قراءات نقدية

محمود محمد علي: صورة المدينة في نصوص المثاقفة الشعرية

في دراسة شيقة للدكتور حاتم الصكر وهو كاتب وأكاديمي عراقي، حملت موضوعًا نقديًا صرفًا، وربما مهنياً، لكنه قريب العهد بالمناقشة والتفصيل على المستوى الثقافي، لاسيما في الجانب الأدبي، فقد اخترت المثاقفة وهي بالحقيقة مصطلح مرحل من الأنثروبولوجيا، ومن علم الاجتماع، بحيث يعود أولًا إلى الأنثروبولوجي" إليوت أوباوند" في القرن 19 من خلال الثقافة حين تكون متبادلة، والذي يسمونه أحيانًا في الغرب" التبادل الثقافي"، ولكن المصطلح استقر عندنا اليوم على أنه "المثاقفة" .

في هذه الدراسة كشف الدكتور صكر على أن هناك مناهج تطبيقية، وقد حاول أن أقرأها،، حيث يقول الدكتور حسن حنفي:" إنها وجه آخر للهيمنة الاستعمارية"، وقد وجد بعض النقاد الأعذار للدكتور " حسن حنفي" لكونه من أنصار "العولمة" و" والانفتاح على الآخر"، وله تجربة في كونه قد درس في الغرب، وارتد بنكوص عقائدي (وليس هنا مجال لمناقشة فكر حسن حنفي) ولكن يمثل نموذجًا لرفض هذه المثاقفة، حتى في التعريف البسيط وهو تبادل الثقافات بين الجماعات والأفراد على مستوى الحضارة والمدنية والأشياء الأخرى، وقد نسي الدكتور" حسن حنفي" مع الأسف أن الغرب طرف في المعادلة، وقد قام فعلًا بقراءتنا، وهذا هو المثقف التفاعلي، فأنت لا تستطيع أن تفرض، كما أننا نرفض، والدكتور حنفي يرفض أن يفرض علينا الغرب ثقافته، ونحن أيضاً بالمقابل لا نريد أن يكون لنا هيمنة على ثقافة الآخر، فنقدم أنفسنا بشكل حضاري، بحيث يكون فيه المطلب الإنساني الأول، وهو شرط المثاقفة، ثم تصبح النصوص هذه مثل البشرية، ودليل ذلك أن" ألف ليلة وليلة " لم تنتظر إلى أن يقوم أحدٌ منا ويترجمها، وإنما قام الغرب نفسه بترجمتها، ولم يشعر بأي نقص !.. نعم.. لنا اعتراضات على قراءات الغرب من قبل ألف ليلة وليلة، أو الليالي العربية كما يسمونها، لكن هذا النص لم يجد عائقًا، ولا خضع لوهم أن الثقافة الغربية تريد أن تسيطر من خلال المثاقفة، ولكن بالعكس، وأيضاً أمثلتنا الأخرى موجودة في التراث العربي الصوفي على سبيل المثال، حيث أحيا جزءًا كبيرًا منه مستشرقون معتدلون !.. نعم لنا على المستشرقين الكثير من الملاحظات على أهدافهم، وعلى استراتيجياتهم، ولكنهم بالأخير يقرؤون نصوصًا، وهذه النصوص، هي التي تقدم نفسها. وأحب هنا أن أقترح عليكم إجراءً، وذلك من خلال كتابي الأخير بعنوان" تنصيص الآخر"، حيث رأيت أن العرب قد درسوا المثاقفة من قبل، ومروا بمراحل كثيرة عليه، فبدءوا بموضوع السرقات، فالمتنبي قد قُرء بوحي المثاقفة، لكن بسوء نية، فكتب الحاكم سرقات المتنبي، وأن المتنبي ينظر لقول الحكيم أرسطو ويأتي بقول من أرسطو نثري – فلسفي بلغة أخرى ويحاكم به قولاً للمتنبي ليصل إلى أن المتنبي سرق أفكاره، ويصل به الكيد أحيانًا، ويقول:" وفي هذا القول ينظر المتنبي إلى قول الحكيم "، وسرد كثيرًا من الأشياء لا تنطبق !.

ثم يؤكد الدكتور صكر على أن هناك مشترك إنساني، فمثلًا المتنبي عندما يقول " وما الموت إلا سارق دق شخصه "، ثم يأتي أحد الغربيين من قبله فيقول إن " الموت كالسارق" فهذه لا تعد سرقة هنا، ولهذا فالموضوعات الكبرى مشتركة بين الناس جميعًا، فالجمال، والحب، والموت، والخوف، والأمل .. إلخ، فهذه موضوعات كبرى مثل المانشتات يشترك فيها البشر جميعاً .

لذلك رأينا الدكتور صكر يدخل في موضوع المثاقفة من باب تجاوز موضوع السرقات، ثم صارت في العصور الأحدث للنهضة العربية – الثقافية والأدبية تحمل اسم " التأثير والتأثر"، فهناك دائمًا مؤثر، والعرب جميعًا بشعرائهم وكتابهم وفنانيهم وقعوا تحت تأثير الغرب، وحتى صيغة المثاقفة نجد من خلالها خدمة لغوية كبيرة للصرف العربي، فالمثاقفة تعد مفاعله تقتضي وجود طرفين، وهذا يحكي الكثير من التهم ويلغيها، لأنه موازنة، فأنت تمثل طرفًا،وهناك طرف آخر، وبينكما خط المجرى الثالث، وهو النصوص، والمدونات سواء كانت بصرية، أو كتابية، أو تراثية، أو معاصرة، وغير ذلك، فالمثاقفة تقتضي وجود هذين الطرفين، بينما التأثر والتأثير يفترض وجود نقطة، أو مركز إشعاع، وهو الغرب غالبًا، ولذلك أغلب دراسات الأدب المقارن، كانت تأتي من زاوية: ماذا أخذ العرب عن الغرب فقط! .. لكن ماذا قدم العرب من ثقافة حتى يفهمه الغرب، فهذا لم يكن على جدول القائلين بمبدأ " التأثير والتأثر" .

ثم انتقل الدكتور صكر بعد ذلك من خلال درس حديث جاء من البنيوية، وهو "التناص"، وباختصار شديد فهو كما يقولون:" حياة نص قديم، أو أول في نص ثان، ويأخذ مكانة مهيمنة بحيث يُشار إليه"، فحين تقرأ قصة معينة، أو قصيدة، فتقول: هذه تعيش على فكرة موجودة في نص آخر، وهذا قد سمح بأن يخفف من فكرة موضوع السرقات ويهذبها، حيث صار بالإمكان من حديث عن عدة تناص، فهناك: تناص جملي، وتناص فردي، وتناص نوعي، وتناص بالأجناس، وهذه الأنواع من التناص جعلت الدرس النقدي يهذب أكثر، وبدأت تتضح حياة النصوص نفسها.

اليوم هناك طفرة أخيرة كما يقول الدكتور صكر في موضوع " التناص"، وهو "التنصيص"، بمعنى ألا أكتفي بأخذ جملة، أو فقرة، أو عمل معين سواء كان فنيًا أو كتابيًا، وأقول إنني عشت في تعانق نصي معه !.. لا.. من الممكن الحديث عن "تنصيص الآخر" ؛ أي أن يصبح الآخر بمدوناته نصاً، يُدرس، ويُقرأ، وهذا أيضًا سيأتينا إلى موضوع آخر، وهو ماذا تريد المثاقفة أن تفعل مع الآخر؟.

والحقيقة في نظر الدكتور صكر قد تفرعت عن مبحث المثاقفة مسألتان مهمتان: الأولى: الأنا والآخر، حيث صار إن صح الاشتقاق للأنا بثقافته ومكوناته، وقوة هذه الثقافة وإنسانيتها، والآخر، وهو المكان متغير، بمعنى أنني الآن أمثل الآخر بالنسبة للغربي والذي يشاهد هذه الندوة، ولكن بالنسبة لي أنا الأنا، وهو الآخر، ثم تفرعت عنها مسألة ثانية، وهي "هنا وهناك"، لأن الأنا مرتبطة بالزمن أولاً، وبمكان ثان، والمكان يعطي المعاصرة أكثر باعتباره يعيش هنا، فيكون " أمريكا"، أو "بريطانيا "، أي الغرب .

والقفزة الرقمية قربت أكثر، فصار بالإمكان شرط التعامل المباشر، بعد أن كانوا يشترطون في تعريف المثاقفة أن يكون هناك احتكاك وتماس مباشر، فالآن بإمكانك أن ترى معرضا عبر الانترنت، وتقرأ كتابًا مترجمًا، ومؤلفًا بلغة أخرى عبر هذه الشبكة، وبالتالي الثقافة عاشت حالة حركية، وأعتقد أنها قربت من مفهوم المثاقفة وشجعت عليه.

وهناك وجوه أخرى من المثاقفة كما يقول الدكتور صكر، منها المثاقفة الشعرية، وهناك مثاقفات يهتم بها العالم والفنان، ولكن هنا حقل عملي هو " المثاقفة الأدبية"، والذي من خلالها أخصص لها تلك المحاضرة المتواضعة وهي" المثاقفة الشعرية"، والمثاقفة الشعرية مرت بعدة مراحل، حيث نتذكر جيدًا في درس التأثير والتأثر أن الدراسات النقدية قد أهلكت القارئ بأثر" إليوت" على " بدر شاكر السياب"، وعلى الشعراء الذين جاءوا من بعده بأفكاره الريادية التي طابقت ما في نفوسهم من أفكار وهوى، وكذلك بأثر " لوركا" على " البياتي"، وفعلًا كان التشبع الروحي والثقافي عبر هذه الأسماء .

واليوم المثاقفة الشعرية وعبر درس التنصيص أي جعل الآخر نصًا تعدد ذلك، فصار من الممكن أن نقرأ الآخر،ونبحث عنه في نصوصنا دون أن نسمى هذه الأسماء بـ " اللافتات الكبرى"، أي صار التأثر بالموضوعات، والمثاقفة تتم عبر سمات كثيرة مكانية، وزمانية سيأتي المجال إلي ذكرها.

ولكن المثاقفة الشعرية المتعددة الجوانب، لا يستطيع بحث مثل هذا أن يوفيها كلها حقها، أي لابد من الأخذ في الاعتبار التأثر الروحي والذهني، ثم التناص ودروسه، والتنصيص، ثم المكان، وهنا في هذه المحاضرة أركز على جانب " المدينة"، أي كيف تثاقف الشاعر العربي ليس بكونه فردًا، أو ذات، وإنما ذات شاعرة، وهذه تسمى المكان أو " المدينة" الأخرى أو الآخر، وفي المدينة نجد أن الشعراء عادة ما ينفرون منها على نحو قريب مما يمكن تسميته " فوبيا المدن"، وهذا استقرائي السريع يكشف ذلك، فالسياب في قوله: وتلتفّ حولي دروب المدينة.. حبالًا من الطين يمضغن قلبي.. ويعطين عن جمرة فيه طينة.. حبالًا من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة".

وينتقل الدكتور صكر إلى شاعر عربي معاصر وهو " أحمد عبد المعطي حجازي" من مصر، حيث يسمي قصيدته " المدينة بلا قلب"، وهي مدينة القاهرة والتي كتبها في عام 1965، وقد احتفى بها "رجاء النقاش" طويلًا في مقدمة الديوان واعتبرها إيذانًا بميلاد اتجاه جديد في الشعر ينضوي عنه ثوب الرومانسية المراهق دون أن يتلبس بمصطلحه البديل "الواقعية". بل هناك منظر كبير للشعر والمدينة، وهو شاعر الإسكندرية المعروف "قسطنطين كفافيس":، والذي تكلم عن المدينة وقال: "ليس ثمة سفينة ولا طريق هذه المدينة ستطاردك فهي خراب حيثما حللت"، وأعتقد أنه يمكن رؤية المدينة كما تتراءى للشعراء، فهي وحش خرافي، وأنها من باقي صلة الريفي بالمدينة، فعندما تنعدم الروابط التي يعرفها الريفي، والإنسان البسيط تصبح المدينة مكان غربة واغتراب بالنسبة له، وقد جاءت عوامل المدنية المضافة إلى الحضارة كالصناعة وغيرها، مما سنجد من شكوى الشعراء المهاجرين الأوائل عندما ذهبوا إلى نيويورك مثل المداخل، والمصانع، والشوارع السريعة، والتقنيات الموجودة في كل مكان، وهذه تزيد من شعور الشاعر بالذات في الغربة، فالشاعر بقدر ما يبدو قويًا في نصه ولغته، إلا أنه في الحقيقة إنسان ضعيف إزاء المكان، فالغربة والاغتراب انتقلت من الفلسفة وصار مجالها اليوم في الدراسات الثقافية والشعر، والسبب يرجع إلى الألفة التي يحس بها الشاعر ويفتقدها، والبراءة التي يشعر بها وهو يكتب، يلامس مدنًا وطرقًا ووجوهًا لا يعرفها، فمثلًا" أحمد عبد المعطي حجازي" يشكو من الناس، وحتى "صلاح عبد الصبور" كان يشكو من الناس أيضًا كما في قوله" الناس في بلادي جارحون كالصقور"، وهو كما نعلم جاء من قرية، والناس تصافحه في أي زقاق يمر به داخل القرية، وعندما يأتي إلى القاهرة فيشعر به وقع مصيدة بحكم كونه ريفيًا، ونفس الشيء نراه لدى السياب، حيث جاء من قرية في جنوب الجنوب إلى مدينة بغداد حيث يرى الزحام والضجيج .

