قراءات نقدية
علاء البغداديّ: (النّاجي).. "سبايكر" مونودراميّاً.. إبداعٌ ميسانيّ بطعم العراق
إذا تجاوزنا الجذور الإغريقيّة لــ(المونودراما)، وما قدّمه "ثيسبيس"، يكون الألمانيّ "جوهان كريستيان براندز" هو أوّل من دَشّن العمل المونودراميّ مع التّباين في تقييم ما قدّم، حيث أنّه أعاد بعض الحياة لــ"ثيسبيس"، إلّا أنّ الشّاعر الإنكليزي "ألفريد تينيسون"، كان له قدم السّبق في إطلاق اسم (المونودراما) على نصوصه، بالتّزامن مع أعمال المُفكّر الفرنسيّ "جان جاك روسو"، وكان لنصّه (بجماليون) أثراً لافتاً. بعدها توالت الأعمال المونودراميّة وأخذت بالتّطوّر والتّقنين، لاسيّما على يد الإيرلنديّ "صموئيل بيكيت"، الذي حرص على هذا اللّون من المسرح، وتقديمه بوصفه الأقرب إلى التّعبير والمشاكسة لكلّ إشكالات الحياة والمجتمع.
وعربيّاً، يُمكننا القول: إنّ "إبن المغازليّ"، هو أوّل من جَسّد الحكايات بشكلها (المونودراميّ)، وقد ذكره المؤرّخ الكبير "أبي الحسن بن عليّ المسعوديّ" في كتابه الشّهير (مروج الذّهب ومعادن الجوهر)، ووصفه بأنّه (كان حَكّاءً في غاية الحذق، يضحك الثّكلى)، وكان "المغازليّ" يقصّ الحكايات في الطُّرقات وبين النّاس.
وعلى المستوى الأكاديميّ، كانت الرّيادة العربيّة لفنّ (المونودراما) عراقيّة وبإمتياز، وعلى يد المسرحيّ الكبير "يوسف العانيّ"، من خلال عمله الموسوم (مجنون يتحدّى العالم)، والذي كَتَبَه عام 1949 وقام بتأدية دوره عام 1950.
وعلى الرّغم من الموقف السّلبيّ للكثيرين ضدّ (المونودراما)، وبالأخصّ الإنكليزيّ "بيتر بروك"، الذي يعتبر أنّ (المونودراما تفقد المسرح الكثير من ألقه ووهجه الخاصّ، لأنّها تعتمد المُمثّل الواحد الذي ينبني عليه العرض بأكمله، فلا تفاعل بين مُمثّل أوّل ومُمثّل ثان ضمن ثنائيّة الأخذ والرّدّ، التي تؤسّس لفعلٍ دراميّ حقّيقيّ على الخشبة)، إلّا أنّها في السّنوات الأخيرة، أخذت بالاتّساع والاستحواذ على اهتمام المشتغلين بالشّأن المسرحيّ.
"سبايكر" مونودراميّاً!
(النّاجي)، هو عنوان العمل المسرحيّ المونودراميّ، الذي تحدّث عن الفاجعة الإنسانيّة الكُبرى، التي تمّ ارتكابها في قاعدة "سبايكر"، وهو من إبداعات أبطال (الرّصيف المعرفيّ) في محافظة ميسان، وقد تمّ عرضه في أكثر من محافظةٍ ومنها العاصمة بغداد.
كَتَبَ النّصّ لهذا العمل الرّائع، الكاتب الشّاب رعد الغرّاويّ، والذي أبدع سابقاً في كتابة أكثر من نصٍّ مسرحيّ، وفي كتابته لــ(النّاجي)، لم يتجاوز الخصائص الاشتراطيّة الرّئيسة للنّصّ المونودراميّ، حيث البُعد المأساويّ/ الملحميّ للموضوعة المطروحة والمُتجسّدة في شخصٍ عاش التّجربة المريرة للحدث، لينفتح من خلال ذلك إلى أبعد مديات الاستفهام، وهو يسأل عن القضايا الإشكاليّة الكبيرة:
(يشعر في التّعب:
هذا شعور عزرائيل في مجزرة سبايكر
منقولٌ من صفحته الشّخصيّة على موقع "الفيس بوك").
وكذلك، أبدع الغرّوايّ في تأكيده على زمكانيّة المأساة وتعدّد مستوياتها وتداخلاتها، لمحاكاة الواقع، تارةً من خلال محاكمته للمآلات التي انتهى إليها، وتارةً أخرى من خلال طرح أسئلة الجدوى التي ما زالت تبحث عن مرافئ الإجابة.
