قراءة في كتاب
محمد آيت بود: قراءة في كتاب الأمير لـ نيقولا مكيافيللي
يعتبر كتاب الأمير- Le Prince لـ "نيقولا مكيافيللي" الكاتب الإيطالي الشهير، من بين الكتب الأكثر أهمية في علم السياسة، ليس لأنه وضع فيه خارطة طريق الحكم الجيد أو الإمارة القوية المستمرة في الزمان والمكان، بل لكونه قام بوصف واقع السياسة الذي يعتمد على الدينامية والتفاعل والمصلحة أكثر من ِاعتماده على النوايا الحسنة والمبادئ الأخلاقية، وبهذا فقد قام مكيافيللي في هذا الكتاب برسم مسافة واضحة بين السياسة والأخلاق، باعتبار أن السياسة تعتمد على حسن فعل الأمير وليس على فعل الخير؛ كونها تهدف إلى الحفاظ على الحكم والإمارة وحماية مصالح الأمير وليس إلى زرع الخير والفضيلة؛ إذ لا يمكن لأي ملاحظ أن يخطئ إذا لاحظ وجود علاقة " صداقة استثنائية " بين صاحب كتاب: " الأمير" وبين الحكام الطغاة والمستبدين؛ ولا يمكن لأي قارئ لهذا الكتاب المؤسس للسياسة الواقعية " الميكيافلية " أن يتجاهل مدى العلاقة الحميمة التي توجد بين هؤلاء.
لقد كتب مكيافيللي كتاب الأمير وأهداه لحاكم فلونسا من آل ميديتشي الذين حكموا فلونسا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر الميلادي " الأمير لورينزو دي ميديتشي"، طمعا في إعادته إلى منصبه الذي فقده بعد سقوط آل البوربون و سيطرة (آل ميديتشي) على فلونسا وطرد آل البوربون الفرنسيين منها الذين كان مكيافيللي يشتغل لحسابهم في منصب سكرتير للمستشارية الثانية وهي تشرف على الشؤون الخارجية والعسكرية؛ وقد قام مكيافيللي في هذا الكتاب بجمع خلاصة تجربته السياسية إبان عمله كموظف سام في ولاية آل البوربون، وضمنه مجموعة من النصائح التي على الأمير أن يلتزم بها إذا أراد الحفاظ على سلطته وإمارته وحكمه، وإن كان نقاد هذا الكتاب زعموا أن مكيافيللي قام بتكريس مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " المرادفة لمعاني الإنتهازية في أقبح صورها، غير أن مكيافيللي في الحقيقة لم يقم سوى بنقل الواقع السياسي بأمانة علمية، وذلك من خلال الفصل التام بين السياسة والأخلاق، وتعرية أخلاقيات السياسة، خاصة أخلاقيات الطغاة والمستبدين، وتقديمها كوصفة جاهزة لمن أراد البقاء في الحكم والسلطة لمدة طويلة.
ومن ببين أبرز النصائح التي أسداها الكاتب للأمير:
1- توطيد أركان الحكم بالقوة والدهاء السياسي:
يعتمد الكثير من الحكام المستبدين في توطيد أركان حكمهم كثيرا على نصائح صديقهم مكيافيللي، وهذا الأخير قدم لهم نصائح من ذهب فيما يخص هذه الجزئية الهامة جدا، فتوطيد أركان الحكم حسب مكيافيللي يحتاج إلى أن تتوفر في الأمير خصال وأن يقوم بأعمال من أجل تحصين حكمه من طمع الطامعين، ومن بين هذه الخصال عدم الإعتماد على النوايا الحسنة وحسن الطالع؛ لأنهما لا يستمران طويلا ولا يبقيان ثابتين، لأن طبيعة البشر متقبلة ومن السهل تحفيزهم لشيء ما ولكن من الصعب استمرار هذا الحافز، لهذا يجب استعمال القوة معهم لردهم إلى الإيمان الذي ارتدوا عنه، ومن الأعمال التي يجب عليه القيام بها عدم السعي إلى تقوية الآخرين والقيام بإضعاف الأقوياء وتقريب الضعفاء دون منحهم أي امتياز، والإعتماد على السلاح وإضعاف الأحزاب وتوحيد الجميع تحت صف الأمير أو الحاكم، وتوليتهم أعمالا كل حسب قدره، والبطش بالزعماء وعدم الوثوق بالذين ساعدوه للحصول على الحكم أو الإمارة لأنهم مهما بلغوا من الإخلاص له سوف يطمعون يوما ما في منازعته إمارته، لأن طبيعة البشر ميالة للطمع فيما في أيدي الآخرين، واللجوء إلى الخداع وإخفاء النوايا والأغراض الحقيقية جيدا، وتوطيد أركان حكمه بالقوة والخديعة، وأن يسحق كل من يستطيع أن يؤذيه أو من الممكن أن يؤذيه، ويجب عليه أن يقوم بتوزيع المزايا على الرعايا جرعة جرعة حتى يستمتعوا بها ويشعروا بفائدتها، واستخدام القوة عند وقوع طارئ يهدد حكمه أفضل من فعل الخير الذي لن يجني من ورائه أية فائدة لأنه سيؤخذ على أنه اِضطرار وليس ناتجا عن الأخلاق الحسنة، وعليه أن يكون صارما وشفوقا في نفس الوقت كريم الخصال واسع المدارك، وأن يحافظ على صداقته مع الملوك والأمراء بطريقة تسعدهم إذا فعلوا ما يفيده وتخيفهم إذا ناله منهم مضرة.