وقد صدم هذا معظم المهاجرين الأوائل كما يقول الدكتور صكر، حيث كتبوا عنها أشياء حقيقة ندرسها اليوم، وهي أشبه بالنبوءات؛ فمثلًا " أمين الريحاني" عندما جاء إلى أمريكا في عام 1910، رأيناه يكتب قصائد عن نيويورك بألم وغضب مزدوج، حتى أن بعضه يصل إلى حد النبوءة، حيث تكاد تراه يستشعر بداخله ما سيحدث من بعد مثل أحداث 11 سبتمبر على سبيل المثال، فيتكلم عنها، ويقول:" نهر من الكهرباء، على ضفتيه جبال من الرخام، وغابات من الحديد.. ليل باهر، نجومه من معامل الإنسان الفانية، لا من معامل الله الأبدية، تعسًا لذا الجمال.. ساعة أولها ابتهاج، وآخرها تثاؤب.. مسرح الأهواء واللذات والأطماع، صدر جمالك.. آخر ما اخترعته المدنية من آيات الكذب والمصانعة، عين جمالك.. ضخامة تتمخض بها التجارة، فيلقبها التجار بالعظمة والفخامة.. لقد كذبوا والله وكفروا.. جمال معبودهم كدولار، صك في الليل وطلًا في النهار، تبًا لذا الجمال.. قباب هي دمامل الأرض، وأنفس تحتها هي دمامل الحياة.. وغدًا تصير أبراجك في أنفاقك، ويُدفن مجدك الكاذب تحت أنهارك، فتبكيك عندئذ نَيْنَوَى وتترحم عليك بابل" .

وهناك مقتبسات كثيرة يؤكد عليها الدكتور صكر وجهة النظر هذه، وهي أن المهاجرين الأوائل كانوا يرون مدينة مزدحمة بالمداخن، والعبيد، وبالتالي فهي مجزومة، وبدلًا من أن تنتقل الحضارة من الغرب إلى الشرق، انتقلت من الشرق إلى الغرب، إلا أن الشرق هو الذي سيكون فاعلًا حضاريًا، ويقدم للغرب هذه الحكمة التي يفتقدونها من نَيْنَوَى وبابل.

ومن الطريف أن" أدونيس " بعد سنين، أي أكثر من نصف قرن يأتي إلى نيويورك، ويكتب قصيدته الشهيرة " من أجل نيويورك" التي كتبها سنة 1971 وتتضمن رؤيا للمدينة وهي مشتعلة بالنيران، وعندما تسأله صحفية في عام 2015: هل تنبأت بما حدث لنيويورك في 11 سبتمبر، فرأيناه يقول:" هذه المدينة هي رمز للعالم الحديث تضمر رمزًا آخر هو رمز الطغيان، وبقدر ما أحببتها فقد رفضتها في ذات وجهين: الجنة والجحيم، قلت ستهب الرياح من الشرق وتهدم ناطحات السحاب، قلتها مستشرفًا ثورات الشعوب، ولم أكن أعلم أن ذلك سوف يحدث فعلًا .

ويعتقد الدكتور صكر أنه عندما يتكلم" أدونيس " عن الرياح التي تأتي من الشرق فإنه يعيد أمنية " أمين الريحاني" بأن تأتي من الشرق نَيْنَوَى وبابل، وتعيد هذا المجد الكاذب وهو ما يسميه كما يقول عن نيويورك " هو قلب خاو ومجد كاذب"، لكن مما يحسب للمهاجرين الأوائل أن محمولهم النصي لم يتضمن سياسة أو أيديولوجيا كما سنرى فيما بعد، حيث إنهم مجموعة البشر الذين جاءوا كفقراء في الغالب، مثل " جبران خليل جبران"، و"ميخائيل نعيمة"، وكل الأسر اللبنانية التي هاجرت أو السورية بالأحق جاؤوا طلبًا للعيش والرزق إلى آخره، ومن بعدها توالت الهجرات نتيجة الحروب التي صارت فيما بعد بسبب ضيق العيش.. وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

في المثقف اليوم