قراءات نقدية
رمضان بن رمضان: الأبعاد الوجودية في أقصوصة "رحلة العطش"
جدل الماهية والوجود
مفيدة البرغوثي شاعرة في الأصل بدأت مسيرتها منذ أواسط التسعينات، نشرت العديد من القصائد في العديد من المجلات التونسية والعربية كمجلة الإتحاف والحياة الثقافية وكتابات معاصرة اللبنانية، إضافة إلى الصحف التونسية كجريدة الصحافة في ملحقها الثقافي الذي كان يشرف عليه الشاعر والروائي يوسف رزوقة وتعتبر أقصوصتها " رحلة العطش " عملها البكر في مجال القصة القصيرة، وقد نشرت في صحيفة المثقف بتاريخ 14 جويلية 2023 في باب نصوص أدبية.
1 – ألق البدايات:
تبتدئ الأقصوصة بمشهد هلامي للزمان والمكان مع وجود شخصية إمرأة تتكشف ملامحها من خلال سيرورة الأحداث، يظل الزمان والمكان غير واضحي الملامح لكأن الكون قد ولد للتو والخالق قد أسدل عليه الليل والنهار. إنها البدايات فالشمس والليل والنهار كلها في حالة بحث عن موضع لها في كون يعمل على ضبط إيقاعه الخاص به .في الأقصوصة حضور للعناصر الأربعة: الماء،النار،التراب والهواء بأشكال مختلفة تعطي للكون رائحته ولونه تقول الكاتبة: " تغوي الصخر والماء والنار.." " كغبار الصحراء في الحلق" فما يسمع لها فحيح ".تزامنت صورة الكون قيد التخلق مع وجود ملامح إمرأة حامل، وحيدة في قفر حيث الوجود يبحث عن ذاته لا أنيس لها سوى جنينها الذي تحمله في أحشائها لكأننا أمام خلق طفراني أشبه بالمعجزة، سليل الأمر الإلهي التكويني: " كن " يغيب الرجل/ الذكر على إمتداد الأقصوصة. صورة الجنين تحيل على المخيال الديني المتصل بعيسى النبي في بطن مريم المقدسة في التراث التوحيدي فالأقصوصة تقدم سردية جديدة للخلق الكون إمرأة والوجود أنثى.
2 – الأنثى هي الأصل:
تبوئ الكاتبة في الأقصوصة الأنثى منزلة الكائن/ البكر الذي يتزامن وجوده مع بقية مكونات الوجود . فوجودها يسبق ماهيتها كما تقول الفلسفة الوجودية التي تبناها جون بول سارتر، الوجود هو كون الشيء مدركا بالإدراك والشعور أكثر منه باللغة والكلمات، أما الماهية فتعريفها يكمن في الإجابة على السؤال " ما هو ؟ " ما هو الإنسان الموجود؟ الإجابة تحدد ماهية الإنسان وحقيقته. إن أسبقية الوجود على الماهية تجعل من المرأة الحامل في بداية الأقصوصة موجودة لم تتحدد ماهيتها بعد، بل سيرورة الأحداث هي التي ستتكفل بالكشف عن ماهية المرأة فالكيان جهد وكسب منحوت على حد عبارة محمود المسعدي. لم تكن المرأة تعلم بما تحمله في أحشائها، قد يكون صنوا لما تبصره من كائنات طبيعية، تستبد بها الحيرة إنه أول حمل في الوجود. الجهل بالمآلات يعمق المأساة تقول القاصة : " ثم تسبل هامها المتعب على الأرض وتنظر إلى بطنها الأبجر قائلة: أيكون هكذا الإمتلاء، فلعلي أنبت شجرا وأثمر" (ص 127) تنوس الأنثي بين حر كالجمر تنسج من خيوط الشمس لحافا بعد أن إستحمت بالشمس وبين الإرتداد نحو الماء بحثا عن إعتدال مناخي يمكنها من الإستمرار في البقاء. يطل هذا التيه بصاحبته على حافة الجنون، تكشف عنه حركاتها في كل إتجاه، تلتحم بعناصر الطبيعة بحثا عن سكينة ( همت واقفة...شخصت فيما حولها...طأطأت رأسها...صاحت صيحة..) لقد تحرك الكائن الجديد في أحشائها، الحياة تدب فيه، روح تخرج من الروح نحن روحان حللنا بدنا على حد عبارة أبي منصور الحلاج.