كما أنّ اللّغة في (النّاجي)، مستوفية لاشتراطات عمل (المونودراما)، فهي جاءت سرديّة وسلسة وأقرب إلى المقطوعة النّثريّة وأبعد ما تكون عن التّرهُّل والاستعارات غير المُناسبة، بل اشتغلت على الحدث في صيغته الماضية بتداعٍ جميلٍ للأفكار، كما أنّ النّصّ ضاجّ بالدّلالات، بدءاً من عنوانه الذي ينفتح على احتمالات النّجاة التي أرادها الكاتب:
(أيّها الموت.. أيّها القُبطان القديم:
أما آن الأوان، أن ترفع المرساة ونبحر إلى اللامكان؟!
لا الموت ينتهي، ولا العراق).
(النّاجي) عليّ الغاليّ:
جَسّد شخصيّة (النّاجي)، الحقوقيّ والإعلاميّ والمُمثّل "عليّ الغالي"، الذي أبدع في تأدية الدّور، وكان بارعاً في توظيف طاقاته الجسديّة التي تتشكّل منها دلالات التّعبير عن فكرة وجماليّة النّصّ.
كما أبدع (النّاجي) عليّ الغالي في نقل المتن المأساويّ لفاجعة "سبايكر"، بطريقةٍ أكثر من رائعة، معتمداً على قابليّاته التّمثيليّة والتّماهي المُطلق مع النّصّ وفكرته، لذا كانت آليّات التّعبير والإيصال عنده في أعلى مستوياتها. بالإضافة إلى إيمانه بأهمّيّة ومحوريّة الفكرة التي تناولها النّصّ، كونها تتعلّق بواحدةٍ من أبشع الجرائم الإنسانيّة في العصر الحديث.
تمكَّن (النّاجي) "عليّ الغالي" مونودراميّاً، أن يحمل كُلّ السّياقات الدّلاليّة التي اكتنزها النّصّ ويوصل رسالته من خلال قدراته العالية في الأداء.
العَرّاب عبد القدّوس قاسم
(النّاجي) من إخراج الفنّان الرّائع القريب حدّ النّبض الشّهيد "عبد القدّوس قاسم"، الذي أخرج العديد من الأفلام السّينمائيّة القصيرة والأعمال المسرحيّة الجميلة، التي شاركت في مهرجاناتٍ عراقيّة وعربيّة، وحصلت على جوائزها المُتقدّمة.
يمتلك عبد القدّوس قاسم، قدراته الخاصّة والواعية للإخراج، وهذا ما مكّنه من خوض غمار تجربة (المونودراما)، حيث أبدع في التّعاطي مع طبيعة النّصّ المونودراميّ المختلف، وتوجيه المُمثّل حسب إيقاعاته، بالإضافة إلى امتلاكه الأدوات النّاجحة لترجمة الرّؤية الإخراجيّة، بما يُحقّق الدّهشة والجمال لدى المتلقّي.
(النّاجي): عمل مسرحيّ/ مونودراميّ، يضجُّ بالرّوعة والجمال والإبداع والإنسانيّة والوَجَع، مع التّأكيد على قِلّة الإمكانات المادّيّة لتنجيزه، ولو قُدّر له ما يُقدّر للأعمال الهزيلة والهابطة التي تُقدّمها المؤسّسات الرّسميّة، لكان له شأن آخر.
آخر ما قاله (النّاجي) عن رفاقه المغدورين في "سبايكر":
(لقد تركتهم جثثاً طافية على النّهر، ويسوق تلك الجثث، صوت لأمٍّ جنوبيّةٍ مفجوعة، وهي تُردّد وتقول: يمّه إذكريني، من تُمرّ زفّة شباب).
***
علاء البغدادي
كاتبٌ وباحثٌ من العراق
...................................
اشارات:
1- عبد القدّوس قاسم: فَنّان مسرحيّ وناشط، وأحد أبرز قادة الحِراك الجماهيريّ في محافظة ميسان، تَمّ اغتياله مع أحد أصدقائه.
2- ما كَتَبتَه ليست رؤية نقديّة إطلاقاً، فلست من المختصّين بالشأن المسرحيّ، لكنّي دوّنت انطباعي عن العمل كمتلقٍ ومتذوّقٍ للجمال والألم.