قراءات نقدية
المولدي فرّوج: النّقد وأنصاف النّقاد
1ـ على سبيل البدء:
مرّت أزمان والنّقّاد يعتنون بنصوص غيرهم من المبدعين نقدا وانتقادا، مدحا وتجريحا، شرحا وتشريحًا. وكانوا بتلك العناية والرّعاية قوّة دفع كبيرة ساهمت بالارتقاء بالنّصوص الى درجات عليا من الأدبية والجمالية وساهمت في ربط علاقات إفادية بين النص والقراء. وخلال هذه الازمان لم يسه النّقّاد عن توصيف النصوص وفرزها وتصنيفها، ولم يتوانوا في تقييم الأدباء وتقسيمهم فقسموا الشّعراء مثلا الى أربع درجات. وقسّموا الأدب الى أشكال كثيرة. وقد فعلوا ذلك أحيانا باعتماد معايير شتى لا تخضع دائما الى الموضوعية وانما الى عوامل مختلفة مثل الزمن والظروف الاجتماعية ودرجات المعرفة وحتى الذوق والمزاج. والسؤال الذي اود طرحه: ماذا فعل النّقّاد بنصوصهم النّقدية؟ هل طوّروها لتواكب الحداثة أم انهم اكتفوا بالكنس أمام ديار غيرهم بأسلحة قديمة اهترأت مفاتيحها فلم تعد قادرة على فتح باب نصّ "حديثّ"؟
وان كنت لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لعدم الاختصاص، فإنني سأحاول في هذه الورقة ان اثير الموضوع املا في تذكير أصدقائي النّقاد بدورهم الرّيادي في ضرورة الاتيان بشيء قد يرفع نصوصهم الى كوكبة القافلة ان لم أقل ناصيتها ليتمكنوا من قيادة الحركة الأدبية أو في أضعف الأحوال أن تواكب نصوصهم النقدية النهضة التي شهدتها النصوص الإبداعية الأخرى.
2 ـ الأبستمولوجيا والصفة:
يقول بعض من اللغويّين أن جذع العربية حرفان لا ثلاثة ويسمّون العربية لغة المثاني. وحتى أبيّن حقيقة أبستمولوجيا كلمة "نقد " اعتمدت هذه النظرية وبنيت على أسس حَرْفيْ النّون والقاف (الجذع الثّنائي لفعل نقد) وولّدت منهما جميع الالفاظ الممكنة بإضافة الحرف الثّالث. وخلصت إلى أن كل الالفاظ المولّدة تدور حول المعنى نفسه وهو تسليط قوّة مادّية (ملموسة) أو معنوية (محسوسة) على شيء بغية إصلاحه او تهذيبه او تزيينه. فنقّى ونقب ونقد ونقح ونقس ونقر ونقش ونقص ونقض ونقط ونقل ونقم، كلّ هذه الأفعال يقودها رأس الحربة الذي نعوّل عليه أي نقد، تبيّن أن مهمّة النّاقد لا تكمن في ابداع (خلق) نصّ جديد إنما في تناول نصّ موجود بغية فرز الجيّد منه وتقييمه وذلك بتسليط قوّة فكريّة عليه، وهو غير مطالب باختلاق نص من خياله وانما بالاشتغال على ابداع غيره بطريقة لا تخلو من الفنّ والجمالية: يفحص النّاقد النّصّ معتمدا على مخزونه اللّغوي وعلى فطنته وذكائه وعلى ذاكرته وما ادّخرته لوقت الحاجة، يفكّكه ويعيد بناءه. وهذا العمل لا يقدر عليه من دبّ وهبّ فللنّقد شروط عديدة منها: الكفاءة والدّرجة العلمية وموهبة التحليل والتفسير والقدرة على استنطاق النّصّ وحذق الدّخول الى أعماقه. فالنّصّ يتكلّم إن دفعته الى الكلام ويبوح بأسراره إن أمسكته من النّاصية. والنّاصية في نظرنا هي لا وعي الكاتب المبثوث بين السّطور وخلف العبارة. وعلى النّاقد القنّاص أن يتمكّن من تعرية الوجه الخافي من النّصّ واستحضار ظروف ولادته.
3 ــ على النّاقد أن يشابه الطّبيب:
ان النّاقد وهو يضع جسد النص الادبي على طاولة الفحص هو طبيب يحاول ان يستنطق الجسد المريض لتحصل عنده فكرة كلية (البنيوية = l’état général) معتمدا على علم الفيزيولوجيا (الاسلوبية = (la physiologie ومتبيّنا علامات المرض (سيميولوجيا = la sémiologie). تقول الحكمة الأساسية في فن الطب: ليس هنالك مَرضٌ بل هنالك فقط مرْضى (il n’y a pas de maladies ,il n’y a que des malades ). ما يعني أن الطبيب لا يمكنه أن يطبّق المعارف نفسها على جميع المصابين بمرض واحد. كذلك الناقد لا يمكنه أن يطبق المذاهب نفسها على كل النصوص فهي تختلف من شخص الى اخر ومن بيئة الى أخرى، وقد تختلف عند الكاتب نفسه باختلاف ظروف الكتابة. فليس هنالك مدارس نقدية أصلا ولا قوالب جاهزة يستوردها الناقد في علب لغوية. وحتى إن وجدت، فهي تولد مع كل نصّ وتتوزّع ما بين وعي ولا وعي الكاتب. فلا يحقّ للنّاقد ان يتعمّد تطويع النصّ لمذاهب نقدية غريبة عنه وعن البيئة التي خلق فيها.
