قراءات نقدية

نزار حنا الديراني: توظيف الأقنعة في نصوص قناديل تضئ خرائط العتمة

صدرت للزميل يوسف كبو مجموعته النصية (قناديل تضئ العتمة) عام 2024 والمتضمنة 78 نصاً أو لنقل 78 قناعاً استخدمهم الكاتب ليضئ من خلالهم العتمة، كون تلك الشخصيات الأدبية والتاريخية والاسطورية والدينية رموزاً يتجسدون القناديل كي يرشدوننا الى الطريق الصحيح لذا استعان بهم في تشكيل نصه فاستحضرها كونها قادرة على تجسيد رؤاه لما يربطها بدلالات ومواقف قادرة أن تضيء تجربته الادبية وتمكّنه من التعبير عن المواقف المختلفة التي يعيشها في عصره معبرا عن السمات الدالة في تلك الشخصية ويربطها ربطًا وثيقًا بين القناع الذي اختاره والأفكار التي يريد أن يعبر عنها، ويراعي في ذلك السمة المتجددة أو الصفات الحديثة التي سيضفيها الشاعر على المتلقي من خلال ذلك القناع أو الرمز.

 وبهذا يكون قد وفق في اختيار عتبة كتابه لتكون دالا تعكس المدلول ومن خلالها يسعى إلى توصيل ما يريده بسهولة إلى القارئ، فهو يضفي على نصه تشويقًا، ويكون قابلًا للتأويل والتحليل كونه يختفي وراء أقنعته الذي اختارها من شخصيات تاريخية وفلسفية وادبية، هذه الشخصيات التي تركت بصماتها في التاريخ، فهو بهذا يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل الشخصية تنطق بلسانه من غير أن تظهر أناه.

 في مجموعته هذه استطاع الزميل يوسف أن يجعل من رموزه أقنعة ومن ثم قناديل تضئ وتقتنص الواقع وكان في مقدمتهم الفيلسوف الاغريقي سقراط الذي اتصف بالحكمة فيفتتح نصوصه قائلاً:

تراءى لي بما اعطته

عرافة دلفي من نبوءة

يصغي الى صوته الداخلي

يترنم بأناشيد الفكر

يمشي مسحورا على فرشة سماوية

والفراشات تحوم من حوله

ويختتم نصه بالقول (النهاية هي الأهم، أدانني الموت وأدانتهم الحقيقة) وهذا ما يتوافق فلسفة سقراط ليجعل منه أول القناديل ليضفي على صوته حكمته التي تكونت لديه من تجربة عاشها مع الزمن، فهو لا يريد أن يبوح لنا ذاته بل جعلها تتخفى وراء حكمة سقراط التي تتحدث عن النهاية ويكون بهذا قد تحول سقراط وآخرون من أمثال (أفلاطون، مار أفرام، هيراقليطس، بوذا...) الى رموزاً مهمة في حياته حاملين قناديلهم ليضيئوا العتبة الاولى لخريطة مسيرته.569 yousef kabo

وهكذا في الأقنعة الدينية من أمثال (المسيح، نوح، آدم وحواء، لوط، هابيل،..) الذي جعل منهم فضاءً نصياً كونهم يتسعون كثيرا لحمل ما يريد حمله من تجارب ورؤى كما في نصه (المسيح) الذي أعطى بصلبه للبشرية درسا يتفق على ما أنتهى به سقراط من القول (النهاية هي الأهم، أدانني الموت وأدانتهم الحقيقة) فاتسعت الرؤية النصية وتعمقت في نفسية الكاتب اولا ليجعلها تتسرب شيئاً فشيئاً الى نفسية المتلقي من خلال قوله:

على السلم الصاعد نحو الأزل

وفي سهو الحركة عن دورها

ذات تحلق في شاسعٍ لا نهاية له

مثخنة بمجازات السماء

سكبت ذاتها

غيرت لفائض الذهول حتمية الفناء

وبهذا جعل من المسيح رمزا يجسد ما يربو اليه الاديب يوسف كبو من غير أن يجعل ذاته تسيل فأخفى عنا الضمير المتكلم لينوب عنه الأنا الجمعية والتي تقمطت رموزه لذا فالعناصر الرمزية التي يستخدمها جعلها تستكشف لنا بعدا نفسيا خاصا في واقع تجربته الشعورية لذا تراه يتساءل في نهاية نصه (المسيح) فيقول:

ماذا لو مات المسيح بكياسة

فوق أريكة من حرير وديباج

تردد البنفسج في التشريع للمعاني

بمعنى آخر أراد أن يقول لو مات المسيح ميتة الاغنياء لفقد الرمز رمزيته وعجز أن يكون قنديلا يضئ له ولنا الدرب ويكون بهذا قد عبر من خلال نصه في التعبير عن الواقع الذي يحلم به الكاتب من غير أن يسرده لنا ليجعل رمزه هذا هو الذي يضئ لنا عتبات خرائطه لنتسلل الى أعماقه.

