قراءة في كتاب
محمد الورداشي: قراءة في كتاب الكلام والخبر للدكتور سعيد يقطين
على سبيل التقديم: لقد كان، وما يزال، هاجس الدكتور سعيد يقطين في كتاب "الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي" هو بناء تصور نظري متكامل للسرد العربي القديم، بحيث يشمل جميع أجناسه وأنواعه وأنماطه المختلفة، وذلك من منطلق "السرديات" التي يعرفها بالقول: "إنها الاختصاص الذي أسعى إلى استنباته وبلورته بالاشتغال بالنص السردي العربي قديمه وحديثه"(1) لذلك ارتأى أن نقطة الانطلاق في تدشين أرض لا تزال بكرا رغم الجهود المبذولة من قبل الباحثين، ستكون هي السيرة الشعبية، واختيار هذه الأخيرة لم يأت بمحض الصدفة، وإنما لكونها ذات خصوصية؛ إذ نصها "تجسيد لمختلف التمثلات الوجودية والذهنية العربية، للذات والآخر"(2). فهي نص ينتمي إلى "قطاع واسع من الإنتاج الثقافي العربي الذي ظل مهمشا، ومغيبا من دائرة البحث والاهتمام"(3). هذا، علاوة على كونه نصا متفاعلا مع المجتمع العربي تفاعلا يوميا وتاريخيا، كما أنه نص منفتح على روافد أخرى للثقافة العربية.
أما فرضية الاشتغال على السرد العربي القديم متمثلا في السيرة الشعبية، فقد حصرها في فرضين؛ أولهما يتعلق بكونها "نوع(ا) سردي(ا) عربي(ا) له خصوصيته المميزة، وثانيهما كونها نصا ثقافيا متفاعلا مع انشغالات وهموم وتطلعات الإنسان العربي، ومن ثم نفي كونها " ملحمة، قصة بطولية...".
وهكذا، سنقف عند أهم القضايا التي تناولها الدارس في هذا الكتاب منطلقين من:
- تأطير: من أجل تصور متكامل لدراسة السرد العربي
ينطلق الدارس من القول "إننا، كما نفكر في ذواتنا نفكر في تراثنا وتاريخنا الحضاري والثقافي. وكما نقرأ ماضينا "نقرأ" مستقبلنا. وكما نفهم ذاتنا نفهم الآخرين حولنا"(4)، ليربط التفكير في التراث بالتفكير في أوضاع الذات العربية الراهنة والمستقبلية في علاقتها بهويتها وبالآخر. وأن هذا العكوف على دراسة التراث لا بد أن يبدأ "مما هو كائن بالقوة والفعل في واقع الحال"(5). كما أن التعامل مع هذا الكائن، أي تراث الماضي، لا ينبغي أن يكون من منطلق "التقديس واتخاذ موقع المدافع، أو على العكس من ذلك: عدم المبالاة أو الرفض"(6). فالتراث، في نظره، مثل ألبوم صور العائلة؛ إذ لكل فرد من أفرادها تصور وتأويل ونظرة لتلك الصور، وهكذا موقف دارسي التراث أمامه، فمنهم مقدس، ومنهم رافض له، ومنهم طرف ثالث يتخذ بين ذلك سبيلا...وهذا ما دعا الدارسَ إلى "اتجاه التفكير في إعادة النظر في تلك الصورة-التراث"(7). بيد أن هذه العودة للنظر في التراث "تنطلق من الأسس العلمية"(8). لكن ما مؤاخذات الدارسِ على التصورات السابقة؟ وبم تمتاز دراسته عن سابقاتها؟
يرى الدارس أن التصورات السابقة لم تتسلح بترسانة علمية تمكنها من تفكيك بنيات التراث العربي، كما أنها لم تكن مرتبطة ووثيقة الصلة بتطلعات الإنسان العربي المستقبلية. ومن ثم فإن الجواب عن السؤال الثاني نلمسه في قوله "نسعى إلى قراءة التراث بأدوات جديدة، وبأسئلة جديدة، وبوعي جديد، ولغايات جديدة"(9). فهذه القراءة تسعى إلى البحث في البعد السردي في التراث العربي، فما السرد من منظور يقطين؟ وما حده؟
ينطلق يقطين في تعريف السرد باعتباره "فعلا لا حدود له" من تصور رولان بارت له، فهو من منظور بارت موجود في كل مكان، في كل الأشكال التعبيرية المختلفة عبر العصور المتعاقبة. أما هدفه من دراسة السرد العربي فهو: دراسة السيرة الشعبية باعتبارها جزءا بغية الوصول إلى معرفة أعمق وأشمل بالتراث العربي من جهة، ومن ثم ستمكننا دراسة الجزء من ملامسة الكل الذي ينتمي إليه ملامسة حقيقية بسبب نوع الوشائج التي تربطه بذلك الجزء المدروس"(10) من جهة ثانية. وبالتالي؛ نتساءل: هل دراسة "سرديةِ" السيرة الشعبية كفيلة بأن تقدم لنا تصورا شاملا لهذا الكل "السرد العربي"؟ ما المقومات التي تجعل من السيرة الشعبية نموذجا مسعفا في تقديم إدراك حقيقي وعميق للكل؟ وما محل مقولة الاختلاف في المأثورات "السردية" العربية من تصور سعيد يقطين النظري؟
يقول موضحا أهمية دراسة الجزء "وبانطلاقنا من الجزء (النوع) تفصيلا وتحليلا، فإننا ننشد الكل (الجنس)، ونريد أن نلامس العام (التراث)"(11). وخصوصية السيرة الشعبية، حسبه، تكمن في كونها خطابا سرديا له مميزاته إن على المستوى الصرفي أو النحوي أو الدلالي. كما أنها نوع سردي يحوي مختلف الأنواع والأجناس التعبيرية (كالرواية التي تحفل بهذا التعدد الأجناسي والأنواعي والنمطي)، علاوة على كونها متعالية عليها.
