قراءات نقدية
جمال جودة: قراءة في رواية "الفطحل" للدكتور زهير ياسين شليبة
تشخيص أدبي لأزمة نفسية عانت منها عدة أجيال بسبب خلل في النهضة العربية الحديثة.
تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية الفطحل وادعاءاته ومغامراته وفضائحه في الوطن وفي المهجر. وهي شخصية بلهاء وصولية تعيش في عالم من الأوهام حول عبقريتها المزعومة، ولهذا أصبحت بؤرة النميمة لدى عراقيي الخارج. للفطحل هذا أسماء مستعارة كثيرة تختلف حسب مزاجه وتقلباته وأفضلها كان عوني الملاخ! يترك الفطحل المدرسة ليتفرغ لشعره، يهاجر مع زوجته العراقية الى بلغاريا ليطلقها ويتزوج من بلغارية، فيسارع الى ترجمة بعض القصائد البلغارية دون اي علم بلغتها الأصلية أو تاريخ أدبها، ثم يطلق زوجته الثانية مهاجرا هذه المرة الى شمال أوروبا ليبدأ سلسلة جديدة من الادعاءات والفتوحات الخيالية، وعند بداية الغزو الأمريكي للعراق يحاول الفطحل أن يقحم نفسه في الحرب بصفته "معارض عراقي وكاتب من المنفى، ممثل البرلمان العراقي في الشمال الأوروبي"، وينتهي به الأمر في مصير مجهول، إذ تكثر الإشاعات حوله فمنهم من يقول إنه أُغتُصبَ وأهين، ومنهم من ادعى أن صديقته البولندية أنقذته وأنه الآن يعيش في بولندا، الخ. مصير الفطحل مجهول. ولعله من الطريف والمفيد أن الأديب العراقي المعروف عدنان المبارك نشر قصة بعنوان تقلبات الفطحل، هي عبارة عن تشخيص لما آلت له حياة هذا المدّعي الصغير حيث يعمل خادما في إحدى قرى البصرة ويتعرض لمختلف أنواع الإساءة! أنظر موقع القصة العراقية.
والفطحل هذا ينشد الاستحسان والشفقة من الآخرين، فيدعي مثلا أن أهله هلكوا جميعا في العراق الدكتاتوري، بما في ذلك أمه التي كانت حية ترزق، فاصطنع قصة من المعاناة والأسى التي قد تناسب صورة الشاعر المرهف الإحساس الذي عانى الأمرّين والذي يتكلم عن معاناة عميقة، والطامة الكبرى أنه يصدق كذبته. ورغم هذا كله شعرت أكثر من مرة بالأسف تجاه هذا المسكين الأبله "على قد نيته"، كلما سمح لي الراوي بالدخول الى مجالس النميمة، حيث يجتمع عراقيو المهجر وبعض العرب ممن يعيشون على برامج المساعدة الأوروبية، لا ينفكون عن السخرية منه ونهش لحمه حيا، فموضوع "الفطحل" مٌسكِّن للآلام يشفي غليل فشلهم وألم غربتهم، والأنكى من هذا كله أن لهؤلاء آراءَهم النقدية والفنية الخاصة بهم! إن ردود فعلهم على سفاهة الفطحل هي الجزء الأكبر من المشكلة! بل يمكن القول إن الناس من حوله هم من يزيدون شأنه، ولا يقلون عنه جهلاً.
من عادتي أن أفكّر في التأثير الكلي نفسيا وفكريا لأي كتاب بعد قراءته مرة أو مرتين، وهذا التفكير بحد ذاته جهد أو عمل نقدي له شرعيته ولا يحتاج لأي تبرير، و"الفطحل" كتاب يستحق التفكير لتأثيره الغريب علي، فكما سبق بيانه اختلطت المشاعر بين الاستهزاء والسخرية من جهة، والشفقة والألم من ناحية أخرى، وبين الإفراط بالضحك والتهكم من شخصية هي في الحقيقة مسكينة لا تضر ولا تنفع، عدا عن أن عنصر التشويق لم يختفِ ولو لحظة!
هناك الكثير من الجوانب المهمة في الكتاب التي استحوذت على انتباهي كدور الأحلام مثلا والتي لا تقتصر أهميتها على الأسلوب السردي من ناحية تقنية، بل يتعداها الى الجانب الرمزي أيضا، إضافة الى علاقة الراوي بالفطحل والشكل الأدبي، هي كذلك جوانب مثيرة للإهتمام في هذه الرواية التي يصر كاتبها أن يصنفها كمحاكاة. ولا يمكنني أن أعطي كل هذه الجوانب حقها في هذا المقال، ولهذا سأركز أولا هنا على المسألة الأكثر إلحاحا بالنسبة لي شخصيا وهي الشكل الأدبي في المقام الأول ومن ثمة شخصية الفطحل نفسه.
- العام والخاص:
هناك في رأيي ازدواجية مهمة في شخصية الفطحل التي نجح الكاتب في بنائها، وتلك هي ثنائية العام والخاص. لقد نجح المؤلف في بناء شخصية مركبة، أو بعبارة أخرى، "عامة" يعرفها الكثير من الناس في المهجر والوطن. أي أن الفطحل هذا يوحي بنزعة يعرفها الكثير من القراء في العالم العربي، فهو يشير ويذكر القارئ بتلك النزعة، فشعوره بأن الفطحل نوعية أو صنف من الناس قد مرً عليه سابقا يزيد من حيويته على الرغم من فرديته. فكم تذكرت فلاناً وعلاناً من أيام الدراسة في المدرسة الابتدائية والثانوية، وكم تذكرت أشخاصا قابلتهم في الجامعة والمهجر بين العرب، حيث يزدحم الفطاحلة من كل مذهب ومشرب، من الفطحل "الإسلامي" الذي لا يتوقف عند تكفير داروين ونظريته دون أن يقرأ سطرا واحدا في الكتاب المشؤوم بنفسه فيعمل فكره فيه، إلى "الماركسي" الذي يتحدث عن ماركس وإنجلز صباحا مساء دون أن يقرأ أي كتاب لهما، وإلى الفطحل الأدبي الذي لم يكتشفه أحد، إلى الناقد "العبقري" الذي يشتم امرأ القيس "المنحط" دون أن يقرأ معلقته وهلم جرا!
يمكن القول إن الفطحل في هذه الرواية تشخيص أدبي لحالة أو أزمة نفسية وعقلية أصابت أكثر من جيل في العالم العربي، تعود بدايتها إلى خلل أساسي في النهضة العربية الحديثة.
أرفض اختزال النص الأدبي في نية الكاتب، حيث يبرز المعنى من تفاعل القارئ مع النص، ولهذا تختلف القراءات والمعاني. بكلمات أخرى، لا يهمنا هنا فيما إذا كان الفطحل شخصا "حقيقيا" مستمدا من حياة الكاتب أو العكس. المهم هنا هو الإزدواجية بين فردية الفطحل كشخصية أدبية عراقية محددة من جهة، وعموميته من حيث هو ظاهرة إجتماعية بامتياز. وهنا تكمن في رأيي فاعلية هذه الشخصية الأدبية، فهي في المقام الأول محددة وفريدة، وليست شخصا "حقيقيا" بدَّل الكاتب اسمه ب"غوني الملاخ". لكنه أحد أعراض "المرض العربي" المزمن إن صح التعبير، وهو ما سأوضحه لاحقا. أظن إن أغلب القراء العرب سيشعرون أنهم قابلوا أو مروا على هذه "النوعية" في حياتهم أكثر من مرة. وهنا تكمن الإزدواجية أو أوجه الشبه بين الشخصية "العراقية" ذات الأسم والهوية المحددتين من جهة والتشخيصية العامة التي تطال وتصور أكثر من شخص أو "نوعية" في أغلب أنحاء العالم العربي. أشعر أن هذا التشخيص العام هو السبب الرئيس خلف ضحكي المستمر، إذ عرفت هذه "النوعية" وتفاعلت كقارىء معها أو الحالة المرضية ومع كيفية تعامل الآخرين معها.
- " عروبة " الفطحل
وتُعد الظاهرة الفطحلية أو الفطحليزم كما يحلو للكاتب ان يسميها ساخراً مرضا مزمنا في البلاد العربية. إنها ظاهرة عربية بإمتياز حيث لدينا العديد من المدّعين ممن يريدون أن يكونوا مفكرين وفلاسفة وقادة سياسيين عباقرة باي ثمن. وأود أن أشدد هنا على "عروبة" الفطحل حتى النخاع! يشدد ويؤكد بعض النقاد على "عراقية" النص من حيث اللغة وشخصية الفطحل ذاته، وصحيح أن لغة النص عراقية أحيانا وأن عددا من الأمثال الشعبية أو التشبيهات استعصت علي كقارىء فلسطيني، لكن لابد في رأيي المتواضع من التأكيد على عروبة الفطحل التي أثرت في قرائتي للكتاب رغم عدم "عراقيتي". إن تفاعلي الحي مع النص ومع شخصيته الرئيسة وفهمي لمعضلات الإنسان العراقي فيه رغم الفارق بيني وبينه دليلٌ يؤكد انتشار هذه الظاهرة.
غوني الملاخ "الطايح الحظ"، "ذو العين الكريمة" مصاب بمرض "الفطحلة" هذا في الميدانين السياسي والأدبي، همه الأول والأخير النجومية والشهرة باي ثمن كان، فهو إذ لم يتمكن من تحقيق هذا كله كأديب فذ، إنقلب الى السياسة منتهزا فرصة الإجتياح الأمريكي للعراق. ولا أعرف بالتحديد أسباب انتشار هذه الظاهرة في العالم العربي، لكن يبدو لي من حيث المبدأ أنها نتيجة تشابه الظروف فيه.
يبدو لي أن جذور "الفطحلة" أو الوصولية السياسية تعود الى الإختراق الغربي للعالم العربي خصوصا عقب انهيار الإتحاد السوفيتي التي تمثلت بسلسلة أحداث متشابهة مثل الإجتياح الأمريكي للعراق، اتفاقية أوسلو وسياسة الإنفتاح في مصر، فكثرت المشاريع الديموقراطية السطحية التي تمولها الدول المانحة، وتفجر عدد "الخبراء" الذين صاروا يجيدون اللغة السياسية "المربحة" التي أضحت تجارة.
- الشكل الأدبي
هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي تتناول شخصية تبدو فردية بمعنى أنها لا تشكل ظاهرة عامة لكنها بعد إمعان النظر فيها تبدو "عامة" أيضا مثل "الأبله" و"المقامر" لدوستويفسكي و"دون كيشوتي" لسيرفانتيس الخ. لاحظ هنا استعمال الصفات بدلا من الأسماء المحددة الفردية أو أسماء العلم في العناوين أعلاه كما هو الحال في "الفطحل"، ويبدو أن اختيار المؤلف لمفهوم "المحاكاة parody" كتصنيف أدبي لكتابه مصدره مثل هذا الإعتبار.
لآ أرى من حيث المبدأ أي تعارض بين الرواية كصنف أدبي والمحاكاة عموما، سواء أكانت ساخرة أو جدية، لسببين رئيسين. يجدر بنا هنا أن نتذكر، أولا وقبل كل شيء، أن المحاكاة الساخرة ليست شكلا أو صنفا أدبيا بحد ذاتها. لابد هنا أولا أن نوضح المفاهيم كما أستعملها هنا. يمكن ترجمة كلمة "محاكاة" بالمعنى الإصطلاحي الأدبي الى "mimesis" أو "parody" بالإنجليزية، وهي كلمات من أصل إغريقي. المعنى الأول هو مفهوم عام فلسفي وأدبي يدور حول أهمية "التقليد" أو "المحاكاة" في عملية التربية والنضوج في المجتمع وفي الفنون والأدب. ليس هذا المفهوم المقصود في موضوعنا الحالي، بل هو المعنى الثاني، أي "parody"، وهي أسلوب أدبي وفني ذو معنى محدود على العكس من الأول، حيث يقلد الكاتب، الشاعر أو الفنان عملا معينا إما بغرض نقده، أو نقض الذوق الأدبي في العصر الذي ينتمي اليه العمل المعني.
أما السبب الثاني لرأيي أعلاه في انعدام التعارض بين الرواية والمحاكاة، فهو أن الرواية كشكل أدبي وبالمعنى الحديث كلها مبني أصلا وتاريخيا على المحاكاة، وبالذات المحاكاة الساخرة. يحاكي سيرفانتيس مثلا في رائعته "دون كيشوته" التي نشرت لأول مرة في العام 1605 تراثا أدبيا طويلا طغى على أوروبا في العصور الوسطى يدعى بالأدب الفروسي "chivalric romance" والتي تناولت بطولات أسطورية لفرسان كثر خصوصا "مغامرات أماديس الغاليْ" إضافة الى "إنجازات إيسبلانديان" وغيرهما من الأبطال الحقيقيين والوهميين على السواء، فإما كانوا جزءا من الحملات الصليبية أو فرسانا تصدوا أو قاوموا جيوش المسلمين في إسبانيا. فكان الأدب الفروسي الديني هذا طاغيا تسلطت على كل محاولة إبداعية تجديدية، وانكسرت شوكتها بصدور "دون كيشوته"، ومع أن الراوي يسخر بطريقة لاذعة مؤلمة من بطله، إلا أن القارئ قد يبكي على موت دون كيشوته في نهاية الكتاب. لكن وعلى الرغم من هذا كله فلا تعتبر جمهرة النقاد هذا العمل محاكاة، بل على العكس من هذا تماما، إذ ترى الأغلبية أن "دون كيشوته" أول رواية في العالم بالمعنى الحديث للكلمة.
لا أرى للأسباب أعلاه خاصية تميز المحاكاة عن الرواية. إن ما يميز رواية "الفطحل" هو كونها مبنية على أجزاء متقطعة إن صح التعبير، فالسرد فيها يبدو لأول وهلة وكأنه مكون من شظايا fragments، أي تبدو لأول وهلة وكأنها تفتقد إلى حبكة وبنية سردية narrativeبالمعنى التقليدي للكلمة، من حيث إن تسلسل الأحداث لا يتبع في هذه الرواية "ثم كذا ثم كذا"، من بداية واضحة لحبكة محددة تُتَوَّج في ذروة تنحل عقدتها في النهاية، لكن هناك عوامل جامعة من حيث الشكل، فإضافة الى وحدة الموضوع ووحدة الشخصية المتمثلة في الفطحل، وهي بديهية في رأيي، إلا أن هناك عوامل شكلية أهم، ف"الفطحل" عمل نثري ذو امتداد زمني واضح منذ العام 1990 إلى 2006 تحديدا. هناك أيضا صوت الراوي، وهو العمل الأساسي في وحدة السرد والشكل.
يتابعنا صوت الراوي في رواية "الفطحل" من البداية الى النهاية، وقد يتناسى القارئ هنا دوره بسبب شخصية الفطحل. لكن لابد في رأيي من مناقشة دور هذا الراوي المشاكس الذي يعرف تماما أن القارئ تحت رحمته! ليس سهلا أن نحدد علاقة هذا الراوي بالأشخاص الأخرين في الرواية لاسيما الفطحل ذاته، لكن أظن أن الراوي هنا كان زميله منذ أيام الدراسة وأنه رافقه في الغربة حتى اختفائه.
وراوي "الفطحل" هنا بالمناسة مشاكس محترف، لأنه يحجب عن القارئ مصير البطل الفطحل، فهو لاريب يعلم بعاقبته ويتلذذ في تخمينات الجهلة من أصحاب النميمة. كيف لا يعرف بمصير الفطحل وهو يعلم سريرة كل أشخاصه بل حتى أحلام الفطحل وكوابيسه في الليل؟ هذا الراوي الذي ينصح الفطحل بالزواج والعمل، متعاطفاً معه رغم علمه بتفاهته، ما علاقته بالفطحل؟ لا شك في أن الراوي يتعاطف مع الفطحل الأبله، على الأرجح شفقةً. ناهيك عن أن الراوي يغير أسلوبه السردي ووجهة النظر بين عدة شخصيات، بما في ذلك الفطحل نفسه. يستهل الراوي سرده بضمير الغائب "هو" في الفصلين الأول والثاني، فيحدثنا هنا عن كل كبيرة وصغيرة من أحلام الفطحل وكوابيسه، ثم ينقلب فجأة في الباب الثالث إلى ضمير المخاطب "أنت" وكأنه يتكلم مباشرة إلى الفطحل والقارء بشكل غير مباشر، ثم يعود الى ضمير الغائب في الفصول اللاحقة.
كذلك تتبدل وجهة النظر، فتارة نرى الأحداث بعيني الراوي، وأخرى بعيون الآخرين، لكن الراوي هو نفسه الراوي لا يتبدل. الراوي هنا لا يكتفي بالمراقبة من بعيد، أو يتظاهر بذلك كي لا يبدو مباشرا وتقليديا ولكي يجمع بين السرد والدراما مطلا برأسه بين فترة واخرى، فيحس القارء بوجوده عدة مرات. يذكرني الراوي هنا بنظيره في رواية العجوز والبحر Moby Dick للكاتب الأمريكي Herman Melville. فالراوي يطل فجأة من المحيط السردي ليعلق على الأحداث مثل الحوت في الرواية، والحوت هنا ليس شخصية فردية بل هي نمطية ورمزية الى حد بعيد.
ولا يمكنني في هذا المقال أن أعطي مسألة الشكل الأدبي في هذه الرواية حقها من النقاش، وأضيف الى هذا الكثير من الجوانب المهمة في الكتاب الجديرة بالانتباه كدور الأحلام وعلاقة الراوي بأشخاصه.
لقد نجح الكاتب في بلورة شخصية مدّعية ووصولية "عربية" بامتياز بعيون نقدية ولغة لاذعة، سنحت لي أن أرى بعض الأفراد والإشكاليات بعيون مختلفة، شخصية عامة وفردية في آن معا، أضحكتني من "شر البلية" لساعات طوال ممتعة ومؤلمة!
***
جمال جودة - ماجستير في الألسنيات من جامعة كوبنهاجن،
استاذ اللغتين الدنماركية والانجليزية في كوبنهاجن