قراءات نقدية
عادل مردان: المشّاء في طريق الينابيع
خمس لوحات مرسومةٍ بالكلمات، تستثمرها القراءة - لخلق مجاورات لتلك النصوص. إذ صممها الشّاعر موفق السّواد - وهو رسامُ آثار يستلهم شعريته كثيراً من ذلك الفن. فأبرز مايولع به تحويل أساطير اليوميّ والمعاش، الى إبتكارات على البياض.... تتمركز فكرة الحنين عندهُ ومهما حلقَ بخياله وأبتعد عنها - يعودُ متواصلاً مع ذلك الشّغف.
مروراً بـ(رفحاء) عندما كتبَ رواية عن لوعة الرمل... حطَّ به الرحال في أرض المنخفضات بلاد (إسبينوزا) -كان ذلك قبل سنوات، ولأنَّ المنفى يمنح الغربة بالمجان - إنطبع ماهو غريب وسرياليّ في مخيلته. التمرد عنده قليل الفوضى وخفيض الصوت، أي أنّه يُهندم العنف بالهمس.... شاعر تفاصيل لكنّه يأخذها الى العام إذ يطرزها بالحنين الجارف - فكلّ تمركز في الخاص، يحرمُ التهويم في العوالم. يتوضح التحويل عنده هكذا: نقل الحسيّ المنسجم الى فنطازيّ مشوش.... يعتمد موفق دائماً على إستحداث فكرة يُلبسها لغة مأنوسة - غير فضفاضة بفضائل الحذف بعيدة عن التجريد... ما معناه أنّ قصيدته متفكرة تعتمد على التغريب والفنطازيا - وشعريته ترجمة عذبة عن طفولة عاشت أحلام الماء، في الجنوب الرافدينيّ ذلك العتيد الذي زرع أقداره على الضفاف.
يكتب السّواد باللغة الهولنديّة وله حضورٌ مميز - فشعره مصنف في إنطولوجيات تلك اللغة، وله كتاب وحيد في العربيّة عنوانه (أسرة الفتنة)... لاتميل قصيدته الى الهايكو، لامن قريب ولابعيد - بينما يمكن العثور في فضائها، على شذرات ثرية.... أما السّرد فمقطعٌ وخاضع لمشيئة المونتاج. في اللوحات الخمس التي إخترتها - الزمان جسدٌ مُعنّى يدون أوجاعه في المنفى، أما المكان فهو استلهام المشّرق بمكنوناته الباذخة - أليس الشّرق (مهد البشريّة)؟
1- حَيرة الكرسيّ:
تُمحى الكثير من التفاصيل - بعد أنْ يتحوّل الكرسيّ الى عاشق مُتلبّك، لجلوسها على أضلاعه.... يرسمُ شاعرنا بورتريت الجلوس والارتباك، نظرة مصوبة الى الخشب المرتعش - عندما يسيحُ الجسد بأقمار على محنته، أما الناظر فهو أسير الخيزران.
من زاوية الإيكولوجيا (أعني النقد البيئي)، فالإحصاء هكذا: (الخيزران الصُّلب - نعومة ثملة- أفق يتلاشى - عتمتها البيضاء تتآخى في ودَ مفتوح).
شاهدة الشّعريّ في النص: (أنا الذي أحملُ قلباً أعزل).
[ يَظهرُ الخيزرانُ الصُّلب وهو يتطامنُ تحتها - نعومةٌ ثَملةٌ وهي حينما تتقدمُ الى الأمام أو تتراجعُ الى الوراء - يَفسحُ في المجال لأفقٍ تتلاشى فيه الأبعاد وتزول - عتمتها البيضاء تتآخى في ودّ مفتوح مع إهابِ الخيزران القمريّ أحياناً --- يذهبُ الخيزران الى محاقهِ مبكراً - فيما يكشفُ الجسدُ عن أقمارهِ الخبيئة - أبقى أنا الذي أحملُ قلباً أعزل أسيرَ الخيزران الصّلب ونعومتهِ الثّملة]
2 – مَظانّ:
أكثر من غيبةٍ صغرى يُخطفُ الغائب قلوبنا، بغيبات متقطعة في اليوم الواحد. الشّاعر يترقبُ ظهور طائر قرب النافذة - تلك مشهديّة النص، ربّما الغائب هو طائرٌ لايسمعُ إصطفاق جناحيه- هنا فعل الرّيح المرعب في إلتهام الإصطفاق والتغاريد.
الإيكولوجيا: (المخلّص - الرّيح- الطّائر - النافذة - التغريدات).
الشّذرة: (الرّيح دائماً تلتهمُ تغاريده).
شاهدة الشّعريّ في النص: (ثمة طائر يغالبُ الرّيح قبالة نافذتي).
[انا هنا أنتظرُ شيئاً غائماً وغير مؤكد - يبدو كثيفاً في الإيحاء بأنّهُ غير موجود وقائم مثل مؤمنٍ تسكنهُ فكرة عودةِ المخلّص من مَظانّ غيابه. وما يجمعني بذاك المؤمن هو الرهانُ على أنَّ الغائبَ سيعودُ من غيبته - ولكنْ مايباعدني عنه هو الوضوحُ واليقين لديه ونقيضُ ذلك ماعندي - ثمة طائرٌ يغالبُ الرّيح قبالة نافذتي - وأنا أنظرُ اليّه بلا إكتراث إصطفاقُ جناحيه لايُسمع الرّيح الرّيح دائماً ماتلتهمُ تغاريده وإصطفاق جناحيه].
