قراءات نقدية
الحسين بوخرطة: الروح الأبية في قصة الكاتب احمد علي بادي
قراءة نقدية للقصة القصيرة "الطائر الزئبقي" للكاتب أحمد علي بادي
قصة أحمد علي بادي رائعة وماتعة في نفس الوقت. بفعل قوة عتباتها ودلالاتها يضطر القارئ للتموضع في فضاءين متباينين، الأول واقعي وجغرافي يتواجد فيه السارد ومقر ساعات حياته اليومية، والثاني حاضر في مخياله بقوة تاريخ شخصيته وانتمائه. وضعنا الكاتب كذلك في فضاء يتقابل فيه النفسي والروحي والشعوري واللاشعوري. خاصية الزئبق هي التحول السريع بفعل الحرارة. يتمدد، ويغير شكله ويفرز خاصية التقلب السريع. العنوان غير فاضح وتم اختياره باحترافية فنية مرتبطة لا محالة بالحمولة الفكرية والأدبية للكاتب. بذلك فهو معبر على روح القصة بمعانيها المفترضة من أول كلمة في النص إلى آخرها.
توالت الأفكار الإبداعية وانقشعت دلالات فحواها جزئيا في الفقرة الأولى، لتجذب القارئ بشغف كبير، وشحنته بلهفة البحث عن تطورات الأحداث. الراوي مغترب بكندا، ومتزوج من امرأة كندية. بلا شك طبيعة الحياة الحميمية بحواراتها وتواصلها تنم أن الرجل يعيش حياة زوجية حضارية وناعمة. اطمئنان الزوجة عليه في آخر القصة، بعدما أقر بوعي تام كظم ما يخالجه كل ليلة وما يجبره للاتجاه نحو النافذة، أبرز المستوى الإبداعي العالي للكاتب. لقد ربط بفنية جذابة عتبتي العقدة والقفلة في القصة. مواجهة السارد للألم والبحث عن التكيف مع متطلبات الحياة الجديدة بالكتمان أحدث هزة نفسية لدى القارئ، بحيث وجد نفسه متأرجحا بين الصواب والخطأ وبين الأمل وخيبته، وبين الحاضر والمستقبل.
تصوير الوطن الأم كطير غريب حول الفقرة الأولى إلى منبع يفور في نفس الوقت حزنا وأملا. منذ البداية أراد الكاتب أن يقف على الأهمية القصوى للشخصية البشرية وجذورها وانتمائها الترابي. وهو يتحدث عن هذا الطير انفصمت شخصية الراوي وتموقعت في عالمين مرغوبين، الأول كملاذ للعيش الآمن، والثاني ثقيل وثمين بتراكمات ذكرياته. حضر في النص الوطن وواجب المواطنة والنضال من أجله.
ليلة استحضار الكينونة بماضيها وحاضرها لدى الراوي كان يوم حصوله على الحق في جنسية جديدة. احتفل بالحدث ليلا، لكن الليل وهواجسه حاصره بقوة، وغاص به في أعماق وجود حياته السابقة. أبرز قوة نقرات الطير التي انتشلته من غيابة النوم العميق. اختياره وصف الوطن بطائر استثنائي في كل شيء كان دقيقا ومؤثرا. بدا له طائرا غريبا ومألوفا في وقت واحد؛ كان له منقارٌ كأنه المنجل، وجسدٌ في حجم ولون الغراب، وجناحان حين يفردهما يضاهيان جناحي نسر ذهبي، أما عيناه فكانتا واسعتين بارزتين لونهما يذكرانك بلون أمواج البحر... إنه طائر عجيب كان ينقر بشكل قوي على النافذة، حتى خشي السارد أن يلقي بزجاجها على الأرض.
الكاتب ارتبط بحدث اكتسح عالمه في يوم غير عادي في مساره المعيشي في بلاد الغربة. السرد في منطقه ينم وكأن الراوي اغتبط لانبعاث الطائر فجأة في حياته، لكنه مال لمقاومة هذا الإحسان الجميل مرتهنا للمتعة التي تتميز بها حياته الجديدة. رد على زوجته وعيناه في تلك اللحظة كانتا قد تحولتا أيضا إلى طائرين صغيرين يدوران في السماء. وهو يغرد في سماء الوطن الأم، اعترف في نفس الوقت بجاذبية وضعه الحالي. تلذذ الأنوثة في عالمه الجديد، وانجذب بحاضر ومستقبل كينونته. ألقت زوجته بذراعها العارية على كتفيه وقالت وهي ترسم ابتسامة رقيقة على فمها: "إذن صفه لي"....عادت عيناه من السماء لتحط على وجهها الذي لم يزل مشرقا بابتسامتها، وراح يصفه لها حتى معبرا لها لون عينيه يشبه لون عينيها، فتوسعت ابتسامتها إلى أن تحولت قبلة على خده.
عاد الطائر كل ليلة يلح بمنقاره على السارد وكأنه يطالبه بالعودة إلى التفكير في الوطن وكذا في واقعه ومصيره .... فاختار الكاتب لقصته قفلة التكيف مع الواقع الجديد والتملص من ضغط الشعور والحنين إلى الوطن. استسلم للآتي موجها الكلام لزوجته " كنت محقة يا عزيزتي! يبدو أني كنت متعبا في اليومين السابقين، اليوم لم أسمع صوت نقرات ذلك الطائر! " ... ردت بابتسامة وهي تعدل تحتها الكرسي قائلة "قد جعلتني أطمئن عليك".
