قراءات نقدية

طارق الحلفي: التناقض بين الثبات والحركة في الحياة والوجود الإنساني

قراءة في قصيدة دف الشك للشاعر فارس مطر

القصيدة التي بين أيدينا تحمل أبعادًا متعددة تتجاوز سطح النص البسيط إلى عمق التأمل الفلسفي والوجودي، مما يجعلها توليفة من الصور الشعرية التي تتحدث عن الثبات والتحول، الحيرة والاستقرار، والعلاقة بين الإنسان والعالم من حوله. كل صورة شعرية هنا تعبّر عن حالة من حالات الوجود الإنساني، وما يتخللها من محاولات للفهم والمقاومة والثبات في وجه الزمن والتحولات.

1. "الإوزةُ التي تسبح في اتجاهات مختلفة / قد تبدو حائرةً، لكنها في البحيرة"

الإوزة التي تسبح في اتجاهات مختلفة هي أول صورة شعرية في القصيدة، وهي صورة تجمع بين التناقض والاتساق. حركتها قد تبدو مشتتة وحائرة، كأنها لا تعرف وجهتها. ولكن، هذه الحيرة لا تعدو كونها سطحية، فالإوزة ما زالت ضمن البحيرة، في إطار محدد وواضح. هذا يعكس رمزًا للحياة البشرية حيث يمكن للإنسان أن يبدو متخبطًا أو غير متأكد من خطواته، ولكنه في النهاية موجود داخل حدود وجوده الطبيعي، حيث هناك ثبات ضمن تلك الحركة المستمرة. هنا يتجلى الصراع الأزلي بين الحيرة والاستقرار، بين الاتجاهات المتعددة التي تأخذ الإنسان في أرجاء حياته، والبحيرة التي تمثل البيئة التي تحتضن هذه الحركات والاتجاهات.

2. " الشجرةُ التي تبدو أغصانُها مسافرةً مع الريح ثابتةٌ. / وأجلسُ في ظلها"

هنا نجد ان الشجرة وقد انقسمت بين الثبات والحركة، أغصانها تتحرك مع الريح، ولكن جذعها وجذورها ثابتة راسخة في الأرض. الشاعر يجلس في ظل هذه الشجرة التي تمثل رمزًا للثبات والاطمئنان، رغم مظاهر الحركة الخارجية. الشجرة هي استعارة لوجود الإنسان الذي قد يبدو متأثرًا بالظروف الخارجية، لكنه في جوهره ثابت ومستقر. هذا التناقض يبرز حاجة الإنسان إلى الظل، إلى مكان آمن يمكنه أن يستريح فيه من اضطرابات الحياة. وكأن الشاعر هنا يبحث عن هذا الثبات الداخلي الذي يجعله قادرًا على مواجهة الرياح دون أن يهتز.

3. "الأحجارُ سعيدةٌ في الضفةِ المتلألئة"

تبدو الأحجار في حال من السعادة والرضا وهي ترقد على الضفة المتلألئة. الأحجار، التي ترمز إلى الثبات والجمود، تبرز هنا في حال من الانسجام التام مع موقعها. إنها في مكانها الطبيعي، ولا تحتاج إلى الحركة أو التغيير. وكأنها تعبير عن السعادة التي تأتي من القبول بالوجود كما هو، دون رغبة في التحول أو السعي إلى شيء آخر. هذا الانسجام مع الذات والطبيعة هو ما يمنحها السعادة والراحة.

4. "والقهوةُ المعتدَّةُ بالرغوةِ والنكهةِ / أنيقةٌ في فنجانها"

القهوة، هنا، هي صورة أخرى للعناصر المتناسقة مع مكانها. فهي "معتدة" برغوتها ونكهتها، تعبر عن نوع من الثقة بالنفس والاعتزاز بالذات. "أنيقة في فنجانها" تحمل دلالة على التناغم والجمال، حيث كل شيء في مكانه الصحيح. القهوة كرمز للوقت الهادئ، التأمل، ولحظات الاستمتاع البسيطة، تُضفي على المشهد نوعًا من الرومانسية الهادئة والاعتزاز بتلك اللحظات الصغيرة التي تعطي الحياة نكهة خاصة.

5. "رغم مضي العمر، / يثبُتُ المُسِنُّ والمُسِنَّة على المقعدِ الخشبي بانتظار غودو"

يعود الشاعر إلى الإنسان، مع صورة للمسنّين الجالسين على المقعد الخشبي، ينتظران قدوم "غودو"، في إشارة إلى مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت، التي تمثل الانتظار الوجودي للشيء الذي قد لا يأتي أبدًا. المقعد الخشبي يرمز إلى الثبات، لكن الانتظار هو رمز للعبث، للعجز عن التقدم أو التغيير. ومع مضي العمر، يبقى الانتظار، والمرء يتساءل عن جدواه. هل الانتظار هو جزء من طبيعة الحياة؟ أم أن هناك شيئًا أكبر ينتظرنا دون أن ندركه؟

6. "نسبياً تبدو الأشياءُ ساكنةً مؤمنةً بوجودها / عدا ظهوري المريبِ في المشهد"

الأشياء تبدو ثابتة، واثقة من وجودها. لكنها تواجه "ظهور" الشاعر نفسه في المشهد. ظهوره هو العنصر الذي يعكر هذا الثبات، وكأن وجوده ذاته يطرح الأسئلة حول معنى الثبات والوجود. هو المريب، المتسائل، الذي لا يستطيع أن يقبل الأشياء كما هي. الشاعر هنا يدخل في مواجهة مع الأشياء الثابتة، حيث يصبح وجوده هو العنصر الذي يكسر الهدوء.

7. "لا بأسَ أن تفشلَ اليوم أيضاً يا فارس مطر / ربما غداً.. لم العجلة؟"

ينتقل الشاعر إلى خطاب داخلي، حيث يخاطب نفسه بلطف وحنان. هذا الفشل هو جزء من الحياة، ولا يجب أن يُنظر إليه بسلبية. ربما الفشل اليوم هو خطوة نحو النجاح غدًا، وكأن الحياة ليست سوى مجموعة من المحاولات المستمرة، دون حاجة إلى العجلة. هنا يظهر نوع من الفلسفة الهادئة، المتصالحة مع الزمن والفشل، حيث كل شيء يأخذ مجراه الطبيعي.

8. "مازلتَ في منتصفِ عقدكَ الخامس / عليك أن تكابرَ وترممَ أكتافَك المنهدمة"

الشاعر يبدأ في الحديث عن الذات المنهكة، الأكتاف المنهدمة، لكنه يدعو نفسه إلى المكابرة، إلى الاستمرار رغم التعب. هذه الصورة تعكس المعاناة الداخلية للإنسان الذي يحاول الترميم والإصلاح رغم الألم.

9. "عليك فقط أن تَثبُتَ في مكان / وألّا تُشَعِّرَ هذا النصَّ كخِفَّةِ ريشةٍ"

في النهاية، يعيد الشاعر التركيز على الثبات، لا يجب أن يكون النص خفيفًا مثل الريشة المتنقلة التي لا تعرف الاستقرار

القصيدة تتأمل في التناقض بين الثبات والحركة في الحياة والوجود الإنساني. تبدأ بالإوزة التي تبدو حائرة لكنها داخل البحيرة، والشجرة التي تتحرك أغصانها بينما جذعها ثابت. الأحجار راضية بموقعها، والقهوة أنيقة في فنجانها، مما يرمز للتناغم والقبول. المسنّان ينتظران "غودو" في صورة تعبر عن العبث والانتظار. الشاعر يعترف بفشله لكنه يدعو نفسه للصبر والمثابرة. القصيدة تتأمل في الزمن والفشل والثبات، وتحث على قبول الحياة كما هي دون عجلة، مع المحافظة على الثبات والعمق في مواجهة التحديات..

**

طارق الحلفي - شاعر وناقد

...............................

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/977410

في المثقف اليوم