وهكذا، سنجد الدارس يستلهم مفاهيم وتصورات السرديات الحصرية لجنيت؛ إذ يتجاوز الوقوف عند البنية النصية، وإنما ينتقل إلى التعالقات النصية داخل الجنس الواحد، فضلا عن التعالقات الأجناسية والخطابية المختلفة التي يتعالق معها النص السير شعبي. وفي هذا تتحرك دراسته بين البنيوية والسرديات المفتوحة. ولعل هذا الاختيار يعزى إلى طبيعة الموضوع الذي حدد المنهج. ومن ثم، فإن طبيعة موضوع الدراسة الكمية (عدد الصفحات التي يشغلها كل نص سير شعبي) دفعت الدارس إلى حسبانها ميزة للسيرة الشعبية تميزها عن باقي الأنواع السردية وغير السردية؛ ما دامت السرديات منفتحة" على السرد حيثما وجد، بسبب نوعية الترابط الحاصل"(12). لذلك يشير إلى مرجعيته النظرية التي تكونت لديه من خلال متابعته ومواكبته لكل ما استجد من اجتهادات في الأدبيات الأجنبية.
يُطرح، بهذا الصدد، تساؤل مفاده: هل سيتعامل الدارس مع هذه التصورات الأجنبية تعاملا حرفيا؟ وهل خصوصية الموضوع المدروس البنيوية والثقافية تستوعبها الاجتهادات الأجنبية؟ أم أن الباحث المغربي يتصرف في هذه التصورات: نقدا، وتفكيكا، وتحليلا وتثويرا وتعديلا، حتى تتلاءم مع طبيعة الموضوع وخصوصياته وسياقاته التاريخية والحضارية؟
يبدو جليا أن هناك اختلافا في تعامل يقطين مع التصورات الأجنبية؛ فلئن كانت السرديات البنيوية لا تبرح بنية النص، فإن تصوره لها يجعلها متفاعلة مع "نظريات النص" و"جماليات التلقي"، ومن ثم يضيف إلى تقسيمه إياها إلى: السرديات الحصرية (سرديات الخطاب)، والسرديات التوسيعية (سرديات النص)، تقسيما آخر من نوع "سرديات التفاعل النصي" و"سرديات التلقي"، ويتسع مجال الاشتغال في هذا الاختصاص ليشمل "السرديات الاجتماعية" أو "السرديات الأنتروبولوجية" أو "السرديات النفسية".
- الفصل الأول: النص واللانص في الثقافة العربية
يستهل الدارس هذا الفصل بمناقشة غموض مفهوم "التراث" مستبدلا إياه بمفهوم "النص"، ومرد ذلك، حسبه، إلى كون "النصية" خاصية جوهرية في النص ثابتة"(13)، كما أنها، من بين ما تتميز به، متعالية على الزمان وأن ما يتغير هو تجلياتها ومظاهرها المتفاعلة مع عنصر الزمان. وهنا نتساءل قائلين: التراث، من منظور الدارس، عام وشامل، ويضم كل ما هو مكتوب ومحكي، وقد يضم المعمار وغيره، ومن هنا طبيعته الفضفاضة بله ما يتحكم فيه من أدلوجات متباينة، ولكن هل استبداله ب"النص" يعني أن هذا الأخير يضاهيه في السعة والشمول؟ هل يمكن، مثلا، أن نقول "نص المعمار"، ونقصد بالمعمار هنا معناه المتداول، و"نص الآثار" و...؟
إن هذا الاستبدال بين المفهومين يحيل إلى محاولة تضييق التراث في بعده النصي الكلامي (مكتوب وغير مكتوب)؛ أفلا يخالف هذا ما ذهب إليه الباحث من أن النص "أقل إيحاء إلى البعد الزمني"(14)؟ وهل بمقدورنا عزل النص ونصيته وتجلياتها عن الزمن؟ هل "النصية" فعلا متعالية عن التغيير؟ أم أن تغييرها يكون عبر طفرات؟ عبر تحولات خفية لا تكاد تبين إلا وتختفي؟
ومن جهة أخرى، يضع الدارس مفهوم "الكلام" محل مفهوم "النص" نظرا لكون الأول واضحا وشبه محدد في الثقافة العربية النقدية القديمة. فما طبيعة هذا الكلام الذي يقصده الدارس؟ وما مدى إجرائيته؟ موضوعيته؟ وما حدوده وضوابطه؟
تتحكم في "النصية" التي تميز النص عن اللانص اعتبارات جمالية وثقافية اجتماعية، مما يشير إلى أن البعد الجمالي الفني في النصية لا ينفصل عن شروط وضوابط الثقافي الاجتماعي. وفي هذا السياق، تطرق الدارس إلى فرضية تحول اللانص إلى النص، لكنه لم يوضح، بشكل بين، عملية تحول "اللانص" إلى "النص"، ولا بأي مستوى تتم: هل على مستوى الشكل (التعبير) أم على مستوى المحتوى (المضمون)؟ ولئن كانت شروط النصية مرتبطة بالقيم الجمالية والثقافية السائدة في فترة ما، ومعنى هذا أن معايير النصية(15) تختلف في كل حقبة زمنية، فهل يمكن أن نعد ما كان نصا في القرون الهجرية الأولى "لا نصا" في حالنا الراهنة؟ بمفهوم النص المتداول في لسانيات النص؛ ومرد ذلك إلى التغيير الذي حدث في الفكر والذوق والثقافة والمجتمع في العالم العربي.