3 - قصيدة المنزل:
الإيكولوجيا تملّأ الفضاء: (الأشياء - يديّ - فناء البيت - اللّمعان - الجسد - باحة هادئة - كرات ملوّنة - أغنية طيعة).
مايجعل النص متحركاً هو تأثير الأفعال: (أمدّدُ الأشياء - أريدُ له باحة - تتقافز تحت قدميه - يجلسُ هناك)... لاستمرار سريان الإيقاع تم تكرار لازمة الفعل (أريدُ) ثلاث مرات.
الفكرةُ أنَّ الجسد يعود طفلاً - فالراوي يقوم بتلقينه بعض الحيل، كي يبعده عن فداحة العدم - فالهدفُ إعادة ترتيب الأشياء.
الشّذرة: (أمدّدُ الأشياء بين يديّ في فناء البيت).
شاهدة الشّعريٌ في النص: (حين يجلس هناك في العدم).
[أريدُ ببساطةٍ مفرطة أنْ أمدّد الأشياء بين يدي - في فناء البيت - كي أعرف سبب لمعانها
أريدُ لهذا الجسد الممسك بظلالهِ أنْ يعاود شهيقه في الإختصار والتلاشي أريدُ له باحة هادئة وكرات ملوّنة
تتقافزُ تحت قدميه واغنية طيّعة حين يجلسُ هناك بعيداً بعيداً في العدم ويعيدُ سيرتهُ الأولى في التهجّي وطرق اللعثمة].
4 – خُدعة:
الخِداعُ حربٌ طاحنة رداً على تجهم النظرة - عندما يصنعُ المتوّجس حصانه الخشبيّ - حَصيلةٌ مرّة تتسبب بكارثة على الفور.
ماذا نتأمّل من وقفة المتجهم - بينما لاتنقشع غيماته الدّاكنة عن نجمته الأثيرة. (سيدة السّطوع تلك النجمة الزرقاء تدعى بالشّاردة Blue Straggler) ---- نص الخُدعة يستعرض أمامنا الشّكوك والأوهام -تتناهبه الهواجس لتقدمه فريسة لحرب وهمية - يقول عبد اللّطيف اللعبيّ: (الشّاعر جاسوس المشاعر)
يمكن تثبيت عناصر الطبيعة حسب السّياق لتلافي التكرار - وأهمها: (نجمتيّ الزرقاء - حصان خشبيّ - طروادة).
الشّذرة: (لا أمل في إلتفاتة عابثة منك).
شاهدة الشّعريّ في النص: (ثمة طروادة دائماً).
[في اللحظة التي ظننتُ فيها أنْ لا أمل في التفاتة عابثة منك الى هذا الكائن الأكثر هشاشة وتقصفاً أذ إنتظرتُ وإنتظرتُ وإنتظرت دون أنْ تكشف غيومك عن نجمتيّ الزرقاء قررتُ أنْ أصنع حصاني أنا الآخر كما فعل الأثينيون فثمة طروادة دائماً]
5 - في لوحةِ پول كلي:
معظم لوحات السّواد تميل الى البياض - لأنّها بقايا الأثر في الجدران. اما عن (پول كلي) فهو رسامٌ مفكر مولعٌ بأجواء الشّرق..... النّص تجاور الشّعري مع حقل الرسم - ما ابتكره الشّاعر ترجمة عن لوحته المفترضة - التي رسمها في خياله تحت تأثير عوالم (كلي) - أي أنَّ موفقاً هو من رسم السّلك الفضيّ وليس الأخر.
مفردات البيئة: (سلالم عالية - سلك فضيّ - رجل واقف - المثلثات الصفراء - الظّلال البعيدة).
الشّذرة: (يمشي على دهشة السّؤال)
شاهدة الشعريّ في النص: (صوته الذي يأتي مغموراً في السّكون)
[سلالم عالية وآلةٌ فادحة تهرسُ الضّوء رجلٌ يقفُ الى جوارها يصنعُ سلكاً فضيّاً ويمشي على دهشةِ السؤال
الدوائر الخافتة التي تظهر في الظّلال البعيدة هي صوتهُ الذي يأتي مغموراً بالسّكون]
6- في تجربة الشّاعر المبتكر - أعني عالمه الخاص
- هناك مستويات في شعره - ليست مُزاحة كلّها وقوية لكنّها مهمة كجسور لعمارة النص... تحدث الفسفرة في النص المتحرك متمثلة بفنّ (الإيبيغرام) - توهج البيت الواحد قد نسمي الطاقة المشعة تلك: (الإنزياح الماكر) - اذ يتحقق ذلك بفعالية البيت الممغنط (يمشي على دهشة السّؤال).
يمشي فعل حسيّ وشائع - دهشة مجردة أما دهشة السّؤال فأكثر تجريدا - معنى هذا أنَّ الحسيّ يسيرُ على سكة التجريد - وهو ابتكار خاص وغريب.
مايزال الحنين يرسم معظم الفضاء الشّعري - حتى لو جرفنا الى أحياز سرياليّة - من قامت بذلك تعبيريّة أخّاذة كافية ومقنعة --- لا أدري هذه الألعاب جاءت من تأمّلات قارئ - لا يضع الشّروط النقديّة حاجزاً في طريقه - في حرارة السّعي لا أحد يجزم متى سنصلُ الى النّبع؟
***
عادل مردان