قراءة في كتاب

عبد السلام فاروق: اللامنتمي وما بعد اللامنتمي

قراءة نقدية في مشروع كولن ويلسون الفلسفي

أحد أكثر الظواهر إثارة للجدل في الفكر الفلسفي والأدبي الحديث هي ظاهرة "اللامنتمي" التي تناولها الكاتب البريطاني كولن ويلسون في كتابه الشهير الصادر عام 1956، عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره فقط. هذا الكتاب الذي وصفه النقاد بأنه "أعظم كتاب في التحليل النفسي صدر في أوروبا منذ كتاب سقوط الغرب لاشبنجلر" ، يمثل علامة فارقة في فهم الشخصية الوجودية التي تعيش على هامش المجتمع، والتي ترفض الانصياع للقيم الجاهزة والمفاهيم المسبقة. لكن ما يثير الدهشة أكثر هو استكمال ويلسون لهذا المشروع بكتاب "ما بعد اللامنتمي" الذي يمثل محاولة جريئة لتجاوز المأزق الوجودي نحو رؤية أكثر إيجابية للحياة.

 تحليل مفهوم اللامنتمي

يبدأ ويلسون تعريفه للامنتمي بمقولة صادمة: "اللامنتمي هو مشكلة اجتماعية، إنه الرجل الموجود في الحفرة". هذا التعريف لا يصور اللامنتمي كمريض نفسي أو معتل اجتماعياً، بل كشخص يمتلك حساسية مفرطة تجاه تناقضات الوجود وعبثية الحياة اليومية. اللامنتمي عند ويلسون هو ذلك الإنسان الذي "يدرك ما تقوم عليه الإنسانية من أساس ضعيف"، وهو ليس شخصاً مختل عقلياً، لكنه يتمتع بحساسية أكثر من المتفائلين أصحاب العقول.

من خلال تحليل دقيق، يعرض ويلسون حياة وأعمال عدد من الأدباء والفلاسفة الذين يجسدون هذه الشخصية، مثل دوستويفسكي وكافكا ونيتشه وكامي وسارتر وفان جوخ. هؤلاء جميعاً يشتركون في رؤية العالم كـ"عالم معقول فوضوي، وليس منظماً جوهرياً"، وهذه النظرة هي التي تجعلهم أكثر عمقاً في فهم الواقع من الآخرين الذين ينشغلون دائماً بتفاصيل الحياة اليومية.

 الأبعاد الفلسفية للامنتمي

ينطلق ويلسون في تحليله من منظور وجودي واضح، حيث يرى أن اللامنتمي "يميل إلى التعبير عن نفسه من حيث الوجودية، إنه لا يهتم بشدة بالتمييز بين الجسد والروح، أو الإنسان والطبيعة، فهذه الأفكار تنتج التفكير اللاهوتي والفلسفة، فهو يرفض كليهما". بالنسبة للامنتمي، فإن التمييز الوحيد المهم هو بين الوجود والعدم، وهو تمييز يضع الإنسان أمام مسؤولية اختياراته المصيرية.

لكن ويلسون ينتقد بعض التوجهات الوجودية، خاصة تلك التي تميل إلى العبثية والعدمية. فهو يرى أن "جو الوجودي اللامنتمي غير صحي للتنفس، هناك شيء ما من الغثيان المعادي للحياة". هذا الموقف النقدي يجعله يختلف عن سارتر وكامو في بعض النقاط الجوهرية، رغم تأثره الواضح بهما.

إذا كان كتاب "اللامنتمي" قد ركز على تشخيص الحالة الوجودية للإنسان الحديث، فإن كتاب "ما بعد اللامنتمي" يمثل محاولة للخروج من هذا المأزق. هنا ينتقل ويلسون من مرحلة التشخيص إلى مرحلة العلاج، حيث يحاول أن يقدم رؤية أكثر إيجابية لإمكانيات الإنسان.

في هذا الكتاب، يستعرض ويلسون أفكاراً فلسفية متنوعة، من الظاهراتية عند هوسرل إلى الفلسفة العضوية عند وايتهيد، محاولاً بناء جسر بين الوجودية والتصوف، بين العقل والحدس. يكتب أحد القراء على جود ريدز: "ما بعد اللامنتمى لا يزال حتى الآن حتى يومنا هذا واحدة من أفضل كتب الفلسفة فى المستقبل التى كتبها كولن ولسون لأنها مكتوبة بطريقة بسيطة جداً وغرس فيها الكاتب 20 عاماً من التفكير".

 النقد والجدل حول أفكار ويلسون

لم تخل مسيرة ويلسون الفكرية من الجدل والنقد الحاد. بعض النقاد اتهموه بالفاشية والنخبوية المتطرفة، مستشهدين ببعض أقواله التي تمجد "الإنسان المتفوق" وتحتقر "البشر الضئيلين". في يومياته كتب ويلسون: "لقد غرق البشر الضئيلون عميقًا في الدناءة لدرجة أنه سيكون من المؤلم لهم أن يعالجوا أنفسهم؛ إنهم يجثمون حول النار مثل معاقين، العالم الخارجي يجعلهم ينكمشون خوفًا".

كما تعرض ويلسون لانتقادات بسبب تغيره الفكري الملحوظ من الوجودية إلى ما يسمى "بالواقعية الجديدة"، ثم اهتمامه لاحقاً بالموضوعات الميتافيزيقية والسحر والتنجيم. بعض النقاد رأوا في هذا التغيير علامة على عدم الاتساق الفكري، بينما دافع آخرون عن حق ويلسون في التطور وتوسيع آفاق بحثه.

 تأثير ويلسون في الثقافة العربية

كان للترجمات العربية لكتب ويلسون، خاصة "اللامنتمي"، تأثير كبير على المشهد الثقافي العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. كما يشير غالي شكري: "ما إن ترجم كتابه «اللامنتمي»، الصادر عام 1956، حين كان ويلسون في الرابعة والعشرين من العمر، إلى العربية في منتصف ستينيات القرن الماضي عن دار «العلم للملايين» حتى أحدث دوياً هائلاً. فنفدت الطبعة الأولى سريعاً، وهو أمر نادر آنذاك، وتوالت الطبعات منه".

هذا التأثير يمكن تفسيره بملاءمة أفكار ويلسون للجو الثقافي العربي في تلك الفترة، حيث كانت الأسئلة الوجودية حول الحرية والانتماء والاغتراب تحتل مركز الصدارة في النقاشات الفكرية.

 "التاريخ الإجرامي للجنس البشري"

في إطار حديثنا عن ترجمات أعمال ويلسون إلى العربية، لا يمكن إغفال دور المترجم المصري الدكتور رفعت السيد الذي نقل العديد من أعمال ويلسون إلى العربية، ومنها كتاب "التاريخ الإجرامي للجنس البشري". هذا الكتاب الذي ألفه ويلسون "عقب حملة من مثقفي الميتافيزيقا، وهواة العمق الزائف، وفضح فيه الضعف البشري، وكيف أن البشرية منذ بدء الخليقة تراوح بين قطبي رحى هما الإبداع والتدمير".

لقد وصفت الدكتور رفعت السيد قائلا: "لا أرى رفعت السيد إلا راهباً، يؤمن باختياراته ورؤاه، يقرأ ويكتب ويترجم كأصحاب الرسالات، كمصري لم يتلوث انتماؤه بغير مصريته، وطناً أو فكرة أو شخصاً". هذا الوصف يعكس الجدية والعمق الذي تميزت به ترجمات السيد لأعمال ويلسون، مما ساهم في نشر أفكاره في العالم العربي.

ميراث ويلسون الفكري

رغم كل الجدل الذي أحاط بأفكاره، يبقى كولن ويلسون واحداً من أكثر المفكرين إثارة للاهتمام في القرن العشرين. مشروعه الذي بدأ بـ"اللامنتمي" واكتمل بـ"ما بعد اللامنتمي" يمثل رحلة فكرية فريدة من التشاؤم الوجودي إلى التفاؤل الإرادي، من العبث إلى البحث عن المعنى، من الغربة إلى محاولات المصالحة مع الوجود.

السؤال الآن هو: ماذا سيبقى من الرجل؟ أننا نري أن كتاب «اللامنتمي» سيبقى طويلاً، فالمشكلات الوجودية والاجتماعية والثقافية، التي عالجها ويلسون مستعينا بعلم النفس والفلسفة وكم هائل من القراءات الروائية، والسير الذاتية، كالذات والآخر، والعزلة والانتماء، والقلق والوجود، وحرية الاختيار، والحب والجنس، وهي موضوعات كبرى شغلت الإنسانية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، لا تزال تشغلنا لحد الآن، وستظل تشغلنا طويلاً".

في النهاية، يمكن القول إن قيمة أعمال ويلسون تكمن في قدرتها على تحفيز القارئ على التساؤل والبحث، على مواجهة الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعنى دون خوف أو مواربة. وهذا بحد ذاته إنجاز لا يستهان به في عصر طغت عليه المادية والسطحية.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم