قراءة في كتاب

كاظم الموسوي: قراءة في "حتى مصرع الفجر.. سيرة سجين سياسي"

حتى مصرع الفجر، عنوان لافت للانتباه، فتغيير المفردة المعروفة فيه يترك او يوحي بمعناه الجديد، المنصوص له، ويثير للقراءة محتوى اخر او معنى انتباه بلون ملفت. ولاسيما السطر الاخر بعده الذي قد يفسر ما وراءه، فالعنوان هذا لكتاب عن سيرة سجين سياسي. من تاليف خضر عبد الرحيم، ومنشورات دار سطور، بغداد، 2025، وبصورة مباشرة ومفردات مغموسة بمعاناة السجين وحكاية تجربة قد عاشها مناضلون كثر، ولكن تبقى لكل طبيعته ودلالاته وتسجيل كل ما حصل وجرى يضيء ما عتم ويحفز لمعرفة او اطلاع ليس عابرا بكل الاحوال والاهوال. يذكرنا بما كتبه الروائي العربي المعروف عبد الرحمن منيف في رواياته التي حملت اسم المكان مكررا او باضافات له، شرق المتوسط، ونوعت الاحداث او لخصت التجارب القاسية التي عاشها البطل ورفاقه، حيث تسجل شهادة او تعطي دليلا لمحاكمة الحكم/ السلطة وصراع الحاكم والمحكوم في هذه المنطقة من العالم او في ما شابهها من سير وتجارب وقسوة ودمار ومكابدة وشجاعة وآلام وجراح بمختلف تداعياتها او ردات الازمة العامة الخانقة في تلك الايام او في ازمنة الكوارث الوطنية او صورها المؤلمة، عبر تلك السجون، وتلك القصص، وتلك النماذج وصولا الى تنوع عتباتها الروائية وسردها الفني.

المهم في الكتاب، كما هو عند من سبقوه من كتب عنها، هو توثيق تجربة مناضل سياسي (شيوعي) في العراق في زمن ارتداد دموي وممارسات فاشية، قد ينفرد في وصفها او يضعها كما عاشها امام القراء والتاريخ، كي لا تنسى او تمر كغيرها دون تاثير واعتبار. اذ ليس ما حصل داخل السجون وحده هو ما يبين الممارسات والصراعات والاختلافات السياسية فقط، وانما ما يحيط بها او يمهد لها او يثبت طبيعتها الحقيقية. وهو ما اراد الكاتب ان يشرحه او يسرده بالاسماء والوقائع والاحداث، بدايات ونهايات العذاب العراقي. ولان الكتاب ، سرد قصصي لتجربة سياسية بكل تفاصيلها، وسيرتها الواقعية بما حملته من قسوة وهدم لحياة انسانية وكيان بشري، فان استذكارها وتسجيلها شهادة واثبات وبيان ليس للكاتب وحده وانما لكل من مر بتلك المعاناة وعاشها وللاجيال التي لم تسمع بها او بامثالها.

سجل المؤلف خضر عبد الرحيم، تجربته في اربعة عشر فصلا او قسما، جمعت في دفتي كتاب من مائتي صفحة من القطع المتوسط، وبلغة واضحة سلسة استرجاعية لما حصل له ولرفاقه في تلك الفترة المتناقضة في مهمات النضال والتحرر للحركة السياسية، الوطنية العراقية. كاشفا بين السطور غفلة سياسية تنظيمية وتراجع بلا خطط او انتباه لمخاطر غير متوقعة او محسوبة، من جهة، واثبات لغدر موجع ووحشية مبرمجة وارتهانات سوداء، طغت على تلك الفترة الصعبة والايام القاسية فيها، من جهة اخرى.

حاول الكاتب ان ينقل سيرته كسجين سياسي منذ اول المواجهات للمكان، السجن؛ وشرح الاساليب التي تبعها السجان معه ومع غيره من السجناء. كيف وصل الى السجن ولماذا ومن كان معه شاهدا وناقلا وجع الساعات او الايام التي عاشها في مكان وزمان لم يتوقع اي انسان وبالتاكيد لا يرغبه حتى في التمثيل المسرحي او السينمائي. وصف لما هو عليه في السجن ، اول مرة يمر في تلك المحنة، ويسمع من غيره، ممن سبقه للمكان تفاصيل العيش والصمود والصبر في ظروف غير اعتيادية وليست في الحسبان.

"في الصباح ، يستيقظ الجميع على زعيق وحماقات الحرس، وقرقعة الاقفال، وصرير السقاطات الحديدية والتي تثير القرف في النفوس، فضلا عن صوت وقع كعوب الاحذية، والبساطيل العسكرية" (ص12). وينتقل الى وصف غرف التحقيق، "اشبه ما تكون بمسلخ بشري، تنتهك بداخلها كرامة الانسان بوحشية مفرطة، ينفث الجلادون سمومهم، ومركبات نقصهم في الابدان المعلقة الى خطاف، والمتدلية من السقف كما الذبيحة المعدة للسلخ، تتحول الظهور والاكتاف مرمدة لاعقاب سكائرهم…"(ص12). ويحاول الجمع بين اجراءات الجلاد وردود فعل الضحية، فلا يتوقف عن سرد يوميات السجن، ما يحصل له فيه وما يتعلمه من عادات وتصرفات وسلوك السجناء السياسيين، وما يعتريه من مشاعر واحاسيس وذكريات، سبقت وجرت امامه.

يرصد الكاتب صور العذاب اليومي، كما نشر رفاق له من بلدان عربية اخرى، كالكاتب طاهر عبد الحكيم في كتابه، الاقدام العارية، او الروائي الراحل صنع الله ابراهيم، في عدد من رواياته، التي شكلت مع غيرها ما اطلق عليه، بادب السجون، وكانت ابداعات المناضلين ذاكرة باقية وسجلا موثقا عن تلك الايام وتلك السلطات، وتلك الشهادات الباقية، في الكتب والافلام وغيرها من وسائل الاعلام والتواصل. فيستغرب من اجراءات الاذلال والاهانة، التعرية الكاملة من الملابس، ويتفرج المحقق/ الجلاد "بنشوة المنتصر القابض على مصيرك، والمنتشي باذلالك، لم يكن الغرض من وراء هذا الاجراء ، الا اشعارنا بالمهانة، والمذلة ، واشباع مركب النقص الذي يسيطر على نفوس اغلب منتسبي هذا الجهاز، واي اوامر غريبة هذه التي صدرت لنا من رجال الاستخبارات؟!(ص 34). وبين وصف العذابات وشرح الاجراءات القاسية يثبت صورة السجن والسجان العراقي، وكيف يعيش السجين او يتعرض له، " تعرض الشاب لابشع انواع التعذيب، فقد مورست بحقه كل انواع التنكيل والتعذيب لاستحصال اعتراف يقوده لحبل المشنقة، قلعوا اظافره واحرقوا قدميه ب(التيزاب)، اقعدوه مرات على قنينة (البيبسي كولا) التي احدثت تمزقا وضررا كبيرا في الشرج ظل يعاني منه لاشهر، ومازال يعاني من الالام كلما ذهب الى الحمام"(ص89).

وبعد سرد روايته عن السجن والتحقيقات والتعذيب وسلوك السجانين واختلاف الممارسات حسب المعتقل ومكانه، في الشعبة الخامسة او سجن مديرية الامن العامة في بغداد وفرعها في الموصل، وغيرها، ينتقل الى قضية حساسة وخطيرة، ربما لم تنشر او تذكر فيما نشر في " ادب السجون في العراق"، قضية الاختراق الامني والاندساس من طرف الحاكم/ العدو بعد سقوط تحالفه وتصاعد توحشه الفاشي علنا للتنظيم الحزبي، الشيوعي، الحليف السياسي الجبهوي، وخيانة الضمير والانسانية لعضو الحزب وانهياره الاخلاقي وتسليم مصائر رفاقه لمثل كل ما كتب في الكتاب، وربما كتب مثله في كتب اخرى. ولكن بدءا من الفصل او القسم العاشر يوثق المؤلف/ الضحية، التوحش الناعم الذي يوصل الى التوحش الخشن، وفصول الانتهاكات والتعذيب والاهانات والاساءات وما لم يستطع تحمله من صور المعاناة وانكشاف السر والخداع. والاصرار على مبدأية الالتزام التنظيمي والايمان المطلق بالحزب وكوادره واعضائه وفي تلك الظروف الصعبة والقسوة والقهر الذي يواجهه اعضاء الحزب ومنظماته، "الرفيق المشرف (عباس حسون) ابو سلام محل ثقة الجميع، لما يتمتع به من تاريخ نضالي حافل بالتضحية ونكران الذات، ومن غير المسموح اثارة الشكوك حول رفاق بمستوى الرفيق (عباس حسون) في هكذا ظرف حرج يمر به الحزب ، فضلا عن ارتباطه برفيقة مهمة في هيكيلية التنظيم، رفيقة فوق مستوى الشكوك والشبهات، ومن غير المسموح المساس بالصورة الناصعة التي رسمها الحزب لها في اخيلة وضمائر الرفاق، لا سيما وانها ابنة احد شهداء الحزب، وزوجة سابقة لاحد الشهداء الخالدين، تلك هي الرفيقة (نادية سعد) ابنة الحزب كما يحلو للبعض ان يطلق عليها هذا الوصف المبهر، فقد تربت في كنف الحزب الذي اشرف على رعايتها وتربيتها، اكراما لذكرى والدها الشهيد الذي تمت تصفيته على يد نظام حزب البعث، ومدير امنه المجرم (ناظم كزار) في بداية السبعينات حين القي القبض عليه بمعية مجموعة من قيادة تنظيم بغداد، وتمت تصفيتهم في احواض (التيزاب) " (ص ص 121-122).

في تلك الظروف أُكتشف ان عباس ونادية متعاونان مع امن النظام ووضعا مصائر عشرات الرفاق بيد اجهزة الامن ونهايات احكام النظام، بعد التعذيب وممارساته الوحشية، بالاعدام شنقا او بالتيزاب. وتمكنت منظمة حزبية من اصدار حكم تصفية عباس جسديا وفضح اخرين من امثاله، والابرز منهم، " احد المكلفين من قبل الحزب بادارة وقيادة تنظيمات الداخل، ومنحه صلاحية كاملة في اعادة تشكيل وهيكلة الخلايا الحزبية المخترقة، فقد قام هذا العنصر بتسريب معلومات تفصيلية عن التنظيم، كشف من خلالها خطوطا تنظيمية كاملة، واخبر اجهزة الامن عن اماكن تواجد الرفاق، والاوكار السرية التي يتخفى الرفاق المطاردون، فكان من اسوأ واقذر العناصر الذين كلفهم الحزب باداء هذه المهمة النبيلة " (ص 128). ورغم ذلك لم يتوقف العمل التنظيمي والالتزامات المطلوبة في مدرسة الشيوعيين العراقيين، الا ان مفاجاة الرفاق، واستغرابهم، وهم الذين يتحدث الكاتب عنهم، عند اعتقالهم، معرفة ان التعليمات التي كانت تصلهم كانت من رجال الامن، وليس من قيادة الحزب، كما كان يقال لهم، "حتى انهم ذهلوا واصابهم الارتباك والرعب من وفرة المعلومات التي بحوزة رجال الامن: اسماؤهم الصريحة والحركية، اماكن تواجدهم والاوكار التي كانوا بها يختبئون، طلبات الالتحاق بفصائل الانصار التي كانوا يحررونها، كل ذلك كان معلوما لدى رجال وضباط الامن بشكل تفصيلي "(ص161). ويواصل الكاتب سرد ما حصل للرفاق من اعتقالات وتحقيقات، وبالاسماء الصريحة، التي يتوجب التوثيق لهم ومن بقي حيا منهم للتاريخ والاجيال، ويعطي للكتاب اهميته ويضعه في سلسلة ادب السجون، من اهدائه في الصفحة الاولى، "الى قناديل الحرية في ليل الدكتاتورية الحالك، شهداء العراق…" والى صفحته الاخيرة، صور بعض الشهداء باسمائهم الصريحة، حتى مطلع فجر جديد.

***

كاظم الموسوي

في المثقف اليوم