قراءة في كتاب

علاء اللامي: جولة في كتاب "الأدب الشعبي العراقي" لماجد شبر

هل كتب صفي الدين الحلي شعرا شعبيا عراقيا قبل سبعة قرون؟

واحد من الكتب المهمة الذي قرأته عدة مرات ولكني للأسف لم أنتبه لأهميته وعلاقته باللهجة العراقية حين عكفت على تأليف معجمي "معجم اللهجة العراقية: الجذور العربية الفصحى والرواسب الرافدانية"، هو كتاب الباحث ماجد شبر " الأدب الشعبي العراقي".

وقد تأكدت من هذه الحقيقة حين تصفحت قبل أيام نسخة قديمة بحوزتي من الكاتب وهو في مكتبتي الشخصية منذ أكثر من عشرين عام - الكتاب صدر سنة 1995 – وكنت قد كتبت عنه شيئا متعلقا بأنواع المواويل العراقي وأصل تسميتها من قبل.

تفاجأت هذه المرة، وكأنني أقرأ الكتاب للمرة الأولى، بقول الأستاذ شبر  في المقدمة: "لقد لاحظت خلال دراستي للأدب الشعبي، أن اللغة العامية المستعملة هي في غالبيتها عربية فصحى لدرجة لا تصدق، حتى أنني أصبحت على يقين أن معظم الكلمات العامية هي فصحى أساساً إلا ما احتوت على أعجمية أو ما خلا ذلك ... لقد عاش العراق تحت نير الاستعمار المباشر مدة تزيد عن 700 عام، وقد ساهمت هذه الفترة في دخول الكلمات التركية والفارسية والهندية والإنكليزية والمغولية على خط اللغة العربية... أما الريف العراقي فقد ظل متمسكاً بالكلمات العربية ولم تستطع الكلمات الأجنبية التغلغل داخل مفردات كلامه. ص 12". كما استشهد المؤلف وهو فراتي المنشأ والبيئة بمقولة للباحث د. مصطفى جواد وجعلها ترويسة لمقدمة كتابه قال فيها جواد: "إن الشعر العامي العراقي قديم قدم اللغة العربية".

وهذه هي الفرضية التي انطلقت فيها في تأليف معجمي السجالي للرد على من حاول أن يُخْرِجَ من اللهجة العراقية ألف كلمة تقريبا ويزج فيها في معجمية أخرى هي معجمية اللهجة المندائية من اللغة الآرامية الشقيقة للعربية. إذن، هو "الحافر على الحافر" كما قال العرب القدماء في وصف هكذا مواقع للتطابق.

المفاجأة الثانية بالنسبة لي شخصيا في هذا الكتاب فهي نموذج من الشعر الشعبي العراقي أورده المؤلف وكان لشاعر الفصحى الشهير صفي الدين الحلي -أبي المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن نصر الطائى (1277 – 1339 م) -  صاحب القصيدة الشهيرة والتي استُمِدَت منها وفق بعض التفسيرات ألوان علم الثورة العربية ضد العثمانيين والذي أصبح لاحقا علما رسميا لعدة دول عربية وهي القصيدة المعنونة "سَلي الرماح العوالي" وفيها قال:

سَلي الرِماحَ العَوالي عَن مَعالينا

وَاِستَشهِدي البيضَ هَل خابَ الرَجا فينا

*

بيضٌ صَنائِعُنا سودٌ وَقائِعُنا         

خُضرٌ مَرابِعُنا حُمرٌ مَواضينا

إن معنى أن يوثق المؤلف شعرا شعبيا للحلي من القرن الثالث عشر الميلادي أي قبل أكثر من سبعة قرون هو أن هذا الشعر ليس ابن يومه وليلته بل هو عريق وله تراث عميق الجذور في التربة الاجتماعية والثقافية العراقية. وفي تأصيله لبدايات هذا الشعر وخاصة من نوع الموال يعود المؤلف به إلى عصر الخليفة العباسي الرشيد مستشهدا بما قاله المؤرخ القديم السيوطي في كتابه "شرح الموشح". فبعد أن بطش الرشيد بوزرائه العجم البرامكة أصر على أن يرثي وزيره جعفر فرثته جارية له بشعر عرف فيما بعد المواليا ومنه جاءت كلمة "موال".

