قراءة في كتاب
عبد السلام فاروق: نهاية الليبرالية
كثيراً ما تموت الأيديولوجيات قبل أن تعلن عن موتها رسمياً، فتستمر جثثها المتحللة تتردى أردية الحياة، بينما جوهرها يكون قد أسلم الروح إلى غير رجعة. هذه هي الفكرة المركزية التي ينطلق منها عالم الاجتماع الأمريكي إيمانويل فالرشتاين في كتابه الثوري "بعد الليبرالية"، الذي ترجمه محمد حمشي وراجعته عومرية سلطاني عن دار مدارات للأبحاث والنشر في مصر. فالرشتاين، صاحب نظرية النظام العالمي وأحد أبرز منظري "عصابة الأربعة" الفكرية التي ضمت أيضاً) سمير أمين وجيوفاني أريجي وأندري جوندر فرانك (يقدم في هذا العمل تحليلاً جريئاً يشبه تشريح جثة الليبرالية على طاولة التاريخ، مبيناً أسباب وفاتها ومستكشفاً معالم عالم "ما بعد الليبرالية".
النظام العالمي يحتضر!
يؤكد فالرشتاين أن النظام العالمي القائم والذي تعود جذوره إلى القرن السادس عشر في أوروبا، توسع مع مرور الزمن ليشمل جميع أنحاء المعمورة. وهذا النظام، كما يشرح، كان على الدوام نظاماً اقتصادياً عالمياً رأسمالياً، يحدوه هدف واحد رئيسي هو "التراكم اللانهائي لرأس المال"، حيث يراكم الناس والشركات الأرباح المالية لا لتحقيق الرفاهية أو السعادة، بل بهدف تحقيق المزيد من المال في عملية متواصلة لا نهاية لها. وهذا النظام يتمتع بآليات بنيوية تضع العراقيل أمام الذين يعملون بدوافع أخرى، تصل إلى عزلهم ليس فقط من العملية الاقتصادية ولكن من المشهد الاجتماعي أيضاً.
يقسم فالرشتاين العالم إلى ثلاثة نطاقات أساسية: المركز حيث يتراكم رأس المال، ودول المحيط أو الهامش المصدرة للمواد الخام والتي تشكل في ذات الوقت أسواقاً للفائض السلعي من المركز، وشبه المحيط الذي يضم دولاً تقع في منزلة وسيطة بين الدول الفقيرة والثراء وتحمل اقتصاداتها ومجتمعاتها ملامح من كلا النطاقين، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل. وتنطوي العلاقة بين دول المركز ودول المحيط على علاقات تبادل غير متكافئة، وعلى قمع خفي من دول النطاق الأول على دول الثاني.
الليبرالية من الداخل
يقدم فالرشتاين تحليلاً تاريخياً شاملاً لليبرالية كمرحلة مؤقتة في النظام العالمي الحديث (1789-1989)، معتبراً إياها أيديولوجيا ارتبطت بصعود الرأسمالية وهيمنتها. فالليبرالية، في تصوره، لم تكن مجرد خيار سياسي واقتصادي، لكن تحولت إلى ما يشبه "الدين الخاتم"، المفروض على الشعوب فرضاً، لا عبر الإقناع وحده، بل أحياناً عبر قوة السلاح والتدخلات العسكرية، تحت شعار "اقتصاد السوق" و"قيم الديمقراطية".
لكن الليبرالية، كما يكشف فالرشتاين، لم تكن تحريراً للإنسان كما تزعم، ففي صميمها كانت تحريراً لرأس المال، ومنحه سلطة كلية مهيمنة على السياسة والاقتصاد والإعلام، بحيث يغدو هو الحاكم الحقيقي لمسار الحياة الإنسانية، وفق منطقه النفعي المادي الضيق. وهذا ما يفسر لماذا أدت الليبرالية، رغم وعودها بالتقدم والحرية والديمقراطية، إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، وإلى نشوب صراعات وحروب لا نهاية لها.
التناقض الجوهري: بين الخطاب والممارسة
يكشف فالرشتاين عن التناقض الجوهري في المشروع الليبرالي بين الخطاب والممارسة. فبينما تدعي الليبرالية تحرير الإنسان والفرد، فإنها في الممارسة العملية تطلق العنان لرأس المال ليهيمن على مصائر البشر. وبينما ترفع شعارات المساواة والعدالة، فإنها في حقيقتها تؤسس لعلاقات تبادل غير متكافئة بين دول المركز ودول المحيط. وهذا التناقض ليس عارضاً في المشروع الليبرالي، إنما هو جزء من بنيته الأساسية، إذ يعتمد استمراره على هذا الفصل بين الخطاب البراق والممارسة القائمة على الهيمنة.
إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية قد حملت في طياتها بذور تناقضاتها، فإن النيوليبرالية، كما يحلل ديفيد هارفي في كتابه "النيوليبرالية: موجز تاريخي"، تمثل ذروة هذا الانحراف. فالنيوليبرالية، التي انتقلت من فكرة نظرية إلى سياسة عملية خلال السبعينيات بعد أزمات النفط والتضخم، لم تكن مجرد سياسة اقتصادية، بل مشروعاً فكرياً وسياسياً يركز على تحرير السوق وتقليص تدخل الدولة.
يصف هارفي النيوليبرالية كنظرية اقتصادية وسياسية تدعو لتحرير الأسواق، وخصخصة الأصول، وتقليص دور الدولة، وتعزيز الفردية. لكنه يوضح أن هذه المبادئ غالباً ما تستخدم كأداة لإعادة توزيع الثروة والسلطة لصالح النخب الرأسمالية، مما يؤدي إلى زيادة التفاوت الاجتماعي على الصعيدين المحلي والعالمي. وهذا ما يجعل النيوليبرالية، في تحليل هارفي، أداة لإعادة تمركز السلطة والثروة لصالح النخبة، عبر آليات مثل تخفيض الضرائب على الأغنياء، وتحرير الأسواق المالية، وإضعاف القوة التفاوضية للعمال.
مستقبل بلا يقين
يعلن فالرشتاين أن الليبرالية، كأيديولوجيا سياسية واقتصادية، قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن وعودها بالتقدم والحرية والديمقراطية لم تتحقق على أرض الواقع. فالمشروع الليبرالي، الذي بدأ مع الثورة الفرنسية، قد استنفد طاقته، وأن العالم بحاجة إلى بدائل جديدة ومبتكرة لمواجهة التحديات القائمة.
يعتقد فالرشتاين أن النظام الاقتصادي العالمي شأنه شأن أي نظام آخر، ينطوي على جملة تناقضات، وعندما تصل هذه التناقضات حداً معيناً يتحرك خلال المسار بعيداً عن نقطة التوازن، يستحيل على النظام أن يعمل بصورة اعتيادية. عندها يبدأ النظام في التفرع والتشعب، وهي النقطة التي يعتقد فالرشتاين أننا بلغناها الآن.
العصر الانتقالي
يتنبأ فالرشتاين بفترة انتقالية تمتد من 1990 إلى 2025/2050، تتميز بعدم اليقين والفوضى العالمية، حيث تتراجع شرعية الدولة الوطنية، وتنهار الثقة في فكرة التقدم الليبرالي. ويرى أن السلام الليبرالي وهم، وأن العالم الثالث سيواجه أزمات معقدة في هذه المرحلة. وهذا التشخيص يقدم إطاراً تفسيرياً قوياً لفهم التحولات العالمية التي نشهدها اليوم، من صعود الشعبوية إلى أزمات الديمقراطيات الليبرالية وتصاعد حدة التوترات الجيوسياسية.
بدائل مستقبلية
في مواجهة أزمة الليبرالية والنيوليبرالية، يطرح فالرشتاين والسجال الفكري المحيط به إمكانية "طريق ثالث" بين الرأسمالية العالمية الحالية واشتراكية الأمس المنبوذة. وهذا الطريق الثالث، كما يناقش جوزيف ستجلز وأنطوني جيدنز، قد يمثل مساراً بين حرية الأسواق من جهة والتخطيط المركزي من جهة أخرى.
لكن فالرشتاين لا يقدم حلولاً جاهزة، بل يدعو إلى التفكير النقدي والبحث المستمر عن بدائل مبتكرة. ويؤكد على أن المستقبل مفتوح على جميع الاحتمالات، وأن النضال من أجل التغيير مستمر ولا يتوقف. إنه يدعو إلى بناء تحالفات جديدة بين مختلف القوى التقدمية، من أجل مواجهة التحديات العالمية المشتركة. ويرى أن النضال السياسي في القرن الحادي والعشرين يجب أن يركز على تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وليس فقط على تغيير الحكومات.
يحلل فالرشتاين بعمق إخفاق اليسار العالمي في تحقيق التغيير المنشود، ويرجع ذلك إلى تبنيه الأيديولوجيا الليبرالية، حتى في أكثر صيغها "الثورية" كـ اللينينية. ويؤكد على ضرورة فهم حقيقة ما حدث بين عامي 1789 و1989، لكي يكون هناك مشروع تحرري مقبول في القرن الحادي والعشرين.
يقدم كتاب "بعد الليبرالية" تشخيصاً عميقاً لأزمة حضارية شاملة تتطلب إعادة التفكير في الأسس التي تقوم عليها مجتمعاتنا. فالرشتاين لا يكتفي بنقد الليبرالية والكشف عن تناقضاتها، لكن يدعو إلى البحث عن بدائل جديدة تتجاوز الليبرالية والاشتراكية التقليدية، وتأخذ في الاعتبار التحديات البيئية والاجتماعية والثقافية التي تواجه البشرية.
الأزمة الحالية، كما يؤكد فالرشتاين، ليست مجرد أزمة اقتصادية أو سياسية، بل هي أزمة نظام عالمي بكامله، أو بمعني آخر هي أزمة حضارية تمسك بتلابيب العالم. والنظام الرأسمالي، القائم على التراكم اللامحدود لرأس المال، لم يعد قادراً على الاستمرار في ظل التناقضات التي يواجهها، من أزمات بيئية إلى تفاقم الفوارق الطبقية والاجتماعية، إلى تدهور الأمن الاجتماعي والإنساني.
عالم ما بعد الليبرالية، كما يتصوره فالرشتاين، لن يكون بالضرورة عالماً أفضل، ربما يكون عالما يحمل في طياته إمكانيات متعددة، بعضها أكثر قتامة وبعضها أكثر إشراقاً. والمهمة الملحة اليوم هي المشاركة في تشكيل هذا المستقبل، وعدم ترك الساحة لقوى الهيمنة القديمة أو لقوى ظلامية جديدة لتحديد معالمه. فكما يقول فالرشتاين: هنالك شيء ما سيبنى. وإذا لم نشارك في هذا البناء فإن الآخرين سيحددونه لنا.
المهم أن تحليل فالرشتاين، رغم أنه قد يبدو متشائماً للبعض، إلا أنه في جوهره دعوة إلى التفاؤل الحذر، وإلى الإيمان بإمكانية بناء عالم أفضل وأكثر عدلاً. إنه يذكرنا بأن التاريخ لم ينته، وأن المستقبل لا يزال مفتوحاً أمام إرادة البشر وقدرتهم على الخلق والابتكار. وهذا ربما هو أعظم إرث فكري يتركه لنا إيمانويل فالرشتاين في كتابه هذا.
***
د. عبد السلام فاروق






