قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) لعادل المعموري

الشخوص الرواة بين ذاتية الحكي وجمالية التوظيف

توطئة: في حقيقة الأمر أن العلاقة بين السارد والمؤلف هي علاقة ترابطية ﻻ تنفصل في أي مظهر من مظاهر الإنشاء والتركيب والتنصيص، ذلك دون النظر إلى موقع السارد في أحداث النص، أو رؤيته السردية، وهذا الترابط ينتفي مع إلغاء صوت ودور (المؤلف الجاد ؟) ومحوه من النص، خصوصا إذا كانت طبيعية الارتباط تعتمد جملة من الأصوات الحاكية التي تتموقع داخل أوضاعية بنائية خاصة مشتملة على صوت وحاﻻت الشخصية ذاتها وبذاتها. وعلى ضوء هذه الجدلية واجهتنا رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) للقاص الروائي عادل المعموري، لتشكل لنا محاورها الشخوصية المركزة ارتباطا علائقيا بذاتها وبالنسيج التشاركي الذي تتموضع في حيزه الأفعال السردية في الرواية، لذا بدت وكأنها فضاءات مستقلة في معجم المحورية والتمحور الفضائية في أحوال النص وتمفصلاته البنائية والاسلوبية، أي إنها عوالم تختص بسرد وقائعها الأدوارية في مساحة تشاركية مركزة من ثنائية (المسرود الذاتي = المسرود العرضي) وﻻ تختلف القيمة الدورية للشخصية في الإرتباط والتواصل مع طبيعة العلاقات المتوازية من حراك الشخصيات المحورية الأخرى، بل إنها توظف محكيها اقترانا بمصاحبات رؤية وموقع السارد المشارك الذي يحث صوته وفعله بموازاة عملية تقارب (الحكي ضمن دائرة المحكي العام ؟) كما وتمارس هذه الشخصيات دورها وسلطتها في بناء دائرة منظورية متكونه من مجموعة علاقات حافزية ومحفزة، تأخذ لها من حيثيات السردي والمحكي ارتباطا تناوبيا في موقع ما، إلى آخر من وحدة الطالع الشخوصي، لذا ﻻ اختلاف بين المواقع الشخوصية الحاكية في محور سردها إلا من ناحية اختلاف الأوضاع والصفات والدور ورؤية السارد الشخوصي في الحكي المناط بدوره توظيفا وتبئيرا ومجاورة في الرؤية من خارج الذات العاملة إلى حاكمية مكوناتها وكوامنها في الداخل الشخوصي.

- حوارية المسرود الذاتي ووقائع المنظور المبأرة .

١- المؤلف الضمني ومسارات العلاقة الضمنية:

يرى بعض نقاد السرديات ان المؤلف يمارس سلطته في بناء النص وتكوين علاقة جوانية أو نسبية في مرحلة محددة في الدور السردي، كأن يكون هو ذلك الضمير الغيابي الموظف بديلا عن ذلك الأب المهاجر أو ذلك الشقيق المفقود من إحصائية الحياة والموت، عموما يوظف (المؤلف الضمني)كأداة من أدوات الحكي والاستجابة التي يتطلبها مدار السرد،كحال الشخصية جميلة في هذه الوحدات: (يأتيني صوته كالعادة يخترق الجدران الباهته، يسألني في تلك العتمة وأنا أجلس وحيدة في بيتي: -- جميلة أما زلت تنتظرين قميص يوسف ؟ -- ربما يعقوب يعلم بعودة أحبائه بطريقة الإلهام الرباني ./ص٥ الرواية) وتأخذ الرؤية الحوارية (المونولوج) اشكاﻻ مختلفة في الرؤية السردية تتحدد من خلالها إحاطة الشخصية بعوالم ذلك الصوت وعلاقته بأحداث محكيها ودوافع موقع دورها العاملي، بوصفها رؤية مشخصة ترصد وتقلب مكونات وأجزاء وقائع المتخيل بتفصيلاته ومجسداته أمام المتلقي، إذ تتجاوز حدود السارد المشارك، بمجرد ذكرها وتحاورها الداخلي مع ذلك الصوت في حدود صورته التحاورية الضمنية والعرضية أحياناً: (يقولها ويختفي، كان يزورني بين الفينة والأخرى، أحياناً يمكث عندي أياما، ينزوي في ركن من أركان بيتي الفارغ، يتناهى إلي صوته وهو يهمس لي من غرفة أخي العلوية، أسمع صوت بعثرة الكتب وحفيف الأوراق ./ ص٦ الرواية) لابد من التنويه بأن بعض المستهلات السردية في البناء الروائي، غالبا ما تكون مفعمة بذلك المسرود العرضي، حتى وإن كان في حالة من اﻻنتقالية أو الاستباقية، فالاستهلال العتباتي اعتمده المعموري ها هنا لأجل اشاعة علاقات تتصل بحواضر مرهونة بحركية الاحوال والمواقع الشخوصية الأخرى، ففي ثنايا الوحدات الحواريةو المحكية، نكتشف ثم أسماء وأدوار وخلفيات تشتمل على مؤطرات ومستويات خاصة من تمثيلات النص: (-- هذه الكتب الكثيرة لمن تدخرينها ؟ هل تظنين ان -- نبيل -- سيعود ليتصفحها من جديد ؟ ./ ص٦ الرواية) وما يرمي إليه الصوت الضمني في الوحدات، ما هو إلا (الرؤية - البؤرة) وكذا ما تشتمل عليه الأفكار والهواجس والتصورات في مكنون وجدان الشخصية جميلة من علاقة قد ﻻ تنتهي بغير استجلاب المظاهر والمحاور التعرفية في سياق الوحدات توضيحا لمنظور المرادات المقصدية وما تستلزمه من استرجاعات تصورات مضمنة ومعلنة في رؤى دينامية مقاربة أو مغتربة: (أنا لست مجنونة وﻻ ممسوسة، ولكني أملك طاقة روحانية بالتحدث مع الجن، فقد كان جدي في طفولتي يستخدمني لفتح المندل والتكلم مع الجن، هذا الجني الذي يتواجد معي أغلب الأحيان، أنا أعرفه منذ زمن قديم. / ص٦ الرواية) وباستقرائنا لحصيلة مؤهلات الشخصية جميلة، إذ نعاينها كونها فتاة مشدودة إلى واقعها المتردي، فهي تلك الفتاة التي فقدت شقيقها الأكبر في الحرب، كذلك هي الفتاة التي لم تحظ بحسن الفتيات، لذا بقيت وحتى عقدها الأربعين دون اقترانها بذلك الزوج المناسب، لذا ما كان بوسع أمها سوى تغريرها بصفقة الزواج من أبن خالتها حميد: (أمي كانت صريحة معي حد السذاجة قالت لي: - أن زواجي من - حميد - سيقرب المسافات بينها وبين أختها ويرأب الصدع القديم بين اسرتيهما. / ص١٠ ص ١١ الرواية) غير ان المسكينة جميلة لم تحيا مشاعر الزوجة بصورتها التمثيلية إلا وبعد مرور عدة أشهر من التحاق حميد للحرب: (التحق بوحدته لخدمة الاحتياط، جاءني الخبر الذي كنت اتوقعه . / ص١١ الرواية) لعل الروائي المعموري في بعض الوحدات الخاصة في مرحلة ما وراء زواج جميلة من حميد، كان أكثر تندرا في تعزيز تموجات المسرود بما يلاءم خصائص وعلامات الشخصية جميلة، فالروائي راح يغطي السرد بأقصى الأفعال المتماهية مع الاحتفاظ بصوت ووتيرة الساردة المشاركة بما يوفر لمرحلة مأزومية الذات الشخوصية مبلغاً ذرويا على مستوى كشوفات البؤرة السردية: (سكبت -طاسة - الماء خلفه بوصية من أمه كي يحفظه الرب ويعود إلينا سالما .. موضوعة -الطاسة - والماء الذي يرمى خلف الراحلين، تلك عادة دأب عليها أهلنا منذ أمد بعيد . ﻻ أدري من ابتدعها رغم عدم إيماني بها جملة وتفصيلا . بدليل أن - حسن - جارنا ذلك الشاب الأشقر الوديع . جلبوه شهيدا بعد يومين من رش الماء خلفه، وحدث ما كنت اتوقعه، رحل زوجي حميد ولم يعد،وقد أدرج اسمه مع المفقودين في الحرب . / ص١٤ الرواية) لا شك ان العلاقة بين المبئر والمبأر في حدود هذه الوحدات السردية لا تقف وقفة المشهد الخارجي، بل كونها حالة تركيزية بين (المبئر = تبئيره) جنوحا نحو دواخل تفاصيل محكية راحت تنتقل كصيغة خطاب من حاضر (المبأر - اللحظة الزمنية المنصرمة) وحتى حدود الإطار الحاضري للشخصية كصوت سردي يقوم بدور (السارد - الشخصية - المبئر) وصوﻻ إلى كونها الفاعل الذاتي الذي اتخذ من نفسه شكلا للمحفز لهذه الجملة من الاسترجاعية، لذا ينتقل الشكل السردي من فاعلية الاسترجاع إلى ممارسة فعلية في رؤية الحاضر الوقائعي للشخصية . كذلك نتعرف من خلال تفاصيل الرواية على الشخصية نبيل شقيق جميلة، بالمقابل من وجود شخصية سالمة تلك المرأة الأخاذة في حسنها وكيفية زواجها من جبار ذلك الرجل الكهل الذي يعاني من الضعف الجنسي والذي تشغل حياته مهامه في منظمة حزب البعث، في حين كان نبيلا فارا من الجيش، فيقع في عشق سالمة تلك المرأة التي تصاحب جميلة وأمها في دارهم في أغلب الأوقات، فيما كان نبيل يتخفى هاربا من الحرب في أحدى غرف الطابق العلوي من المنزل، فيقع عن طريق المصادفة في حب سالمة والهيام بجمالها الساحر، ويحدث ما يحدث من أحداث روائية لها مقبولية الذائقة والتذوق الجمالي .

- تعليق القراءة:

ﻻ يمكننا طبعاً تناول كل الأحوال النصية في رواية عادل المعموري، خصوصا وإنها تتحلى بذلك التواتر والتوتر في السياق الدرامي والنواتي،إذ يتعلق زمنها الكتابي ضمن فضاءات محكية تقع في حدود ارتباطات كل شخصية ومقامها الاحوالي الخاص في السرد والمسرود، الروائي يتعامل مع أزمنة الشخوص بتلقائية عذبة، ناهيك ما للبناء الروائي من المؤثرات والمتواليات المحكومة بالفجائية والمعمارية المتخيلة والمحتملة في ذائقة النص . لذا تكشف لنا أخيرا الرواية عن وقائع وويلات الحرب ونتائجها البائرة على حيوات الشخوص الداخلية والخارجية، لذا فهي رواية ذات صنعة فنية وجمالية وتقانية لا غبار يشوبها . ومن هنا اقول ختاما ان دﻻﻻت رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) هي النسيج الروائي الشاهد والدال على عقود ملتبسة وممجوجة من ولادة شبح الموت والمكبوت والاصفاد التي قام بتوظيفها الروائي المعموري في سياقات حكايته الرواية المائزة في توظيفاتها وتشخيصاتها لبقايا الحياة المهجورة في رحلة الهروب من الموت والزمن المفقود في إيقاعات الانغلاق والتيه في غياهب الغياب .

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم