قراءات نقدية
يوسف علوان: البحث عن المسـتحيل في "حضرة العنقاء والخلّ الوفي"
رصدت روايات إسماعيل فهد إسماعيل الكثير من الهموم والأزمات التي مرت بها مجتمعاتنا العربية، ومثل اغلب كتّاب الرواية العرب، حاول ان يتكلم عن هذه الأزمات من خلال تصويرها في رواياته! واستطاع من خلال هذا الرصد، واساليب السرد المتعددة والملائمة، لكل واحدة من هذه الهموم، ان يترك بصمته الواضحة على ساحة القصة والرواية العربية.
وقد أولى هذه الهموم، -التي خلقتها الانظمة الاستبدادية العربية واكتوى بها المواطن لاعوام طوال- أهمية كبيرة، وعلى رأس هذه القضايا قضية الحريات، ومنها حرية المواطنة وحرية الرأي التي عانت منها اغلب الشعوب العربية، وكذلك تحسين مستوى حياتها المعيشية والتعليم واستثمار الخيرات الكثيرة التي تمتلكها هذه البلدان، لبناء حياة كريمة تليق بالانسان، اسوةً بشعوب بلدان العالم الأخرى. ولا نبالغ اذ نقول؛ ان هذه الانظمة، في اكثر الاحيان تكون سببا في استمرار وتفاقم هذه الازمات!
في رواية اسماعيل فهد اسماعيل" في ظل العنقاء والخلّ الوفي "طرحت مشكلة الـ "بدون" في الكويت – البدون في اكثر من دولة خليجية وليست حصرا على الكويت - وقد حرم الكثيرون من هؤلاء المواطنين الذين يسمون (الوافدين) حق المواطنة؛ (الجنسية) والهوية المدنية، مما يفوت عليهم فرص الحصول على متطلبات الحياة الأساسية، التي يتمتع بها الكويتيون، كالحق في الالتحاق بالمدارس الحكومية المجانية، والرعاية الصحية المجانية، وحق العمل بالقطاع الحكومي والملكية العقارية، إضافة لتوثيق عقود الزواج والطلاق، والحق في التنقل بين البلدان بجواز السفر. وهذا التمايز يشمل حتى الذين ولدوا في الكويت، ولم يعرفوا وطناً غيره!
ومن خلال عنوان الرواية" في حضرة العنقاء والخل الوفي "الذي يشير الى استحالة الحصول على هذا الحق (الجنسية الكويتية) الذي رمز له بالعنقاء، معتبرا اياه: من المستحيلات، اذ كان العرب يعدون هذه المستحيلات ثلاثا: "الغول والعنقاء والخلّ الوفي" والعنقاء هو: طَائِرٌ وَهْمِيٌّ لاَ وُجُودَ لَهُ إِلاَّ فِي تَصَوُّرِ الإِنْسَانِ وَخَيَالِهِ. وقد وصفه العرب في حكاياتهم انه طائر عظيم يبعد في طيرانه، ويُضرَب به المثل في طلب المُحال الذي لا يُنال. وكانوا عندما يبالغون في وصف شيء بالمستحيل يقولون أنه (من رابع المستحيلات). ويتكلم (منسي) الذي لقبه زملاؤه في المسرح بـ"ابن ابيه" كناية لعدم حصوله على الجنسية الكويتية برغم ولادته في الكويت، عن سعي والدته منذ سنوات طفولته في الحصول على الجنسية، وامتلاكهم ملفاً في الدوائر المختصة، لطلب هذه الجنسية التي اصبحت بالنسبة له ولوالدته "العنقاء" التي بات الوصول اليها مستحيلا، كذلك رؤية ابنته التي حرم منها، منذ ان رحلت زوجته، قبل ان تلدها، مع اخوها (سعود) الى سوريا لكي تحتفظ بها لوحدها. والزوجة عهود هي المستحيل الثاني (الخل الوفي) الذي يصعب الحصول عليه في هذه الايام فقد انقلبت عليه، بعد احتلال العراق للكويت عام 1990، واختلفت علاقتها به لكونه من الذين لا يحملون الجنسية الكويتية (البدون). وقد اعتبرت كل المقيمين في الكويت مساهمين في احتلال بلدها! لذلك حرمته من رؤية ابنته، رغم ان الكثيرين من المقاومين لجيش الاحتلال هم من فئة البدون، وقد قاتل الكثيرين منهم واستشهدوا، وتعرض البعض الآخر منهم للتعذيب في سجون النظام الصدامي في الكويت قبل تحريرها! وقد اتفقت مع شقيقها (سعود) -المتدين الجشع الذي استولى على جميع املاك العائلة، وتحول الى واحد من اصحاب المشاريع السياحية- لاجبار منسي على تطليقها. وسعود هو السبب في القاء القبض على منسي من قبل اجهزة المحتل، بسبب وشايته لهذه الأجهزة عن منسي، بدعوى اتهامه بالعمل مع المقاومين الكويتيين للاحتلال. وقد أجبرته هذه الأجهزة على التطوع في قوات (الجيش الشعبي) مقابل التغاضي عن هذه التهمة. وبعد التحرير اعاد سعود التلفيق على منسي مرة ثانية بانه من الذين ساعدوا قوات الاحتلال! مع العلم ان الكثيرين من المقاومين الكويتيين شهدوا له بالعمل في صفوف المقاومة. كل ذلك من اجل ان يجبر منسي على الموافقة لتطليق شقيقته عهود! ليتسنى له الاستحواذ على حصتها في الأرث، بالرغم من ان عهود تعرف نوايا شقيقها سعود في اجبارها التنازل عن حصتها من الورث، مثلما فعل لاختها جود؛ "لا يستطيع الكتابة عن الآلام بالشكل المقنع إلا من كان الألم في نفسه"- ص237!
هذه هي موضوعة الرواية التي تناولها الكاتب الكبير اسماعيل فهد اسماعيل الذي عرف من خلال رواياته التي تزيد على 20 عملاً روائياً، كاتباً مبدعاً كانت له الريادة في نزعة التجديد في تقنيات السرد العربي منذ روايته الاولى «كانت السماء زرقاء" التي اعتبرت رواية رائدة بنزعتها التجريبية وابتكاراتها الفنية، وقد اختلفت اساليب كتابته لهذه الروايات كلٌ بما يلائمها، ففي هذه الرواية التي جاءت على شكل رسائل او رسالة لابنته التي لم يرها ابداً، لتوضيح الصورة التي يجوز ان يشوهها البعض عنه، هو الذي لم يعرف وطناً غير الكويت لكن اقرب الناس له ينظرون اليه على انه غريب! "يا زينب، منذ عام 1996م، كنتِ وقتها في خامستكِ، وأنا أجاهدني بالكتابة إليكِ، أشرعُ أسوّدُ عشرات الصفحات ثمّ انقلب عليّ جرّاء يقيني إنّي في غفلة مني أكتب بانفعال غير مبرر، أصرفني عن الكتابة سنة أو أكثر، ريثما يعود توقي للتواصل بكِ" ص9.
بداية الرسالة تنمُ عن تعلق بأمل معدوم، لكن من خلال هذه الرسالة يحاول منسي ان يوضح الأمور لابنته، لتتعرف على شخصية ابيها الحقيقية، التي يتوقع ان يكون قد شوهها البعض؛ خالها سعود الذي لا هم له سوى الاستيلاء على اموال العائلة. وأمها عهود التي هربت بها الى خارج الكويت بعد تحريرها، وحرمته من رؤيتها، بسبب ضيق نظرتها وتعصبها ضد الآخرين؛ غير الكويتيين، ومنهم زوجها منسي! وهذه الرسائل، ليس الغرض منها التوضيح المهم بالنسبة له فقط! ولكن هذه الرسائل هي حياته التي لا يريد ان ينساها: "أدريك يا زينب غير معنية بقراءة تفاصيل لا تمت لكِ او لزمنكِ بصلة بينة، لكنها تفاصيلي تعيد لزمني ذاك دفئاً يحفزني أواصل"(ص14). الرواية كتبت بلغة سلسة وبسيطة، وباسلوب واضح، كأنه كتب الرواية لابنته زينب لذلك جاءت الاحداث متتابعة بصورة واضحة، عكس ما عرف عن هذا الكاتب الذي سمي بالمشاكس في كتاباته، فأغلب رواياته يتطلب قراءتها من القارئ قدرا كبيراً من الجهد، للاستمتاع والتلذذ بها، والاحاطة بجوانب صورها المليئة بزخرف الابهار التي يجيدها الكاتب. وانا مع رأي الاستاذة الكاتبة والشاعرة الكبيرة سعدية مفرّح في المقدمة التي أستُهلتْ بها الرواية والتي تقول فيها: "الرواية صعبة ليس على صعيد الكتابة وحدها بل على صعيد القراءة، وأتوقع من المتلقي أن يجتهد كثيرا في سبيل استخلاص المتع الراسبة بين نهايات الفصول حتماً"(ص 6)، مع ان اسلوب هذه الرواية جاء بسيطاً وهي قريبة للغة رواية السيرة، فالحدث من خلال الرسائل التي يكتبها منسي لابنته جاءت متسلسلة وبسيطة وليس فيها من اساليبه السردية التي وجدناها في رواياته الأُخريات. ومع هذه البساطة التي ذكرناها فلا ننسى ان عنوان الرواية" في حضرة العنقاء والخل الوفي" قد حمل سخرية مؤلمة من الواقع الذي عاشته الشخصية الرئيسة في الرواية (منسي)! واوضحت لنا أحداث الرواية. واكيد ان اختيار هذا العنوان لم يكن اعتباطاً وانما اشارة واضحة اراد بها هذا الكاتب الكبير ان يؤكد ان خيبة منسي في الحصول على الجنسية وفي استرداد ابنته زينب ستستمر وقد اكد استمراريتها في (فصل أخير) للرواية الذي لم يضم سوى سطرين: "ورد في سفر الأحوال، إذا بلغ الكلام منتهاه حان أوان ما يسمى القول الفصل، هذا الفصل لا حول ولا قول له، زينب"(387)، فهذه الرسائل التي كتبها لابنته (زينب) مجرد شكوى هو أعلم بعدم جدواها، لأن الذي يشكو له منسي هو مثل حاله "بدون" لا حول ولا قوة لها!
***
قراءة: يوسف علوان