لا تختلف رمزية ولادة الوجود في إرتباطها بالماء عن ولادة الأنثى " إنها الغيمة تمطر أو هي الروح تخرج " تحضر صورة مريم العذراء حين جاءها المخاض في مخيال القاصة صدى لموروث ثقافي، تسير الأنثى بحثا عن الأجادب والجدب مكان قفر لا حياة فيه، إنها عملية إخراج الحي من الميت، أن تختار القاصة لبطلتها أن تهب الحياة للجدب والقحط فتسري في الوجود وقد إخضوضرت أعشابه تقول: " لأقصدن الأجادب تستوي فيها روحي " حملت قربة ماء وبعضا من الزاد وأجدت السير...و قد إشتد عزمها إليه تأكل الأرض أكلا لكأن ساعة الولادة قد أزفت.
إذا سلمنا بالمصادرة الأولى وهي أن الوجود يسبق الماهية ورحنا نتتبع الشخصية في مسارها لنحت كيانها وضبط ماهيتها، نعثر في منتصف الأقصوصة تقريبا على تحول قلب ذلك المسار يؤشر عليه قول الكاتبة " إنسابت في صلاة لا نهاية لها " فإذا بنا ننتقل من معادلة وجود/ماهية إلى ماهية/وجود،تبرز مسألة الدين في أبرز خصائصه وهي الصلاة – الدعاء .فكأننا إزاء دين فطري، هلامي الملامح مندمج في الخلق،تحيل هذه الفكرة على الآية 172 من سورة الأعراف: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..." نحن أصبحنا أمام خلق قد حددت ماهيته من قبل أن يخلق،لقد خاتلتنا الكاتبة فقبل أن نكتشف أن شخصيتها قد لامسها المعتقد،كانت تحدثنا عن الصلابة الأنطولوجية للمرأة والإرادة القوية تقول : " كانت رجلاها إمتدادا للأرض المتحجرة،..لكأنها قطعت من حجر صلد لا تني.." فإذا بهذه القوة تخفي ضعفا بنيويا خلقيا. فالإنغماس في الصلاة يشي بأن الكائن التائق إلى الجوهر الفرد في مسيرته كائن تراجيدي صورة " للأدب الذي هو مأساة أو لا يكون، مأساة الإنسان يتردد بين الألوهية والحيوانية. وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز أمام نفسه. (من مقال " أبو العتاهية " لمحمود المسعدي، مجلة الباحث،العدد12 / 1944 )مع إقتراب لحظة الولادة يزداد التسبيح والتغني بالذات وبما تحمله وتتعالى ترانيم التمجيد تقول الكاتبة على لسان بطلتها: " أنا،أنا وأنا إثنان تطاولا فهما واحد، لا نهاية له أنا وهم ونحن جميعا والفراغ نشكل الكون والنماء،أنا أنا ما لي والصخر أنحته في جوفي فيخرج عني حياة " (ص127 ) إن التصعيد الروحي يستلزم تصعيدا ماديا أداته الجسد، صعود لا يني رغم التعب والإجهاد – جسد منهك لا يفتأ يسبح وهو في الجبل تلازم القول/العمل،فإذا كان العمل الفني قد قد من لغة فإن الكيان قد قد من فعل. نهاية الأقصوصة تدخلنا عالم الحلم/ الرؤية فيتداخل الواقع بالمتخيل فلا ندري أولدت المرأة أم خيل إليها ذلك " وإذا بها ترى فيما يرى النائم....ثم " وبعد وقت لن ينتهي رأت البجعات..." لتنتهي الأقصوصة بترديد العصافير التي كانت شاهدة، : " ولد سيد البحر ولد،قد إله قد، سعادتنا سعادة وخصبنا عادة." ما بين رأى القلبية ورأى البصرية تنتهي الأقصوصة وقد غيرت الولادة الجديدة ملامح الكون ونزعت عنه قتامته والأخاديد التي تكدر صفاءه لتنطلق البجعات من جوف الماء نحو السماء.
الخاتمة:
تندرج أقصوصة "رحلة العطش" ضمن الأدب التجريبي ذي المنحى الوجودي، هي صدى صادق لتأثر الكاتبة بكتابات محمود المسعدي: حدث أبو هريرة قال،السد، مولد النسيان،..من حيث الشكل (اللغة والأسلوب) ومن حيث المضمون (الفلسفة الوجودية) وهي محاولة تذكرني بما سعى إليه الكاتب فرج لحوار في رواياته الأولى حيث بدت بصمة المسعدي واضحة في أعماله مثل " الموت والجرذ والبحر "(1985) وروايته " النفير والقيامة " (1985).
***
بقلم رمضان بن رمضان: باحث / ناقد