وفي نصه (نوح) يعكس لنا واقع الانسان الذي يراوده السؤال دوما كونه يرى الجمال قبحاً وفناءً فنظر الى المطر من خلال عدسة نوح وطيوره فرآه على شكل فناء فيقول:

لو امتلك نوح بعضاً من فقه الغيب

ورأى الزمن المتخثر فيه

لزجر الطير، وثقب قلكه

وبادر من دون شك بالسؤال

لماذا أخذ المطر شكل الفناء؟!

حتى تضخ الارض وما عليها

من عقاب السماء؟!!

رغم ما يحمله المطر من جمال وخيرات للطبيعة فلولاه لمات الانسان جوعا إلا أن الانسان لضيق بصره ولحظة يأسه تنعكس لديه الصورة فيتحول الرمز من قنديلا مضيئا الى عتمة.

وأحيانا يختار لاقنتعته رموزا اسطورية كما في (كلكامش، زوربا، آخيل، اوديسيوس..) وكما في تقمصه لشخصية كلكامش هذا العملاق الاسطوري الذي كان ثلثاه إلاه والثلث الاخر بشر، إلا أن هذا الثلث البشري أقلقه كثيرا لذا جال في البراري والبحار باحثا عن عشبة الخلود فيقول في نصه:

علمتني الأساطير

كيف كانت مغنيات اوروك

يفرشن على مسرح الكون جدائلهن

والقمر نائمُ على اخضرار اجسادهن

يقرأ لهن غموضهنّ

وصوت صدى سماوي يرنّ في اذانهنّ

علمتني الاساطير أن ألبس

شالا من الحرير وأطير

بهذا النص يكشف الكاتب عن المستور فيما يخص مغامرات الانسان وطمعه فيتقمط رمزه الضمير الجمعي لبني شعبه بدلا من أناه للايحاء بدلا من المباشرة في كشف أناه المضمرة وراء قناعه فتنساب من نصوصه دلالاتها الضمنية.

واحتلت الشخصيات المعاصرة مساحة كبيرة من مجموعته هذه (دوستوفسكي، شارلي شابلن، المتنبي، أديسون، مظفر النواب، بوشكين، باخ، بيتهوفن، نيتشه، مايكل أنجلو، فان كوخ، سبينوزا، همنغواي....) البعض منها أدبية وأخرى فنية وسياسية وفلسفية و... هذه الشخصيات التي سجلت أسمائها على التاريخ بجدارة فحاول استدعائها لتكون له بمثابة رموز وأقنعة يعبر من خلال صفاتها عن أناه الداخلية وطموحاته متجرداً من ذاتيته ليرسم لنا خريطة المستقبل وكما يقول في نصه (سارتر وكامو):

كنت جالساً في المقهى

وكان سارتر وكامو جالسين بالقرب مني

يصغيان الى صخب العدم

مكتظة عيونهم بالمدى

احتدم النقاش بينهما

خفف سمعي اليهما

وفي البدء كانت الماهية، قال أحدهما

في البدء كان الوجود، قال الآخر

ثم افترقا

حاول الاديب يوسف أن يجمع فلسفة سارتر وألبير كامو الوجودية في نصه هذا منتقداً هذا الصخب الذي خلقه لنا النقاش الفلسفي والسياسي في الماهية والذي ينتهي دائما بالفراق بمعنى آخر يريد أن يقول لنا الكون مزدحم بالتناقضات مما يدعونا للخروج من دائرة المألوف والتمرد على الواقع فتبدو الصورة المرئية لنا مخلخلة ومغايرة متجاوزة على الواقع واحتمالاته المحمولة على الاحلام الجميلة.

وهكذا في نصه (شوبنهاور) حيث استدعاه ليختفي خلفه ويشخّص من خلاله الأفكار المعاصرة التي سادت في عهد الفلسفة المثالية الألمانية  وهو يتبنّى نظامًا ماورائيًا وأخلاقيًا إلحاديًا فيقول:

وهو يرفع اللثام عن حقيقة العالم القاسية

ثمة عدم مختوم تضوعُ منه روائح غامضة

تقول بوضوح:

لا شئ في هذا العالم سوى حياة يائسة عافرة يملؤها الشؤم

تتأرجح كالبندول بين الألم والسأم، لا مسار

 موصوف يهدي الانسان الى خلاصه

في الختام أقول:

لقد نجح الآديب يوسف كبو في استدعاء هذه الشخصيات التي جعل منها رموزا ثارت على الواقع ليقتدي اثرها من خلال جعلهم قناعا تنطق عوضا عنه ما يريد قوله وما يستشرف به المستقبل بمنظور انبنى على رفض السائد من القيم والتقاليد والتي دوما تقف بالضد من حركة التغيير فلكل من هذه الشخصيات رسالتها والتي حاولت من خلالها البوح عن مكنوناتها لتقويم الواقع فتحولت لديه الى أقنعة مكنته من توسيع دلالات رؤاه وبناء عالمه أو لنقل حلمه في سياق توسيع دلالاتها للتوفيق بين الحاضر والمستقبل.

ولغياب أناه كليا وراء أقنعته جعلت نصوصه تبتعد كثيرا عن الغنائية والرومانسية لتتقمط السردية لذا كانت قريبة على القصص القصيرة أكثر من الشعرية.

***

نزار حنا الديراني

في المثقف اليوم