4ــ عنوان النّصّ، المتاهة الأخرى:
لعلّ أوّل زلّة يرتكبها النّاقد الكلاسيكي هي اهتمامه بالعنوان. اذ يعتبر كثير من النّقّاد أنّ عنوان النّص هو العتبة الأولى التي تسبق المتن ويخصّونه بقراءة معمّقة وشاملة تمسح حتّى شكل الخطّ ولونه. بل ويصرّ بعضهم على أهمّية العنوان فيضعه في مرتبة المضاف ويترك البقية مضافا اليه لا يخرج عن طاعته الا بتأويل. شقّ ثالث يمنح للعنوان صفة المبتدأ ويسمّي البقية خبرا لذلك المبتدأ اللّقيط الباحث عن نسب. يشترك كل هؤلاء في منح قيمة للعنوان لا يستحقّها لتكون في أحيان كثيرة واجهة مصطنعة وشمّاعة تأويلات. أمّا في الواقع فلا يضع المبدع، شاعرا كان أو قاصّا، عنوانا لنصّه الا بعد وقت من الانتهاء من كتابته والاشتغال عليه. وقد تطول مدّة البحث عن عنوان فتفوق المساحة الزّمنية التي استهلكتها كتابة النّص ومراجعته. وقد يرشّح الكاتب عدّة عناوين يعرض بعضها على قرّائه وأصدقائه. ولنفرض أن رأي هؤلاء النّقّاد صحيح وان العنوان هو بالفعل مبتدأ وأن المتن خبر له فماذا يساوي المبتدأ دون خبر؟ لا شيء سوى كلمة مجرّدة خالية من كل معنى فالخبر هو الذي يرفع من شأن المبتدأ ويمنحه معناه وصفته. نقول مثلا: البحر ونتوقف هنا حيث لا معنى ولا شيء حتى يحين الخبر فنقول البحر مائج فنفهم سببا ونتيجة لذلك الهيجان الخ. العنوان في اعتقادنا تلخيص للنّص وباب الخروج منه ولا مفتاح الدخول اليه.
5ـ لكيلا يبقى النّقّاد أنصاف نقّاد:
أغلب النّقّاد يتعلّمون ممارسة النّقد في كليات الآداب والعلوم الإنسانية فيتخرجون منها بشهادة في احدى اللغات أو العلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ والحضارة. وقد ينهون دراستهم بالحصول على نصف شهادة نظرا لتفرّع الاختصاصات في زماننا فالأدب صار آدابا منها القديم ومنها الحديث. فماذا يفعل النّاقد أمام نصّ مشحون بالمعارف العلمية الحديثة (خيال علمي، علوم صحيحة، تكنولوجيا، انترنت) وهو الذي لم يتعلّم كيف يأخذ الأشياء بمنطق الأشياء؟ سيجد نفسه عاجزا عن فهم النّصّ وقد لا يتجرّا ‘ن التعبير عن عجزه فيكتفي بقراءة سطحية بسيطة سلاحه اللغة ولا شيء غير اللغة يقيس من خلالها النّصّ وينقده فيضرّ به ويضرّ بقارئه.
5ــ تقديرا للنّاقد:
أحيانا، يجد النّاقد نفسه في وضعية لا يحسد عليها خصوصا اذا كانت تربطه بصاحب النّص علاقة أو معرفة قد تفرض عليه التضحية بقسط من النزاهة وبشيء من الموضوعية. وقد يكون الناقد مجبرا لغاية أخرى على التخلّي عن رأيه تجنبا لما عسى أن يلحق به من أذى فنحن نعلم أن سوق النّقد والجوائز والقراءات صارت حامية وأنشأت لها أنصارا وسماسرة من النّقّاد أنفسهم فجعلت بعضهم يختارون المكان الأسلم، المربح والمريح، فلا يخجلون من التضحية بدرجات معارفهم إرضاء لخاطر مانح الجائزة أو للحاصل عليها. وهذا الموقف خالص الأجر أضرّ بالنّصوص الأدبية عموما وأفقد السّاحة ثقة القرّاء.
لذلك قلت مرة في حيرة النّاقد باحثا له عن أعذار تنزّه عمله:
... ينْقادُ النَّاقِد للفوْضَى
ما أعذبَ هذا المنفَى!
وبلا مأوَى...
يتلجلجُ قلبُ الناقِد ما بين الألفاظِ
تضيعُ رؤاه
مخمورًا ينبُش في الأنقاضِ
ما أصعبَ أن يتحكَّم نصٌّ في أحْجيةِ القاضِي.
***
د. المولدي فرّوج / تونس