2- التخلص من الخصوم والمنافسين:
في كل إمارة لابد أن تجد الشعب وطبقة الأرستقراط (الأغنياء)، والشعب يريد العدل في حين تميل الأرستقراطية إلى العنف من أجل حماية مصالحها، وهي تدعي حماية الأمير من أجل الحفاظ على مكانتها وحماية ممتلكاتها، والأمير ضمن هذه الخطاطة بحاجة إلى الولاء، ولأن المواطنين لن يستطيعوا طاعة أوامره في حالة الطوارئ وهم ألفوا تلقي الأوامر من الولاة، فالأمير في الظروف الصعبة بحاجة إلى رجال يمكنه الإعتماد عليهم، وعليه كذلك أن يبحث دائما عن وسائل تجعل الشعب في حاجة مستمرة إلى حكومته وسيخلصون الولاء له دائما.
وعلى الأمير أن يعرف من بين رجاله من هم الأخيار حتى يوظف خيرتهم ومن هم الأشرار حتى يتقي شرهم، وخصوصا من بمقدورهم التحول إلى خصوم أو منافسين عندما يشعرون أنهم أقوياء أو عندما يشعرون أنهم محميون من الخارج، لذلك فعلى الأمير أن يحتاط من الإثنين معا أي من الأخيار والأشرار، لأن الأخيار يمكن أن يتحولوا إلى متحالفين مع الأشرار عندما يشعرون بضعف الأمير وقوة الآخرين، وعلى الأمير ألا يتساهل أبدا ومهما كانت الظروف مع أي خيانة من أي جهة كانت، سواء من الأخيار أو من الأشرار، وعليه أن يكون صارما وحازما في أوقات الشدة، ولينا متسامحا في أوقات الرخاء، حتى يظهر بمظهر الحاكم العادل، لأن طبيعة البشر تميل إلى الخوف من الأمير القوي الذي لا يغفر الذنوب والزلات، وليس إلى الأمير المتسامح والغفور، وعلى الأمير أن يسعى دائما لأن يوصف بالرحمة وليس الشدة وأن يحرص على عدم إساءة استخدام الرحمة بأي حال من الأحوال، يجب على الأمير أن يحرص على أن يكون مهابا ومحبوبا في نفس الوقت، لأن من صفات البشر أنهم ينكرون المعروف وتتقلب مشاعرهم بين الحب والكراهية، فلو كان الأمير مهابا خافوا منه ولن يستطيعوا الإضرار بمصالحه، ثم لأن البشر يترددون في الإساءة إلى من يحبون أقل من ترددهم في إيذاء من يهابون، وذلك لأن الحب مرتبط بسلسلة من الإرتباطات التي تتفكك عندما تؤدي غرضها، وذلك بسبب أنانية الناس، لكن استخدام المهابة والخوف من العقاب طريقة صحيحة لا تفشل أبدا.
3- توظيف الدين في السياسة:
يتعين على الأمير الذي يرغب في ربط أواصر من الود مع شعبه أن يدين بدينه، وليس هذا فحسب بل عليه أن يظهر كل الإحترام والتبجيل الواجب للدين ورجال الدين، وأن يرفعهم إلى مكانة مرموقة والحفاظ على مكاسبهم الدنيوية ومنحهم الإحترام الواجب، ومن المفيد جدا توظيف الدين في السياسة؛ وذلك من خلال جعله يساهم في تقوية أركان الإمارة، بحيث يقوم الأمير في المناسبات الدينية بالظهور بمظهر المتدين وعليه أيضا أن يوظف الخطاب الديني في توطيد أركان حكمه والحرص جيدا على ألا يتناقض سلوكه مع مضمون وجوهر الدين، وأن يظهر بمظهر المدافع عن حوزة الدين ضد التيارات الإلحادية والتشكيكية، ولكن عليه في نفس الوقت ألا يترك المجال للآخرين من أجل استغلال الدين والخطاب الديني لبلوغ أهداف سياسية، وعليه أن يقطع عليهم الطريق بصرامة، لأن من شأن ذلك أن يدغدغ عواطف البسطاء من الناس وهم الغالبية العظمى من الشعب باسم الإصلاح أو ماشابه ذلك، فينقلبون على الأمير.
4- إستعمال المرتزقة:
من الأهمية بمكان وجود الدعائم التي تمكن من توطيد أركان الحكم، ومن بين هذه الدعائم كذلك؛ القوانين الجيدة والأسلحة الجيدة، وفي واقع الأمر لا توجد قوانين جيدة بدون وجود أسلحة جيدة، والأسلحة التي يدافع بها الأمير عن ممتلكاته إما أن تكون أسلحته الخاصة أو أسلحة لقوات مأجورة أو أسلحة حلفاء له أو أسلحة مختلطة.
فأما فيما يخص أسلحة المأجورين فهي بلا فائدة وخطرة، ولا يمكن التنبأ بما يحدث منها، لأنها قوات مفككة ولها مطامع خاصة، وهي غير نشطة ولا عهد لها، وهي تبدو قوية أمام الأصدقاء لكنها جبانة عند مواجهة الأعداء، وليس لهم أي دافع للبقاء في الميدان سوى الأجور الزهيدة التي لا تجعلهم على استعداد للموت من أجل الأمير.
وأما ضباط المرتزقة؛ فإما أن يكونوا أكفاء أو غير أكفاء، فإذا كانوا أكفاء فلا يمكن الإعتماد عليهم؛ لأنهم يثبتون أنهم عظماء إما بابتزاز الأمير أو بالضغط عليه في غير صالحه، أما إذا كانوا غير أكفاء فإنهم يدمرون الأمير تماما، ولكن يمكن استعمال المرتزقة في الحروب القذرة والتي تدار رحاها بعيدا عن أرض الإمارة، فإذا انتصروا لم ينقلبوا على الأمير وإذا انهزموا لم يضر ذلك الأمير في شئ.
وأما القوات المعاونة أو قوات الحلفاء والجيران والقوات الوطنية ؛ أي القوات المختلطة فهي عديمة النفع مثل المرتزقة وهي أيضا مصدر خطر على من يستعيرها، لأنها إذا خسرت المعركة فإنها تكون قد هزمت الأمير، أما إذا كسبتها فان الأمير سيضل أسيرا لتلك القوات.
وعلى من يريد أن ينتصر ألا يعتمد على هذه القوات التي تزيد خطورتها قليلا على قوات المرتزقة، فوجودهم سيجلب خرابا شاملا على الأمير، ذلك لأن ولاءهم ليس ثابتا بل متغير حسب المصلحة، فإذا كانت قوات المرتزقة تحتاج إلى وقت وفرصة مناسبة من أجل الإضرار بالأمير، بحكم أنها مرتبطة به و تتسلم رواتبها منه، فإن القوات المختلطة يمكن لها أن تضر بالأمير بسرعة، لأن خطورتها تكمن في شجاعتها وسرعة تحركها في الميدان، بينما لا تتوفر هذه الخاصية لقوات المرتزقة.
يجب على الأمير أن يكون ملما بتاريخ وجغرافية بلده وأن يقوم بتنظيم قوات بلده بنفسه وألا يترك هذا الأمر لأحد، وإلى جانب القيام بذلك عليه أن يتفرغ للصيد باستمرار، فهو يعود جسده على المشقة والتعب، كما يجعله يدرس طبيعة البلاد في نفس الوقت، فيعرف أماكن الجبال والهضاب والوديان والأنهار والمستنقعات والمنحدرات والسهول، لأن هذه المعارف تعلمه كيف يلتقي عدوه وكيف يقيم المعسكرات؟ وأين يقيمها؟ وكيف يضع الخطط للمعارك؟ وكيف يحاصر المدن ويظفر بها؟
***
محمد آيت بود
باحث في العلوم السياسية