قراءات نقدية
طالب عمران: السارد حكاء" في رواية البدلة البيضاء للسيد الرئيس للروائي علي لفة سعيد
تختلف أساليب السرد من روائي الى آخر ومن روايةٍ الى أخرى وقد يكون في الرواية الواحدة أكثر من أسلوب. وأنا أقرأ رواية (البدلة البيضاء للسيد الرئيس) للروائي علي لفتة سعيد في طبعتها الاولى الصادرة عن در الفؤاد للنشر والتوزيع، مصر، 2021، أرى هذا التنوّع السردي في هذه الرواية، حبكتها السردية التي تنبني على الشكل الذي جسدته الرواية، بدءًا من عنونتها التبئيرية، وكما معروف أنه لا يستقيم أيّ عملٍ سردي إلّا ببؤرته المركزية كونها تعد المحور الرئيسي وهي النقطة التي تلتقي فيها مكوّنات السرد.. وما أن تضع القدم الأولى لعتبة العنوان تلك العتبة النصية، حتى يلوّح لنا البياض والتساؤل واستدراج المتلقّي في محاولةٍ ملء الفراغ لجملةٍ لا يحسن السكوت عليها، يعقبها بعتبة الإهداء.. والتي جاءت: (حيث لا مجال لأحد). حينها يتّسع البياض لما فيه من إضمار وحذف حتى يستدرجنا الى روايته، حيث شاء الروائي أن يقسّم الرواية الى قسمين جاءت في القسم الأول ( ما قبل الرواية) بطريقة تلتحم فيها أجزاء النص السردي بدءًا من كشف الشخصية المركزية (مدلول) فقد خصّص الروائي الحيّز الكبير في نصّه السردي له.
شرع الروائي في ما (قبل الرواية) يروي لنا بلسان الراوي العليم العارف بشخوصه الناظر إليهم بتقنية السرد (النظر من الخارج والداخل)، معتمدًا على تقنية المشهد والأسلوب الدرامي التراجيدي في سبيل بناء الأحداث الروائية، وهو يقف عند حدود الشخصية ويرصد أبعادها النفسية والاجتماعية واستجلاء مكامنها وأوجاع وآلام وضعف شخصية المحورية (مدلول) من خلال الواقع الاجتماعي والبيت الذي يعيش فيه تحت سطوة زوج أبيه، والذي تحول بعد ذلك إلى نوعٍ من الحنان لمآرب في نفسها، حيث كانت تصطحبه معها أثناء تجوالها في الأسواق وكيف كان أصحاب المحال يتغزّلون بها، حيث أنه رأى صاحب المجرشة كيف يتغزّل بها ( اليوم طالعة جميلة وحلوة تخبْلين.. دافنة كل هذا الجمال مع واحد ما يقدّر الجمال.. يعرف بس النفط الأسود.. ولا يتحدّث مع الناس) ص48..
تتّضح معالم شخصية المحورية (مدلول) شيئاً فشيئاً.. اليتم والفقر والحرمان والمأساة التي ترافقه منذ وفاة أمّه وزواج أبيه من شكرية التي كانت تفرض سيطرتها على العائلة ولا يستطيع الأب فعل أيّ شيء، وكان دائماً يوصي ولده مدلول (وليدي.. من تصادفك ريحْ قويّة انْحِني لها لأن انتَ بلا ظهر.. من تْشوف روحك ضعيفة إسْكت) ص23..
وظّف الروائي أسلوب التشظّي في السرد و أدوات تعبيرية مغايرة عما هو مألوف، ليكسر رتابة السرد ليضمّن موضوعات لها أثرها الاجتماعي والسياسي.
أنهى لنا الكاتب القسم الأوّل من الرواية بوفاة أبو (مدلول) ودخول شخصية غريبة لا يعرفها القارئ، أخذت بيد مدلول، وكان تمويّهًا رائعًا في إخفاء الشخصية التي استقبلها مدلول عند مراسيم الفاتحة وتفاجأ الناس بحضوره إلى شخص صغير يتيم الأب والأم.
فالقارئ يجد نفسه متابعًا بشغفٍ ومترقبًا ماذا يكون عليه (مدلول)، يتوقّف السرد، ويقطع سياقه السردي ليبدأ سياقًا آخر الى منتصف متنه الحكائي على 72 صفحة من أصل 156 صفحة هي كلّ صفحات الرواية.
ومن ثمة يبتدئ بالقسم الثاني من الرواية، (ما بعد الرواية) والذي يفوض فيها الكاتب هذه العملية/ السرد الى سارد يتّخذ موقعًا بتقنية السارد المشارك (مدلول) يقود اللعبة السردية الى نهاية الرواية، وهو راو سيرته الذاتية، يكمل حيث انقطع الراوي لنا حكايته بتقنية الاسترجاع الطفولة وما بعد الطفولة المرّة واليتم الذي قدمه لنا الراوي العليم في قسم ما قبل الرواية، جاعلًا مسافةً بينه وبين الشخصية المحورية.. قوله:
" هو ما عليّ أن أحكيه وأحدثكم وأرويه لكم الآن.. أتقلب بين الذاكرة والزمن وأنوب عن الحكي بالكلمات " 75
(حكي/ حديث / روي) لكلّ مفردة ربما هو قاصدها، مستجمعا، وصائغا مادته الحكائية بتحويلها الى خطاب حكائي وكأن السارد عارفاً وخبيراً بالسرد الروائي متمكّنًا من صناعة الكلام.
يستدرجنا السارد الى لعبته السردية استدراج الراو الخبير المشوّق للحكاية، سرد يستخدم تقنية الراوي بضمير المتكلّم (أنا)، ليتمكّن من ممارسة لعبةً فنيةً تخوّله المناورة والحضور غير خاضع لسلطة الكاتب بشكلٍ يولّد وهم الاقناع.
"في المدينة أنا الآن، لا أريد أن أبدو على تلك الصورة قبل 22عاماً حاملاً جذوري معي أو أعود لكي أحملها من جديد" ص119
وما نلمسه يحاول المؤلف (الحكّاء) إظهار قدرته الحكائية وتفاعله ليشد المتلقي..
"أعلم أنكم تريدون معرفة التفاصيل التي لن أقولها دفعة واحدةً أو أكشف لكم أسرارها، فليس من طبعنا كشف ما لا يكشف وقول ما يقال وان قلنا زدنا عليه ونفخنا وبالغنا. نعم قولوا انه تبرير، وضع حجج، ارتباك، او عدم القدرة على الحكي..
لكن الحقيقة هي ان الكثير من التفاصيل لا يمكن البوح بها.. وسأروي لكم ما أتذكره وما أريد فقط أن أحكيه، وأترك لكم ما تبقّى من الحكاية بين الرأسين لتكون منطقة وسطى للتفسير والتأويل والتي أحاول في موضوعة الزمن ألّا أكون مطابقاً للحقيقة كي لا ألتزم بتراتبيات الحكاية"ص75
يصوّر لنا السارد مشاهده وكأنه سردٌ مسرحي يعطي انطباعاً، بأن ثمة جمهورًا يسمع قوله، محاولًا ايصال صوته الاقناعي وطرح تبريرات لأفعاله للوصول للمركز والسلطة والقيادة.
قوله:" اسمعوا ما أقوله وعليكم ربط التفاصيل التي ترونها مناسبة لكم في معرفة الغايات "
وما نلمسه كأن الرواية قامت على سببٍ ونتيجة فتقدّمت بالأسباب التي أدّت بالشخصية الرئيسة الى تلك النتيجة.
وما بين القبل والبعد جاء ت الرواية (التيمة) متضمّنةً مخرجات الدلالة السيميائية للعنونة التي جعل السارد من تلك الصورة (البدلة البيضاء للسيد الرئيس) رمزًا للتفاؤل والتقدّم بخطىً متسارعة نحو تحقيق احلامه وصعوده من أجل المنصب والسلطة والقوّة تعويضًا وسدًّا للنقص بأي شكلٍ من الأشكالـ وكأنه أتّخذ شعار (الغاية تبرر الوسيلة)
كما كان الأب يوصي مدلول ( خلّي عينك بالصورة.. بحلق بيها كل يوم, إذا رِدِتْ تتْخلّص من الماضي) ص54.. ويوضح الراوي ( وكان البكر على اليمين وصدام على اليسار..) ص54..
العودة للمدينة/ الاسترجاع في الذاكرة
عمد السارد (الحكّاء) بقطع زمن السرد الحاضر، ليستدعي الماضي ويوظّفه في الحاضر السردي.. من خلال آلية الاسترجاع:
" عدت الى المدينة بعد هذه الغربة التي ذكرت زمنها.. المدينة لم تتغير كأنها مصممة على ألّا تتغيّر كي تحفظ للناس ذكرياتهم وأماكن تنقلاتهم وعشقهم ومحبتهم وروحهم.." ص76
يلجأ السارد الى التذكّر، ويكون خاضعًا لسطوة الذاكرة، وبهذا تتجسّد وظيفة الذاكرة في حفظ الماضي وما تراكم من صور وذكريات عاشها تأثر بها وأثرت به..
لقد جسّد الروائي في مسار حكايته (البدلة البيضاء للسيد الرئيس) ذاكرة المجتمع لأحداث حرب العراقية الايرانية وويلاتها وأحداث 1991 والتحوّل الذي طرأ على شخصية الرواية وكشف هذا النوع من الناس الانتهازين المتلوّنين الذين يركبون الموجة في كلّ زمان وهذا ما يتجلّى في البنية النصية على لسان حكائها (مدلول)
(وبعد أن شاهدت الشباب وهم يحرقون جدارية صدام وثمة هلعٍ واحتدام وتدافع حتى أن حقيبتي الصغيرة تمزّق غطاؤها وكادت تسقط من كتفي, صعدت على كتف أحد الشباب من الجيل الجديد, وهتفت: بالروح بالدم نفديك يا عراق) ص155..
ليضع لنا أجمل نهاية.." صعدت عل كتف أحد الشباب من الجيل الجديد، وهتفت: ( بالروح بالدم نفديك يا عراق)" ص155
وظّف الروائي لغة وسطى تواصلية، لغة بيضاء بسيطة بعيدة كلّ البعد عن الافراط البلاغي وبعض التراكيب والألفاظ العامية، ليس عجزًا وانما كضرورةٍ فنيةٍ بغية الوصول الى التأثير والتعبير لحيويتها ووقعها في النفس.
***
طالب عمران المعموري