قراءات نقدية

باقر صاحب: ثنائيّةُ الحياة والموت في الرواية

"تغريبة القافر" للروائي العماني زهران القاسمي نموذجاً

لكي يشدَّنا زهران القاسمي، إلى روايته، الفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية لعام 2023، منذ صفحاتها الأول، يُعلنُ في قرية "المسفاة" عن حادث غرقٍ في بئر، لكن لم تُعرف هوية الغريق أو الغريقة. فتنفتح أبواب حبكة الرواية، حين نعلم أنّ الغريقة هي امرأةٌ تدعى "مريم بنت حمد" زوجة "عبد الله بن جميل".

مع ذهول زوجها بما حدث، بدأ يتساءل: ما هو الباعث لذهابها إلى هناك، وهي تتخوّف من الآبار، سنكتشف بأنَّ الذي جذبها إلى هناك جنينها، فالغريقة، كانتْ حاملاً، حيث أنّهُ قبلَ أن يتمَّ تكفينها، صرختْ خالتها بعبارةٍ بليغةٍ:" في بطنها حياة، في بطنها حياة" ص:13. وبالرغم من توجيه شيخ القرية، بأن تُدفن الميتة، وفي بطنها الجنين، تتمرد عمّتها "كاذية" على ذلك بأن تقوم بشقّ بطن ابنة أخيها لتُخرج منه الجنين، حيث كان حيّاً سالماً، ولذا سُميّ "سالم" وهنا تتجلىّ لنا، ثنائية الحياة والموت.

كانت مريم في أثناء فترة حملها تحلم بأشياءٍ غريبةٍ تنبىء بموتها المبكر، وولادة ابنها، وبمهمة الوليد المستقبلية، فهو القافر الذي وهبه الله معجزة السمع عن بعد، فيجوس في القفار، بحثاً عن منابع الماء في جوف الأرض، في الصخور والجبال. حين همّوا بإحضار نعشها، كان المطر ينهمر بغزارة، حتى أنَّ القبر امتلأ بالمياه، في مشهدٍ يحمل دلالةً، بأنَّ الفقيدة ماتت غريقة ودُفنت غريقة.

هنا يعود الراوي إلى عبد الله بن جميل، حين زار "كاذية"، تفاجأ أنّ لديه ولداً، فاحتضنه، حين ذاك فطن الصغير إلى حامله وابتسم له، لاحظت مرضعته آسيا بنت محمد، وهي التي ثكلت بناتها الخمس، وهاجر زوجها، بأنَّ الطفل" منذ أن كان يحبو رأته يميل بأذنه اليسرى على كتفه ويحكّها عليها:ص49.

هنا يريد الراوي استدراجنا إلى ما يريد، بأنَّ تلك الأذن التي تحكّه، دأب على إلصاقها بالأرض، كأنّها بداية نموِّ موهبته وهو صغيرٌ كقافر، يتتبّع أثر الماء في باطن الأرض.

تلحظ "كاذية" ذلك الأمر أيضاَ، لكنّها تكتم ذلك عن نساء القرية لئلاّ يحسدنه، لم تطلعْ سوى أبيه، الذي ضحك من الأمر، لكن ذلك حدث معه وطفله سالم في عمر التاسعة عندما أخذه في رحلةٍ إلى الوديان البعيدة .

وحين بلغ سالم من العمر 15 سنة بانت موهبة اكتشاف الماء تحت الأرض بإلصاق أذنه على التراب الذي من تحته انبجس الماء، في البقعة التي يمتلكها سلام بن وعري العاموري، حيث انكشاف الماء عبر ينبوعٍ صغير، جاء في أثناء جدبٍ حلّ في القرية بعد خصبٍ دامَ فيها بعدد سنوات عمر سالم، وحصل أن اتّفق أهالي القرية بأن يجدوا آثار القناة القديمة التي تسقي مزروعاتهم، ما دامت عين الوعري لا تكفي إلاّ لأغراض الشرب وطهي الطعام. وبدؤوا بالبحث عن أثر القناة التي تُسمّى عندهم (الفلج)، لكنّهم تعبوا ويئسوا ولما يجدوا الفلج.

ينبوعُ الحب

بعد سردٍ متتابعٍ، لكلِّ جهود أهالي القرية، ومضيِّهم أيّاماً عديدةً في الحفر في المكان الذي قال عنه سالم بأنه المكان الخطأ، يتّضح لهم صحّة كلام سالم، وأنَّ الماء تدفّق في المكان الذي أصرَّ عليه، فرح أهل القرية، حيث انساب الماء في أراضيهم، ومضوا يرتّبون أمورهم في سقي محاصيلهم وتنظيف بيوتهم، حينذاك اعترف أهل القرية بأنَّ سالم هو القافر فعلاً، بعد أن كانوا يسمّونهم باستصغارٍ ابن الغريقة. عند ذاك شاع خبر قرية المسفاة بين القرى، وجاء البدو الرّحّل يستسقون من أفلاجها، وبدأ الناس يعقدون اتفاقياتٍ مع سالم بشأن تتّبع الماء في قراهم، ولكنّ ومضة حبٍ برقت بين سالم وفتاة جاءت مع أمها إلى كاذيّة، ثمّ رحلتا إلى حيث لفّهما الغياب، وكأنها تنتظره في قريةٍ بعيدة. في الوقت نفسه عرّج الراوي إلى الحديث عن أناسٍ جاؤوه من قرية المسيلة، لكي يبحث أثر الماء في أفلاجهم المطمورة، وحلَّ في قريتهم الجدب، مثلما هو حال قرية المسفاة، وبقية القرى. ومضى هو وأبوه الى المسيلة، وكانت المفاجأة، بأنّ الطفلة التي جلست جنبه وتحدّثا كأنهما يعرفان بعضاً منذ زمن، أصبحت فتاة جميلةً تُسحر من يراها، ونزل هو وأبوه ضيفاً في بيت أهلها، جرفه الحب، حتى أفلح سالم بالزواج منها.

عائلةٌ مائية

لكنّ الخبر المؤلم موت عبد الله بن جميل، في العالم المائي ذاته، الذي غرقت فيه زوجته ريم، أم سالم. ولذلك عاهد سالم نفسه، أن يترك مهنة القافر، لأنّ فيه مماته. ولكن يأتي رجلٌ اسمه محسن بن ضيف، يطلب القافر، بعد أن أصاب ما يسمّيه بن ضيف "البلدة" الجدب، لكنّ سالم تردّد كثيراً في الأمر، وألحّت زوجته على ترك المهنة، خشية أن ]موت كميتة أبيه، ولكن بن ضيف تعهّد له بأنه سيكتب له حقوقه كاملة، (نصف البلدة) وتتسلّمها زوجته في حال مماته.

نهايةٌ مأساوية

كانت غيبة سالم طويلة، وأخذت أهل زوجته الظنون بأنّهُ مات غرقاً في أحد الأفلاج، وكان سالم قد أصيب بجروح، منها شجٌّ في رأسه، في سبيل تهشيم الصخرة الجاثمة على القناة، بعد كفاحه المرير، يموت سالم غرقاً في الماء المتدفق جارفاً كل شيء بما فيه هو، كانت ضرباته الغاضبة، انتقاميةً على ما كلِّ ما هو بائسٌ في حياته، على البعد عن زوجته، الذي أطاله عدم تهشّم الصخرة الصمّاء. كانت لحظة حياةٍ أو موت، هي التضحية والمغامرة، حين تتهشّم الصخرة أخيراً، ويتدفّق الماء هادراً في أرجاء البلدة، لكنّ سالم يموت غريقاً ومتأثراً بجروحه البليغة.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

.................

* صدرت الرواية بطبعتها الثامنة عن دار الرافدين –بغداد، ودار ميسكلياني-تونس عام 2023

 

في المثقف اليوم