قراءات نقدية
سونيا عبد اللطيف: قراءة في رواية الكبّاريّة للكاتب مراد الشابي
على اثر حصولي على رواية الكبارية، التي فاح اسمها في الاوساط الثقافية، ونالت شهرة ورواجا وصدى في الاحياء وخاصة الوردية وابن سينا وجبل الجلود، والكبارية بالذات، كيف لا وهي تحمل اسمها وتتحدث عن متساكنيها بجميع اصنافهم وخاصة الكادحين منهم. تشوّقت لقراءتها، والغوص في مكنونها، لا لشيء، الا لتسميتها بالكبارية، واما صاحبها، فلم تكن لي به صلة او صداقة مسبقة، ولكن، حين تعرفت على الكاتب مراد الشابي، تيقنت ان الرواية ستكون في مستوى مميز، ابداعا، واسلوبا، ومضمونا ومجازا، وتأويلا…
مراد الشابي هو ناقد، وكاتب، دكتور في اللغة والاداب والحضارة العربية، أصيل مدينة تستور الموريسكية ذات الطابع الاندلسي الشهيرة بمهرجان المالوف والرّوحانيات وفرق الذّكر والتْصوّف، مدينة الفنّ الاندلسي والتاريخ والحضارة،
صدر لمراد الشابي من قبل مجموعة قصصية سنة 2010 بعنوان الطـيف وهي لا تقلّ تميَزا وابداعا عن روايته الكبارية والتي بقي يشتغل عليها حسب قوله قرابة العشرين سنة، الى جانب الدراسات والمقالات والقراءات النقدية المتنوعة في كل ما يخص الحضارة والادب والثقافة عامة.
مدينة الكبارية، في الاصل هي امتداد لاحياء العاصمة، مباشرة بعد باب الفلة، وسيدي البشير، وباب عليوة، ولاكانيا، وجبل جلود، بين الوردية والمروج، وهذه الاحياء بدورها توسعت فصارت وردية واحد، واثنين، و …، كذلك مروج واحد، واثنين، وثلاثة،… الاخ…،وهذا ليس غريبا عن احوال العواصم والمدن الكبرى، التي تتسع رقعتها بفعل الزحف السكاني، والنزوح، من القرى والارياف والمدن الاخرى، فتضطر العائلات الى التمركز حولها فتنشئ أحياء، بدورها تكبر وتتسع الى ان تأخذ سيادتها ويصبح لها مركز، بل مراكز ادارية، اقتصادية، تربوية، ثقافية، صحية، وما الكبارية الا انموذج، من حيّ بسيط تصبح معتمدية وتتفرع الى كبارية واحد واثنين وثلاثة واربعة، وابن سينا المجاور لها، ايضا واحد واثنين، والمروج المتصل بها، وحيّ النور وغيره…
ما معنى الكبارية واصل الكلمة؟
حسب اطلاعي ّفي قوقل، اصل كلمة الكبارية يعود الى انتشار نبتة الكبار فيها قبل تحولها الى حي سكني، وبسبب النزوح الكثيف في فترة ما بعد الاستقلال والتعاضد، صارت الكبارية بحجم المدينة، اذ تضم 18 مدرسة ابتدائية، 6 مدارس اعدادية، ثلاثة معاهد ثانوية، مركز تكوين مهني للبناء، خصوصا ان في اطرافها يوجد، مقطع للصخر والرمل…
عتبة العنوان
كتب عنوان الرواية بالاسود يتوسط النصف العلوي من غلاف الكتاب، كانها تتصدره بمثابة تاج فوق جبين الصورة المصاحبة لمدينة الكبارية، ووضع التضعيف على حرف الباء للتشديد، الذي رسمت نقطته باللون الاحمر القاني، ولا نعرف ما هي نيْة الكاتب او المصمّم للغلاف من ذلك، هل لدلالة ان هذه البقعة منطقة ساخنة، شبيهة بمنطقة تواجد الالغام، ام علامة انها ارض النضال والكفاح،… او هو يريد تمييز اسم مدينة الكبَارية كمنطقة جغرافية عن فضاء او مكان خصص للهو والسهر وهو ملهى ليلي للرقص والشرب والقمار، شبيه بالخمارة، او الحانة، cabaret، يؤمه الناس ذوي الجاه، وسمار الليالي، واصحاب الاقداح، والمجون والفساد، من قمار، ونساء، ومن رقص واستمتاع وترفيه وترويح عن النفس من أعباء النهار والحياة، العامل المشترك بينهما، هو ان كلاهما منطقة او فضاء ساخن، كلاهما ناشط على الدوام، الحركة فيهما لا تهدا ولا تكل، ولا تنام الليل، كلاهما يتواجد فيه المثقف والجاهل، واصحاب المشاريع، والمفلس، والتائه والباحث عن هوية، واللاجئ، والهارب من مشاكله،… هذا وجه الشبه بين التسميتين هو الحركة الدؤوبة والنشاط الليلي الذي لا يفتر والكبارية هي كباريه ليلا، نهارا
عتبة صورة الغلاف
هي صورة فوتوغرافية ملتقطة من مكان عال، او من قمة لمدينة الكبارية، فترى امتدادها واتساعها، ومبانيها وسطوحها وازقتها وانهجها وحالة الفوضى المعمارية و تلاصق الشقق وضيق الاحياء والانهج، تتوسطها صومعة، واقفة شامخة
عتبة محامل الرواية
انطلق الكاتب مباشرة بنهاية الحكاية، بحيث جعل منها البداية، يقول في ص 5
سامية…
هل كانت تدري وهي تموت تحت التعذيب انهم سوف يقتلونها من اجل كلمات مسالمة؟
…
آه سامية، اتقتلين بسبب ذلك ؟ سامية…
ثم يقول الراوي في ص 6 وهو المخبر الذي كلّف بمراقبة بريد سامية الالكتروني، واخترق حسابها لينقل حركاتها وسكناتها لرؤسائه في العمل،وهو يعترف أنه ما كان يدرك ان نهاية سامية الكاتبة لرواية الكبارية ستكون التعذيب والقتل…
أهدي هذه الصفحات وفاء لروح سامية التي ماتت لانها حملت اسمها داخل الرواية وخارجها …
هكذا اختار الروائي ان تكون بداية قصة الكبارية، نهايتها، موت سامية موت حلم طمحت له، وسعت لتحقيقه، والنهاية كانت نهاية لذلك الحلم او بترا له، بوضع نهاية لأصحابه، غير ان هذا الحلم لم يمت، بل حلق، وعرج من الضفة المقابلة جنوب المتوسط، الى الضفة الاخرى، حيث تربض جنوة، تنتظر حلم الكبارية واهاليها…
الى جانب المخبر الذي تولى سرد الرواية من خلال التقارير، نجد الكاتب مراد الشابي، قد جعل كل من سامية بطلة الرواية ابنة الكبارية، تتقاسم مع يوسف الشريف، سرد الاحداث، التي تتصاعد، وفقا لحركة المخبر، وعملية الجوسسة التي يقوم بها في مواقع كل من سامية، ويوسف الالكترونية، فجعل اول فصل من الرواية بعد التقرير الاول من المخبر يأتي على لسان سامية التي ترسل أجزاء روايتها لصديقها يوسف الشريف المقيم بروما، اذ تعنون روايتها بالكبارية وتستفتح بالفقرة الاتية
ذلك المطر وهو يهطل خارج فصله لم يكن يدرك ان جدولا صغيرا يشق مجراه سيأخذه الى مكان لا يعلمه،
هل كنت تدري وانت تحمل الي كتبك انني سآكتبك؟
وتبدأ روايتها بالجملة الاتية ص 9 التي لفتت انتباهي، لانها تتكرر في اخر فصل مع اخر تقرير من الرواية
على الضفة الاخرى من جنوب المتوسط كانت جنوة تنتظرنني .
وفي اخر صفحة من الرواية 182 تقابلها الجملة، نفسها من البطلة سامية وهي تخاطب حبيبها يوسف بعد ان انكسر خاطرها،
اسدلت الستائر وأضأت نورا خافتا بجانب السرير كان كافيا لأتهجى تفاصيل حب رسمته بأناملي وقبلاتي
أمازال في العمر بقية للحلم؟
نحن نحب بقدر ما نحلم
على الضفة الاخرى هنالك في جنوب المتوسط كانت الكبارية تنتظرنا.
عتبة التقارير
قسم الكاتب روايته الى إحدى عشرة تقريرا، قدمها المخبر بصفته الراوي لهذه الرواية، وبصفته المكلف بمراقبة حساب سامية كاتبة رواية الكبارية، ووضع لهذه التقارير تاريخ دخوله موقعها وارساله التقرير لرؤسائه في العمل، وكانت متتالية، على امتداد احد عشر يوما اولها بتاريخ 01/ 01/ 2011، اخرها 11/ 01/ 2023
ما لفت انتباهي واستغربه لماذا تكرار الرقم 1 في هذه التواريخ، كذلك الرقم 11 في السنة، 2011 نحوصل، 11 تقريرا، 11 يوما، الى غاية يوم 11 من الشهر الاول من سنة 11 بعد الالفين
هل لهذا الرقم دلالة ومعنى لدى المخبر، والكاتب مراد الشابي؟
هل هذا التكرار كان صدفة؟
من المعلوم ان تكرار رقم معين لدى شخص يعني علامة جيدة تدل على النضج والوعي الكبير لما يحيط به ولما يراه في الواقع، وتعني اقتراب الشخص من الذات العليا ومشارفتها على الكون فتخاطبه ويخاطبها، ويتحقق الانسجام والتكامل بينهما، يقول كارل يونغ عالم النفس :
هو القدرة على التوليف بين الماديات والروحانيات ورؤية ما وراء السطح
وهنا تتقاطع الامور مع اكتشاف الذات واقتحامها مدينة الكبارية ومعرفة اسرارها بصورة غلاف الكتاب، اقتحام البيوت من الفوق، من السطوح، فهو من وقفته هنالك في الاعلى، يرى الكبارية واحوالها واسرارها ويكشف دهاليزها، يدخل غرفها وازقتها الضيقة وشارعها الشهير الذي أطلق عليه بشارع المرشي أي السوق حيث الحركة لا تهدأ ولا تنام…
ومدلول تكرار العدد ايضا كونها رسائل خفية من الكون توجه الشخص الى طريقه المرجو، عبارة عن ملاك حارس لصاحبه، وهنا نتقاطع مع جمل المخبر الذي يقدم الرواية اذ يقول على لسان الراوية سامية
"هل كنت تدري وانت تحمل الي كتبك انني سأكتبك يوما "، وكذلك الجدول الصغير المتكون من المطر اذ يشق مجراه ليأت المطر الى مكان لا يعلمه، ولكن الوعي الغظيم بالكون وما يوجد في مكنونه هو الذي يحمل الذات، الى حيث تريد، وحيث اكتمال النضج،
فهل يمكن القول ان الكاتب مراد الشابي بلغ درجة كافية من الوعي، واصبح في مرتبة عليا ما يؤهله على فهم ما حوله ومن حوله من الوجوه، وليرى الكون وما خلف السطح وليصبح الكون موجها له، بوصلته، دليله، بحكم بلوغه ما يكفي من الرشد والعلو واغتراف المعرفة والفهم المعمق لذاته، بالتالي يصبح مدلول تكرار الاعداد ليس صدفة، بقدر ما هو وعيا وحكمة.
ونعود الى الرواية التي قلنا ان ثلاثة رواة اشتركوا في سرد احداثها ووقائعها
أولا: المخبر
هو الذي اخترق البريد الالكتروني للمدونة سامية البركاتي وللمثقف يوسف الشريف المقيم في روما وهو صديق وحبيب سامية، وهو الذي كتب التقارير الاحدى عشرة وارسلها لرؤسائه ذاكرا مدى خطورة تلك التقارير على أمن الدولة واستقرار الوطن او نافيا عنها ذلك
تأتي التقارير على النحو الاتي:
تقرير واحد
يخبر عن اختراق موقع سامية وانه سيقوم بتلخيص محتوى المراسلة مع تحديد مدى خطورتها على امن الدولة واستقراره
تقرير 2
يخبر في مراسلة ان في موقع سامية ما يفيد تواجد تحريض على امن الوطن وانتهاك حرمته من خلال تخاطبها مع جهة اجنبية وترويجها لاخبار عن جهة الكبارية فيها افشاء لسر اخبار الوطن وان المواطن يعيش حالة من التضييق في حريته
تقرير 3
مراسلة تخبر بتاريخ مراسلة من يوسف الشريف الى المراقبة سامية البركاتي
تقرير 4
مراسلة تخبر ان يوسف الشريف على تواصل مع المشبوه لمدونة سامية وانه على إهتمام بتفاصيل الحياة اليومية لمتساكني حي الكبارية وتقصي اخبار بعض الشباب وفي ذلك خطر على امن الوطن واستقراره
تقرير 5
ارسالية تخبر عن اختراق موقع يوسف الشريف المقيم بروما لمراقبة نشاطه وتفحص النصوص الثلاثة التي ارسلها لسامية التي اطلعت عليها سبع مرات(الخروبة، اللقلق، الديك)
تقرير 6
يخبر عن مراسلة الكترونية من سامية الى يوسف وتخبر عن القاء القبض على سامية وعلى مواصلة البحث في مدونتها وما تتضمنه
تقرير 7
يخبر عن مراسلة من يوسف الى سامية، تثبت تواصل سامية مع مجموعة من شبان ذوي التوجه الاشتراكي وهولاء يشكلون خطرا على امن الدولة واستقراره
تقرير 8
يثبت مراسلة ثالثة لسامية البركاتي الى يوسف الشريف
تقرير 9
يثبت تواصل يوسف الشريف في مراسلة ثالثة مع سامية يخبرها بتواصله مع فتاة ايطالية تدعى لارا ويحدثها عن حي الكبارية وشواغل شبانه وفي هذا ما يفيد خطرا على امن الوطن واستقراره
تقرير 10
تخبر عن مراسلة من سامية الى يوسف وليس فيها ما يثبت او يشكل خطرا على امن الدولة
تقرير 11
تخبر عن مراسلة أخيرة من يوسف الى سامية يقيم فيها المراسلات السابقة، كونها لا تشكل خطرا على امن الدولة، ويقر في هذه المراسلة الاخيرة ان ما وقع تبادله من رسائل بين سامية ويوسف في شباك موقعهما ليس الا فصول من رواية تكتبها سامية
خلاصة التقارير
عند قراءتنا لهذه التقارير بصفتنا قراء للرواية، نلاحظ ان خمسة من احدى عشرة تقرير تقول ان المراسلات بين سامية ويوسف تشكل خطرا على امن الدولة واستقرار الوطن
نستنتج اذن ان البوليس عند التحري والبحث في بعض المسائل وخاصة تلك التي تتعلق بأمن الدولة أو ما يفيد تواجد خطر يهدد استقرار الوطن لا يتريث، ولا ينتظر النهاية، بل يستعجل في اصدار الاحكام على الضحايا، وقبل اثبات وتواجد الادلة الكافية، وذلك تخوفا من العاقبة، وفي المثل الشعبي المتداول الخوف من وقوع الشيء يعلم السبق والباب اللي يجيبلك الريح، سدو واستريح، لذلك الحكم يصدر ظالما، ويعاقب الابرياء بسبب تسرع في اصدار الاحكام بحيث لا ينفع بعد ذلك الرجوع الى الوراء، ولا عزاء للنساء، والقانون احيانا يصدره الطّغاة على الابرياء، وكم من بريء وقع تعليقه في حبل المشنقة، وكم مظلوم، جز به فيه السجون، وذلك دأب الاقوياء منذ الاولين، البوليس هو يمثل السلطة الحاكمة وهو الامر والناهي وصوته يعلو ولا يعلا عليه، سواء صائبا او خاطئا
فهل هذا المخبر الذي نجده يروي لنا قصة سامية ويوسف، أحس بظلمه ومشاركته جريمة ذهبت ضحيتها امراة بريئة كانت تكتب رواية، فعجلوا بالحكم والقبض عليها وتعذيبها ما جعلها تنتهي تحت ايادي الطّغاة، ويريد ان يوجد له عامة الناس العذر، كونه مجرد عبد مأمور، قام بواجبه المهني، ولكن من يملكون السلطة يملكون الحقيقة، والمخبر هنا يعترف انه بريء من دمها، تأسف حين علم بموتها وان الامر ليس بيده وخارج عن سيطرته لكي يقع الاشفاق عليه
الراوي الثاني يوسف الشريف
يوسف الشريف الرجل المثقف، الذي قطن بحي الكبارية، شارك اهله الفرح والترح، ودخل بيوتهم وعرف اسرارهم، فنجده من خلال مراسلته لسامية، يسترجع الماضي وذكريات الطفولة وحياة القرية التي نشا فيها وحركة سكانها وعاداتهم وطيبتهم، بساطتهم وسذاجتهم، وتضامنهم وتعاونهم، فيأخذ يوسف دور شهريار فيروي على شهرزاد سامية قصصا عنه وعن ابيه واهله وسكان قريته المتحابين ويذكرها ببداية قصة تعرفه عليها حين زار حي الكبارية وهو طفل مع خاله، وبالمناسبة يروي عليها ثلاثة قصص، كي يضعها في الاطار، لتعيش معه قصته وتنسجم معه من خلال الحكي والوصف، والسرد، وهذه القصص هي مترابطة، منسجمة، لها مدلولاتها، وهي
الخروبة
اللقلق
الديك
ثلاثة قصص، سرح فيها الراوي مع المعاني والمباني، فكان الحكي شيقا، مسترسلا، جميلا، شيئا، يشبه بما جاء في كليلة ودمنة حين يتحدث على لسان الحيوانات فجعل منها شخصيات، كذلك اللقلق نجده في القصة عنصرا فاعلا وقع تجسيده، وتجنيسه بما في السّرد من حكم وأمثال ووقوف على الاطلال ووصف لمحاسن الاخلاق ومكارم القيم، التي يفسدها المجتمع حين يصير الانسان مدنيا، متحضرا، فينسى جذوره وأصوله…
سامية البركاتي
ابنة الكبارية النشيطة، المجتهدة مثال الامراة الكادحة، المناضلة، الفتاة البسيطة، هي الراوي في هذه الرواية الى جانب المخبر ويوسف حبيبها، وهي ايضا تمثل الحلم والامل، والتحدي والصمود، وهي بطلة الرواية في الرواية وفي المراسلات التي تبعثها لصديقها يوسف عن تفاصيل الرواية التي تكتبها عن حي مشترك عاش فيه كل من يوسف ورفاقه وسامية وعائلتها واصدقاء اخيها والجيران، فكانوا عائلة واحدة، يفكرون بصوت عال، عند حل مشاكلهم وهذا انموذج من الحياة بين البسطاء في الاحياء الفقيرة، يحلمون بالخبز، ويعيشون على رائحة الحطب حين خبزه، وسامية هي مثال يقتدى به في التصدي للظلم، في الصمود على الفقر، في العزم على تناول وشرب المعرفة، فهي انموذج المبدع العصامي، الذي يكون نفسه بنفسه، ويحقق من الانتصارات والنجاحات ما لم يحققه اصحاب الشهادات، مثل محمد استاذ الجغرافيا، ذلكوبفضل العزم والحلم اللذان لا يموتان
موضوع المراسلات
هي تفاصيل لفصول رواية تكتبها سامية وترسلها لحبيبها يوسف الذي اصبح يقيم في ايطاليا، ليطلع عليها ويبدي رأيه فيها، خصوصا انه هو الذي كان سببا في ظهور موهبتها وابداعها بتحفيزها وتشجيعها واهدائها الكتب للاطلاع، وتروي فيها تعلق البطلة بيوسف فكانت سامية وكان يوسف في الواقع وأنا في الرواية، فيوسف هو حب، نما في الكبارية منذ نعومة الاظافر ومنذ قطعة شوكولاتة ترسلها له سامية مع خاله، في المقابل يرسل لها يوسف قصة هدية، وهي التي انقطعت عن الدراسة بسبب مشاركة امها في الحصول على لقمة العيش، سامية ابنة الكبارية، الحي الكبير، المليء بالحكايا والاسرار، فلكل واحد فيه قصة، حي يعيش الفقر والبطالة، فيلجأ اغلب شبابه الى الانقطاع عن الدراسة والانصراف اما للبيع في نصبة في نهج المرشي الشهير، او السرقة، او البطالة وشرب الخمر، في حين تتحمل الامهات المسؤولية، فتشتغلن بدل ازواجهن لتوفرن اللقمة لصغارهن بينما اغلب الازواج يهربون الى الحانات المتواجدة هنالك … أليست الكبارية الحي هي الكباريه الملهى الليلي؟
الخلاصة
الرواية استطرادات، مرواحة بين استحضار الماضي والحاضر، بما تتضمنه من انزياحات ومجاز وتأويل ولا تخلو من التناص مع النص القراني والاسطورة والخرافات من خلال السرد وفن الحكي، نجد على سبيل الذكر
1 اقتباس اسم يوسف الشريف وما يتصف به من صفات حميدة، الانسان المثقف، الهادئ، الخلوق، الذي يحبه كل الجيران وتحترمه سكان الكباريه وتودعه اسرارهم، ويطلعونه اخبارهم، ويطلبون احيانا رايه … الا يشبه يوسف التبي في خصاله؟
2 قصة البقرة الصفراء، الشهباء في النص القرآني، في الرواية تعمد الراوي اختيار نفس الصفة والتشبيه للبقرة وجعلها حجة ودليلا قاطعا ان ابنها واصل دراسته في المدينة بفضل ثمن تلك البقرة التي وقع بيعها، ليلتحق بالجامعة وليتْبع طريق الهدي واليقين،
3 حكاية اللقلق، في سرد بديع، مشوّق، تحيلنا على قصة سيدنا يونس وحكايته مع الطير الذي يفهم لغته
4 تناص مع قصة الميداني بن صالح، قصة قرط امي، يبدو ان الكاتب اراد الاشارة ان هموم سكان الريف واحدة، متشابهة، فالام تبيع قرطها وما تملك من مصوغ لأجل ان يكمل ابناؤهم دراستهم لكن، هل هؤلاء الابناء جديرون بتلك التضحيات ؟ وفي الرواية الشاب يشري لجدته قرطا مقابل بيعها للبقرة الصفراء ليحرز حفيدها على رخصة سياقة، وتبيع بقرة ثانية ليتزوج…
باختصار، الام والمراة التونسية، حريصة على طلب العلم واكتساب المعرفة، والتزود بالثقافة،، قبل اي شيء اخر…
5 التناص مع الاساطير والحكايات مثل حكاية الف ليلة وليلة، يوسف في الرواية يحلّ محل شهرزاد في القص، فروى لسامية ثلاثة حكايات على غاية من الامتاع والتشويق والترغيب، حكاية الديك الاسود الذي ذبح من اجل فك التابعة، هنا اشارة للمعتقدات والخرافات والتبارك بالاولياء الصالحين
6 تناص مع قصة « حدث ابي هريرة قال « من خلال الحكي عن شجرة الخروبة، المتواجدة في اطراف الريف، التبارك بها، جعلها مكانا مقدسا واخرى مدنسا، الاعتقاد في ما يحدث انه من سحر الشجرة، تجسيد وتشخيص الشجرة وانسنتها، تُبصر وتسمع وتشاهد، وتنتقم وتحكم و و …
الرواية في مجملها جامعة بين الواقع والتخييل، اعتمدت اسلوبا شيقا في الحكي،جميع أحداثها توهم القارئ انها قصة حقيقية، تعالج اليومي من الحياة الاجتماعية وما يعاني سكان حي الكبارية المجاور للعاصمة من قضايا مختلفة، وهموم وتهميش وتضييق، وتطرح قضايا الانسان الحالي ومعاناته من أجل ان يعيش حياة كريمة، لكنه يجد البطالة تستقبله، والفقر يقصيه، فيلجأ البعض للسرقة، او العمل في الحظائر باجرة ضئيلة، او الهروب الى الزحلة والخمر لنسيان الشقاء، كما تعالج قضية المراة الكادحة، وتحملها عبء الاسرة، اهتزاز صورة الزوج بسبب الاحباط والاكتئاب الذي يصيبه، وعجزه في مواجهة المصير وتوفير الكرامة المطلوبة، تهميش المثقف صاحب الشهادات وتعجيزه في ايجاد عمل لائق به، فيعمل عاملا يوميا يبيع الغلال في الشارع، واذا وفّق في فتح مشروع خاص تقع محاصرته وتشديد الرقابة عليه، وايجاد تهم ضده لايداعه السجن كي لا يمارس حريته ولا يعيش في كرامة، ظاهرة الهجرة الممنوعة، والحرق، الزواج بالاجنبيات تفوق سن من اقدم على الهجرة لاجل الحصول على الاوراق والاقامة في بلاد المهجر، اللجوء الى العمل في التهريب والممنوعات والمخدرات من اجل البقاء، التعرض للعنف، والجرائم بسبب التشرد، والفساد والارهاب،
الكبارية هي انموذج القرية المهمشة، بكل تفاصيلها الصغيرة والدقيقة هي العالم مصغْر، مختزل في اسم الكبارية، الذي يجمع بين الخير والشر، القبح والجمال، الجهل والتعلم، يتواجد فيها العصامي وصاحب الشهادة، والمثقف، والمبدع، هنالك لعبة السواد والبياض، الموت والحلم…
الخاتمة
كاتب الرواية، الناقد مراد الشابي، لم يكتب سيرة حيّ، ولا قصة متساكنيه، بل كتب تأملات، واشراقات أدبية، ابداعية، تحثّ القارىء على التأمل، ترسم له قبس نور في الاقاصي كي يتبع ذلك الخيط النوراني حيث الحلم ينتظره وحيث الامل لا يموت، فقط على المرء التشبث بحلمه، ويدرك ذاته ويدرك الكون ويعمل لاجل البقاء، وان لا شيء مستحيل امام ذكاء الانسان العقلي، فوحده قادر على الابداع واكتشاف المعجزات والتنبؤ بالمستقبل بذلك الوعي الباطني والانصهار مع الوجود في الوجود، في سبيل الخلود، وما سامية في الرواية الا رمز للانسان الواعي، الطموح، الذكي، المتفائل، المثابر، الصامد، يكفي ان يحلم، يكفي ان يعيش الحب، يكفي ان يحب، فبالحب تتحقق المعجزات و بالحب تتحقق الانتصارات، وبالحب ينتعش القلب ويزهو العقل،
الكاتب يؤمن بالثقافة ويؤسس لفكر عقلاني مثقف، بشرط توفر الحلم والحب والرغبة، وتواجد المشاعر المرهفة والحساسة، بالتفاصيل الصغيرة، فعليك ايها الانسان ان تكون واعيا بما يكفي لتكون ايجابيا ومبدعا …
واختم مقالي بهذه الشواهد و الادلة من الرواية، التي تتقاطع مع فكر الكاتب وايمانه بالتعلم والثقافة والابداع، وان جاء ذلك على لسان يوسف الشريف الانسان الذي يؤمن بالعلم والثقافة انها السلاح القاهر لكل مشكل وبعض الشخصيات الاخرى محمد، و…
جاء في ص 31 من الرواية
… اعني ان تقبل وضعك وتنخرط فيه دون ان تفقد ذاكرتك دون ان تنسى أحلامك من هنا تولد الرغبة في الاصلاح والقدرة على المواجهة والتحدي عن وعي وبكل ثقة في النفس لن تكون مطالبنا زائفة لن تكون شخصية، ستكون مطالب وطن…
ص153
بإمكاننا ان نتعلم في كل وقت المعرفة لا سن لها …
وفي ص 156
كثير من المبدعين لم يدخلوا الجامعات بل لم يكملوا دراستهم الثانوية، توماس ايدسون لم يدخل الجامعة مثلا …
وهو صاحب اعظم المخترعات … رامبو الشاعر الكبير انقطع عن التعليم في سن مبكرة وكتب اروع
القصائد
ص 158
الحياة تشبه المتاهة، لا نعلم اين تقودنا، تسلمنا من حلم الى حلم، ربما بمحض الصدفة … ويوما فيوما يخبو الحلم ويصير ذكريات …
الحلم هو ما يميز أحدنا عن الاخر، يتمسّك الواحد منا باحلامه او يستسلم للواقع فيصير مجرد انسان ينخرط في الحياة اليومية فيتلاشى شيئا فشيئا كلما تلاشت أحلامه وفي النهاية يموت عندما يموت الحلم بداخله ويبقى مجرد كائن، …
ص 167
الجهل هو الحافز على الابداع…
انا لم افهم معنى ان يصير الجهل معرفة، ولكنني اكتشفت مع هذا الفيلسوف (سقراط ) ان المعرفة الحقيقية تستقر بداخلنا …
ص 181
نحن نحب بقدر ما نحلم
بهكذا احلام، وهكذا محبة صادقة، ترفرف تحت اضلاعها، نستطيع ان نحلق و نجعل الحلم حقيقة والحب رفيقا …
***
سونيا عبد اللطيف
تونس، 22 جوان 2023