قراءات نقدية
تقديم لديوان ترانيم الصدى للشاعر منصور فلاحي
توطئة: يضم الديوان أربعة وأربعين قصيدة، صاغها الشاعر منصور الفلاحي داخل نسق شعري لا يكترث لإشكاليات التجنيس في مجال النوع الأدبي والهوية الشعرية. وذلك لأن صاحبنا منصور حسم في الأمر بتسييج المقول الشعريّ داخل الموسيقى، بأدلّة هي:
- تبنّي الموسيقى في وحدة الأروية وتجانس القوافي على امتداد الديوان
- تبنّي الموسيقى الداخلية في غضون المصوغ الشعري عبر مجموعة من الآليات الإيقاعية التي لا تمتح من عروض الخليل بقدر ما تمتح من طبيعة النصوص التي تُغنِّي ذاتَها وتترنّمُ بذاتِها.
- تسمية الديوان بالترانيم، وفي الترانيم ما فيها من زخم موسيقي في جميع الثقافات.
داخل هذا النسق يتحرّك ديوان الشاعر منصور حركةً لا تتنكّر بتاتاً لمفعول الإيقاع في تربيب المعنى وفائض المعنى لنقلِ المتلقي من حالات البداهة في تلقي الخطاب اليومي، إلى حالات الاندهاش في تلقي النصوص الجميلة التي تتجاوز دغدغة العاطفة ومداعبة الوجدان إلى مساءلة الذات في علاقاتها المتشعبة بذاتها وبمحيطها وبقضاياها وقضايا الآخر القابع في مختلف النزوعات النفسية والاجتماعية والسياسية وغيرها. بمعنى أن الديوان حَمّال أوجه في صيغة الموسيقى الأخّاذة والباعثة على فكرة التشنيف ثانيا وعلى فكرة المساءلة أولاً... وعلى أفكار أخرى سيعرّيها سياق البحث ثالثا.
العتبة:
ونقصد بها قراءة عتبة الديوان، أي عنوانه الموسوم في وعيِ الشاعر بعبارة غير بريئة، وهي (ترانيم الصدى). ونقول بأنها غير بريئة لأن الشاعر هنا لا يتحدث من مساحة الإمتاع والمؤانسة الشعرية المُدغدغة لعواطف المتلقي. إنه كائن ورّطَ ذاتَه في مفهوم الجمال السائل والمتسائل والواضع لكثيرٍ من البداهات موضع السؤال. من هنا نقول بلا براءةِ صوغِ العنوان، لأن المسألة لا تتعلق بعرض الترانيم للاستمتاع، وإنما بوضعِها رهن إشارة المتلقي لمساءلتها في توجّهاتها الكاشفة عن أسرار هذا الصدى الذي اُسْنِدتْ إليه الترانيم. فكيف نستوعب الصدى وهو مجرد رجعٍ للصوت؟ وكيف يتحول الصدى من حالة فيزيائية إلى حالة كاشفة في عمق الدلالة الوجودية عن تجليات هذه الذات المتكلمة وهذه الذات المخاطبة في نفس الآن؟
والترانيم جمعُ ترنيمة، وترنّمَ المغنِّي يعني رجّعَ صوتَهُ وتغنّى به في تطرِيبٍ وتَحْنان. وأمّا الصدى فله معْنيانِ: الأول يرتبط بالعطش الشديد، والثاني، وهو ما يصبو إليه الشاعر، ويتعلق برجعِ الصوتِ يردّه جسمٌ عاكسٌ كالجبل أو المغارة أو الفضاء الواسع... وحتّى الصدى بمفهوم العطش قد يجد مصداقيتَه في الديوان بحكم عطش الشاعر لقيم الجمال التي باتت منعدمة أو تكاد، في سياق حياة وجودية عارية من القيم. وأما الصدى بمفهوم رجع الصوت فأولى وأجدر، بحكم ارتباطه في تركيب العنوان بالترنيمة. ويكون التجانس التركيبي والدلالي في العتبة أجدر وأولى بالتأويل من أي تخريجٍ آخر، فكلاهما خارجٌ من حقل واحد هو حقل الصوتيات.
فلِمَ أسندَ الشاعر الترانيم للصدى ولم يُسنِدْها للواقع؟ ومساقُ طرح السؤال هو حقّنا كقرّاء في الاستفهام، لأن الصدى ليس حقيقة بقدر ما هو وهمُ حقيقة والدليل تبخُّر الصوت في الفضاء. وهو تبخّرٌ لا يتركُ لنا إلا فسحةً من الاستمتاع برجعه وهو يسير في قدرِ التلاشي. فنكون في وضعِ المستمتعِ بوهمِ الصوتِ لا بالصوت في وجوده الفيزيائي والحقيقي. ولا يكون الأمر حينَها إلّا لعباً يفسح أمامنا مزيدا من تكرار الصراخ ليرجع إلينا في تردد جميل يدغدغُ أسماعَنا ثم يتبخّر.
من هنا مكرُ الشاعر منصور الفلاحي، على اعتبار أن عنوانه ليس بريئاً كما أسلفنا... إنه يدين الترانيم كما يشجب الأغنيات، أي القصائد التي لا يتجاوز أثرها حدود الرجع والتردد الجميل الحامل لدلالة الاستمتاع فقط. وكأنه يدعونا إلى تجاوز القصائد التي يقف أثرُها عند حدود الجمال القشوري إلى معانقة القصائد التي لا تكون ترانيمَ في الفضاء الواهم بقدر ما يريدها قصائدَ في الواقع، ترجع إلينا لا في صداها الخاوي بل في مداها المؤثّر والفاعل والقوي والمغيّر أو على أقل تقدير، الحامل لكيمياء فكرة التغيير.
هكذا فالعنوان فاضحٌ في أول التحبير لغائية الديوان، ولرسالة الديوان، ولهدفيته البعيدة المتجاوزة لفعل الشبه والتكرار في ساحات الإبداع. ومن هنا أيضا يحقّ لنا طرح السؤال التالي: لِمَ قال الشاعر (ترانيم الصدى) ولم يقل (صدى التّرانيم) ؟ قد يبدو الأمر متشابها لا يعدو أن يكون تقديماً لمتأخر أو تأخيراً لمتقدم في التركيب. لكن العربَ علّمتْنا أن التقديم والتأخير تركيب جماليٌّ واسع الدلالات. ولا أجمل من دليلٍ، قوله الحكيم الخبير (إنّما يخشى اللهَ من عِبادِه العلماءُ) سورة فاطر، الآية 28.
إن جمالية العبارة (ترانيم الصدى) المبتدئة بمقولة الترانيم هي أشد وقعاً بلاغياً على المتلقي من تقديم الصدى، لأن الإدانَة في منظور الشاعر لا تنصبُّ على الطبيعة (الصّدى) فهي بريئة من كل مأخذ أو مآخذ. الموضوعُ في قفص الاتّهامِ هو فعل الإنسان، هو ترانيمه التي صنعها خارج الواقع، هو أغنياتهُ وقصائدهُ التي لم تكن في الموعِد كي تمارِس أدوارها في عمليات التغيير. من ثمّةَ كان تقديمُ الترانيم أقوى من تقديم الصدى، وبالتالي فالمتلقي سيدرك عمق التقديم وخلفياتِ صاحب العنوان والديوان التي تؤسس فعله الشعري الناقد والمنقود.
الديوان:
الديوانُ كتلةٌ من الهمس في أذن الوعيِ الذاتي والإنساني. خطابٌ جماليٌّ لمعانقة فنِّ القيمة قبل اندحارِها وهزيمتها في مجالَيِ الإبداع والوجود. ينتقل فيه الشاعر من إدانَة الآخر في تخلّيه عن عشق الجمال إلى التفاؤل بالآخر في هذا العشق، يلومُ في غير عتاب ويُشرِّح في غير إيلام، وينتقد في غير تجريح. يمسك بالقضية داخل ترنيمة من ترانيمه الهادفة ويقدّمها أغنيةً جريئةً في الكشف والعراء.
و ينتقل الشاعرُ بالمتلقي في جوقةٍ عارِمة من الترانيم، مدركاً بأن الصراخَ في وجه المخاطَبِ لم يعدْ يجدي نفعاً، وأن الجمهور حالياً يحتاج إلى همس الترنيمة أكثر من حاجته إلى قرعِ الطبول بالنصيحة المفضوحة والفاضحة، أو بالتعننيف والزعيق والخطاب المباشر. وهنا مكمن الجمال في اختيار الشاعر أربعة وأربعين ترنيمة يشنّفُ بها مسامع من له قلب وألقى السمع وهو شفيف الروح وجميل الوجدان.
فمن ترنيمة العتاب للأحباب في رقّة، إلى ترنيمة التفاؤلِ بالغد، إلى ترنيمة النوستالجيا القابعة في التاريخ الشخصيّ للذات، إلى ترنيمة الحنين للأهل والأصدقاء، إلى ترنيمة التغني بالطبيعة في تجلّيها المفعم والإيجابي، إلى ترنيمة الوطن والزمن والبحث عن النقاء في صيرورة الإنسان بعيدا عن أزمنة التعفن والعفن إلى ترانيم أخرى تتعدد بتعدد آفاق الرؤيا الشعرية لدى شاعرٍ في حجم الفاضل منصور الفلاحي. وهي رؤية تتبنّى شمولية الطّرح لقضايا الإنسان في عميق التعبير الشعري المكتوي بلظى الجرح الفردي في تغنّي الشاعر بنار العشق إلى الجرح الجمعي، وفيه همس الشاعر في أذن الزمان بقبح الجائحة وغلوائها وأثرها العبثي في صميم الأنام...
و في هذا المسار الفنّيّ، يعجّلُ الشاعر بقرار الترانيم، في إعادةِ صوغِ الإنسان من حالات التخلّي عن عشق الجمال إلى حالات معانقة الجمال. والمدخل لاقتراف هذا الإبداع هو الترنيمة لا غير. ففيها أودعَ الشاعر أسْرارَ الحب والمحبّة والعناق الأبدي للإنسان في تجلّيهِ العامر، لا في تناقضاته الهدّامة. وكأنّ الترانيم رسائل محلّقة في سماء القيم تُعلّمنا كيف نكون ومع من نكون وإلى أين ينبغي أن نصير في كينونتنا الإنسانية الممتازة.
مكر الانزياح:
يصوغ الشاعر منصور عباراته الشعرية داخل قوالب مموسقة أخّاذة، يسعِفُها توظيفٌ ذكيٌّ لمجال الانزياح، في أفق تثوير العبارة والتركيب وإخراجهما من سطحية البداهة إلى عمق الإدهاش. فتكون البلاغة في الديوان خادمةً للمعنى ولفائض المعنى، ويكون الانزياحُ سيّد الموقف وهو يجترحُ الجمال في جلالِ المقامات الفنية والوجودية لهذه الكينونة المتأرجحة تأرجحاً سديمياً بين الذات المتكلمة والذات المخاطبة.
ينفر الشاعر من التبسيط البلاغي الذي تبدو فيه العبارة سهلة المأخذ وقريبة المنال. وبالعكس من ذلك فالشاعر يرفع الانزياح لا إلى مقام الغموض وإنما إلى مقام المكر الأدبي الذي يحترم ذكاء المتلقي. فقوله مثلا (قولوا لهم صُبحًا كنا فَأَمْسَيْنا ..) إشارة ذكية إلى حالة الغياب دون التصريح بمفرداتها البائنة بينونة كبرى. ذاك أن الشاعر يؤمن بجمالية الصوغ الشعري، وقبل إيمانه بهذا فهو يؤمن بجمالية التلقي التي لا تقف عند حدود إمتاع المستقبِل ببلاغة الرسالة، وإنما يتجاوزها إلى احترام ذكائه في مكرٍ أدبي يترك للمتلقي هامشا من الاجتهاد في اجتناء المعنى والدلالة. من هنا انزياح المقول من حالة التشبيه التقليدية المضمرة في تخريج العبارة كالتالي (نحن نشبه الصبح في الحضور ونشبه المساء في الغياب) إلى تخريجٍ ذكيٍّ يختزل الكلام في لمحِ الإشارة بدل امتداد العبارة.
ومن مكر الانزياح عبر التجاوز لبلاغات التقليد إلى مكر الانزياح عبر امتطاء صهوة المسافة بين طرفي الصورة البيانية... فلننظر إلى قول الشاعر:
وتلك الأحلام طواها الزمـن
مجهضة بلا سَترٍ بلا كفَن
يصنع الشاعر في وعيٍ فنّي مسافة توتّر – على حدّ تعبير الناقد كمال أبوديب – بين مقولة الأحلام او بين مقولة الطي. فهذه الأخيرة تستدعي مفعولاً متشيئِّاً قابلاً لفعل الطيّ، فكيف تُطوى الأحلامُ، بل كيف يمارس الزمن هذا الفعل المادّيّ والحسّي على غيرِ ممكنٍ يتّسمُ بالتجريد والزئبقية ؟ فالأحلام المصنوعة من خيال، والطيُّ فعل حسّيٌّ، فكيف يلتقيان؟ من هنا عبقرية الشعر حين يفتح المجال أمام اللاممكنات لتتحول إلى ممكنات لأن سياق الورود يتغير. فقولنا بالطيّ الواقع على الأحلام مستحيل في عالم الحقيقة، وهو ممكن جدّاً في عالم الخيال، والشعر هو الباب الواسع لاستقبال العبارة في جنوحها المحلّق كيفما كان التحليق ومهما شطّ بعيداً في سماوات الهيولى.
و قِسْ على ذلك مسافةَ التوتّر بين الأحلام والإجهاض. أي بين المجرّد والحسّي. وهذا المبحث الانزياحي الجميل متواترٌ في الديوان وفيه تتفجر شاعرية الشاعر وتنبثق قويةً وحاملة لممكنات الإدهاش الجماليّ.
و من مسافة التوتّر في تشكيل الانزياح ينتقل الشاعر منصور إلى خلق أنساق الانسجام في تركيب الانزياح، بحيث يحرص على استثمار الحقول الدلالية في تناغم مكوناتها. والأمثلة كثيرة في الديوان وغزيرة نمثل لها بقوله:
وكل أحرفي سكارى
وقوافي ثملة حيارى!
و لا شك أن مقولة السكر ومقولة الثمالة تنسجمان أشدّ الانسجام وتحكيان معاً نسق هذا الانزياح الذاهب في البيان مذاهب التناغم اللطيف والمستميل لذائقة المتلقي كي يتفاعل أشدّ التفاعل مع الصورة في ذكاء تركيبها، وبهاءِ ترابطها ومتين انشدادها بعضاً لبعض في علاقة بنيوية حريرية الصوغ... أنظر كيف خلق الشاعر انزياحيْنِ في واحد داخل بؤرة التناغم :
- تناغم مقولة السكر والثمالة
- تناغم مقولة الحروف والقوافي
الختم:
كانت هذه ورقة تعريفية تقدّم الديوان في عجالة لا تتغيّى مقاربة المتون في مستويات بنائها، بقدر ما هي تقديمٌ يقرّب المتلقي من محاريبه. وحسبي في ذلك أنني قرأت (ترانيم الصدى) فوجدتُني أترنّم وأغني مع الشاعر منصور همّه الذاتي وهمّه الجمعي في قصائد ارتأت أن تتقدم إلى القارئ في عباءات خضراء مموسقة تُخلِص لنسغ الرويِّ والقافية في تجانسهما ووحدتهما في كل قصيدة على حدة دون استثناء أو إغفال... ناهيك عن الإيقاعات الداخلية التي تتناسل من طبيعة التوازيات الرنّانة والتكرارات الوظيفية والجناسات العميقة والطباقات الفاضحة، وغيرها مما يضفي على كل المتون الشعرية طابع الشاعرية المتقدّمة والراقية والمصوغة في أطباق بيانية أقلّ ما يقال في حقّها أنها متون تُعانق الشعر القوي في تشكيله الممتنع على القبض إلا في حالة تسلّح القارئ بنصيبٍ من المباضع النقدية القادرة على فك شفرات المقول الشعري الـ (فلاحي) وهي الشفرات التي تتلبّسُ بلبوس السهل الممتنع.
***
نورالدين حنيف أبوشامة
البيضاء في 20 أبريل 2024