ختم السارد قصته المشوقة بفقرة بالغة الدلالة: ..." وإلى اليوم.. مازال ذلك الطائر يأتيني مع مخاض السماء وهي تلد يوما جديدا، فيقف عند النافذة ويأخذ بالنقر عليها، لكني الآن صرت أستطيع تجاهله، وغدا إزعاجه لي تفصيلا يوميا اعتدت عليه كل صباح"..
***
الحسين بوخرطة
............................
الطائر الزئبقي
الكاتب: الأستاذ الأديب أحمد علي بادي.
أتذكر أول مرة بدأ فيها بإزعاجي، وقتها استطاع بصوت نقراته انتشالي من غيابة النوم العميق، فأسرعت نحو النافذة لأزيح عنها الستائر وأرى من وراء ذلك، بدا لي طائرا غريبا ومألوفا في وقت واحد؛ كان له منقارٌ كأنه المنجل، وجسدٌ في حجم ولون الغراب، وجناحان حين يفردهما يضاهيان جناحي نسر ذهبي، أما عيناه فكانتا واسعتين بارزتين لونهما يذكّر بلون أمواج البحر.
في تلك اللحظة انتبهت لي زوجتي الكندية وقالت وهي تنظر إلي في نصف إغماضة وما تزال ملتصقة بالفراش:
- لم أنت هناك؟
قلت لها بصوت رسمت ملامحه الدهشة:
- طائر عجيب كان ينقر بشكل قوي على النافذة، حتى خشيت أن يلقي بزجاجها على الأرض.
فأسرعت بالنهوض تاركة السرير حتى إذا أصبحت إلى جواري، أخذت تنظر من النافذة وتسأل في فضول واستغراب:
- أين هو؟
- لقد طار بسرعة.. لا أعرف أين ذهب!
رددت عليها وعيناي في تلك اللحظة كانتا قد تحولتا أيضا إلى طائرين صغيرين يدوران في السماء.
حينها ألقت بذراعها العارية على كتفي وقالت وهي ترسم ابتسامة رقيقة على فمها:
- إذن صفه لي.
عادت عيناي من السماء لتحطا على وجهها الذي لم يزل مشرقا بابتسامتها، ورحت أصفه لها حتى إذا قلت أن لون عينيه يشبه لون عينيها، توسعت ابتسامتها إلى أن تحولت قبلة على خدي ثم دعتني للعودة إلى السرير، فاستجبت لها؛ كان النوم مازال يتشبث بجفوني من أثر سهرة الأمس التي امتدت حتى وقت متأخر من الليل وكانت احتفالا بمناسبة حصولي على جنسيتي الجديدة.
وفي اليوم التالي، جاء أيضا وأيقظني بصوت نقراته، فما كان مني إلا أن أيقظت زوجتي:
- ألِيس! يبدو أنه طائر الأمس هل تسمعين صوت نقراته؟
أخذتني الدهشة حين ردت زوجتي قائلة وهي تحاول تحسس الصوت وتعقد حاجبيها متعجبة:
- لا أسمع أي صوت؟
- كيف لا تسمعينه وصوت نقراته يكاد يثقب أذني؟!
قلت مستنكرا، فابتسمت في وجهي قائلة:
- لا بأس، لنذهب سويا لمشاهدته.
- نعم.
قلت لها موافقا.
وعند النافذة، طلبت منها إزاحة الستائر برفق وأنا أهمس لها:
- مازال ينقر على الزجاج، هل تسمعينه الآن؟
ردت بنفس صوتي الهامس:
- غريب.. لا أسمع! لكن لنر.
وما أن أزاحت الستائر حتى أشرع جناحيه وطار بشكل خاطف، عندئذ صرخت وكأني طفل يشاهد شيئا مشوقا:
- لقد طار، هل رأيته؟
عادت تدحرج نحوي نظرات استغراب:
- لم أشاهد أي طائر!
ثم أردفت وهي تضع يدها على كتفي:
- قد تكون متعبا يا عزيزي، عد للنوم وحاول أن تنسى الأمر.
خجلت من زوجتي وقلت لها ودوامة الدهشة تدور بي:
- يبدو ذلك!
وعاد مجددا في اليوم الثالث، لكني ظللت فقط أستمع إلى نقراته حتى توقف عنها بعد مدة ليعقبها صوت خفقة جناحيه فأدركت أنه قد طار.
يومئذ انتظرت حتى جلست زوجتي معي على مائدة الإفطار فقلت لها، وأنا أصطنع صوتا صاخبا ممتزجا بالضحك:
- كم كنت محقة يا عزيزتي! يبدو أني كنت متعبا في اليومين السابقين، اليوم لم أسمع صوت نقرات ذلك الطائر!
ابتسمت زوجتي وهي تعدل تحتها الكرسي:
- لقد جعلتني أطمئن عليك.
وإلى اليوم.. مازال ذلك الطائر يأتيني مع مخاض السماء وهي تلد يوما جديدا، فيقف عند النافذة ويأخذ بالنقر عليها، لكني الآن صرت أستطيع تجاهله، وغدا إزعاجه لي تفصيلا يوميا اعتدت عليه كل صباح.
***