نعود لواحد من المواويل الذي كتبه الحلي وأورده المؤلف شبر لنجد أنه كتب بلهجة هي وسط بين الفصحى والعامية بل هو إلى الفصحى المقولة بالنحو الساكن أقرب، ربما باستثناء تخفيف الهمز وجعله ياء أو مدا طويلا (رأيت – ريت) وكتابة الكاف بشنشة ربيعة جيما ثلاثية (چ)، ولفظ القاف حميرية أو جيما قاهرية (گ). قال:

قالت وقد طاولت أمر وبان القدر

وجه لها من الدجى يخجل بنوره البدر

ماريت ملاح مثلك حاز هذا الفخر

تجدف بخن السفينة وأنت فوگ الصدر

*والخن هو باطن السفينة، وماتزال هذه الكلمة العربية الفصحى مستعملة كما يقول المؤلف في الفرات الوسط والجنوب العراقي. وأضيف أن هذا الموال كان من النوع البسيط وأقرب إلى الرباعي وقبل أن يتطور الموال العراقي ويتنوع إلى الرباعي والأعرج والنعماني والزهيري....إلخ،  وهذا الأخير –الزهيري - هو أشهر وأجمل وأعقد الأنواع. ومن أشهر ما قيل فيه موالان الأول لعبد النبي العماري المجراوي والموال الجواب/الرد لابنه الشاعر مطشر العماري المجراوي.

قال عبد النبي العماري المجراوي:

يا صاح جرح الگلب حاير أنه بلحمته

وْثوب التهاني رِگد مبتوت من لحمته

غم الرجل لو رجه نوالات من لحمته

يا صاحب الروح بعنان الصبر عِنها

ولبيوت الاجواد لا تلزم رسن عنها

لاجن بدت مسأله وارد اسالك عنها

لو يسمن الكلب، گل لي تنوكل لحمته؟

وفي رواية أخرى للبيت: گل لي الچلب لو سمن هم تنوكل لحمته

فأجاب مطشر المجراوي على موال والده، قال:

رْداي ثوب الصبر وعلى النوايب جَلد

وْللي نخاني أطيحن دوم جلد وْجِلد

أطعن گلوب العِدا وبالروس أجلد جَلد

واعتني الزينات في سابع سمه لو سمن

ولر گاب الأنذال أنه مشتري لو سمن

يل گلت لحم الچلب من ياكله لوسمن

هل يوم أكو أنذال تاكل لحمته والجلد

وقد أخذت الموال الثاني من مصادر أخرى وأوردت أحد الأبيات من الأول بصيغتها الأشهر.

*خاتمة: اليوم أيضا، وفي كل مرة أتصفح فيها هذا الكتاب الثمين وأصل إلى الصفحة 147، أشعر بتأثر عاطفي عميق حين أقرأ الحوار الشعري بين الشاعرة فْطيمة آل علي الظالمية وأخيها. والقصة باختصار؛ إن أخاها ذهب الى القتال مع ابنها في معركة جسر السوير ضد العدو البريطاني في ثورة العشرين 1920، ولكن الخال عاد ولم يعد معه ابن اخته فطيمة وحين سألته عن ابنها قال لها شعرا:

* چن لا هزيتِ وْلوليتِ.

أي: وكأنك لم تهزي مهده وناغيتيه طفلاً أي إنه قد استشهد في المعركة!

فردت الشاعرة عليه قائلة: هزيت ولوليت لهذا!

وبعد، ما الذي فعله ساسة الطوائف والعرقيات الفاسدون من حلفاء الاحتلال الأميركي بمجتمعنا حين دفعوا به إلى دهاليز التخلف والظلام والوحشية التخندق الطائفي، حتى لم يعد الكثيرون يهتمون بانتهاك سيادة بلادهم واستقلاله ولسرقة ثرواتهم نهارا جهارا؟!

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم