هي ذاتها لمقياس الإمتلاء، بينما أفرغت محتوياتها إلى النصف (أرمي نصف الكأس المملوءة).

- وللجمهور (ألجمهور كان خفيف الظل) فهو لم يجعله بليداً ثقيل الظل، كما أنه لم يحرمه من ظله تماماً كما فعل الروائي فتحي غانم مع أحد أبطال روايته (الرجل الذي فقد ظله)، بل جعله خفيفاً، والخفة منطقة تتوسط ما بين العدم والثقل.

- والأمر كذلك للشتائم المتراوحة ما بين الخفة والثقل، فهو حيناً يتلو (شتائم خفيفة) أما الجمهور فكان يريد منه (أن يبدأ بشتائم ثقيلة) كل ذلك من أجل (الضحك بإفراط).

- والشيب بدوره لم يتحرر من الحساب (بضع شيبات)

- وكذلك الأمر للحزن (حزنت كثيراً)

- واعتلاء السلم إلى قمتها (أعتلي قمة السلّم)

- والجمهور لم يتكلم كل واحد منهم بصوته منفرداً، بل (قالوا بصوت جماعي)

- أما وجه الحبيبة المفرد فقد جاء تشبيهه بصيغة الجمع، فهو (بعض من ثمار الجنة الطرية)

أن تفعيل هندسة اللونين في تشكيل الرسمة الخارجية للنص الشعري ليس مجرّد لعب شكلي عابث بقدر ما هو محاولة للتوفيق ما بين طرفي الصورة الشعرية الداخلي / الدلالة، والخارجي / الشكل، أو من أجل تمكين الدلالة من التوسع خارجياً، وفي الحالين تتحكم مخيلة جامحة في موازين التوفيق، مخيلة سريالية غير مستقرة تهشّم الواقع لتبني من حطامه عالماً أخر ليس له قرين إلا في مخططات الأحلام والكوابيس:

(كان لي حديث ممتع مع عصفور حكيم

قال: العمر زمن سريع)

أو:

(بعد مفاوضات طويلة نجحت باستدانة نهر، أدخلته غرفتي

كنت أرغب برفع الملوحة من أقدامي، لكني لم أجده عند الصباح

كتب لي رسالة وهرب:

سأعود عندما أجد من يسحب الملوحة من رأسي)

أو:

(حائر

لازلت أعاني من صعوبة فضّ النزاع

بين غيمتين)

***

ليث الصندوق – شاعر وناقد

 

في المثقف اليوم