لكن "النص" في الثقافة العربية يكاد ينحصر في القرآن الكريم، باعتباره نصا نموذجا في المنظور العربي، قديما وحديثا، وهذا ما جعل المفكر المعاصر المصري، حامد نصر أبو زيد، في كتابه "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" يقرُّ أن الحضارة العربية حضارةُ نص، وذلك يعزى لمركزيته في الأدبيات الثقافية العربية والإسلامية.
- الفصل الثاني: السيرة الشعبية والبحث المحجوز
بدأ الدارس هذا الفصل بمناقشة أسباب ثلاثة مركزية أدت إلى إعادة النظر في السيرة الشعبية واتخاذها موضوعا للدراسة والبحث، ومن ثم تحولها من "اللانص" الذي قضى ردحا طويلا في الهامش المنسي إلى "النص" الذي يستأهل الاهتمام والبحث. لكن ما نلاحظه على هذه الأسباب المعروضة أنها ذات بعد أدلوجي (الرد على تهم المستشرقين للعرب) وسياسي (التحرر القومي، وبروز مفهوم "الشعب" مع ظهور الأحزاب...)، ولم تكن الأسباب فنية جمالية محضة، وإنما تظهر الأدبية على هامش اهتمامات الدارسين للسيرة الشعبية العربية للأسباب التي وقف عندها الدارس.
وفي سياق تحديد ماهية ونوعية السيرة الشعبية كما تعامل معها الدارسون العرب، أقر الدارس أن سبب الاضطراب والخلط في التسمية يعود إلى سياق التعامل مع السيرة، وهذا قد أكده من خلال الشواهد التي قدمها، لكنا نرى إلى أن هناك عاملا آخر قد ساهم بدوره في هذا التعدد إلى درجة الاضطراب في ماهية السيرة ونوعيتها هو عامل المثاقفة مع الغرب، فهذا الأخير لم تربطنا به علاقة الصراع وحدها، بل إن كل مستجد ظهر في الغرب، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، يدفع باحثينا ومثقفينا إلى التقوقع والانكماش على الذات والعودة إلى التراث بحسبانه، من منظورهم، ذلك المخزون الذي يضم كل ما قيل وما سيقال، لذلك نلفيهم كلما ظهر جنس أدبي حديث في الغرب عادوا إلى التراث ينبشون ليثبتوا أن العرب قد عرفوا هذا الجنس أو النوع أو النمط قديما، لذلك نجدهم يطلقون تسمياتٍ متعددةً على المدونات الأدبية العربية في كل مرحلة اصطدموا بالآخر (الغرب) ثقافيا. وهذا ما نجد الباحث قد خلص إليه: "لقد استخدمت السيرة الشعبية للبرهنة على أن التراث العربي "متكامل" يستوعب مختلف الأجناس الموجودة عند الغربيين، من جهة، وأن "الخيال" العربي لا يتضاءل عطاؤه أمام ما هو موجود في التراث الغربي"(16).
- الفصل الثالث: تساؤلات حول الكلام العربي
يقترح الدارس مفهوم "السرد العربي" بحسبانه "جنسا" تنضوي تحته الأنواع السردية التي أنتجها العرب قديما وحديثا. أما فيما يخص مفهوم "الأدب" فإنه يقر على أنه لم يكن مستعملا عند العرب باعتباره جنسا أكبر، وإنما كانوا يعدون "الكلام" جنسا جامعا لكل "الممارسات اللفظية الفنية"(17)؛ "من الخبر إلى السيرة الشعبية"(18). وبعد وقوف الدارس على نماذجَ من المؤلفات النقدية البلاغية والمصنفات الجامعة اللتين تعرضان إلى "الكلام" و"أقسامه" و"صفاته" يخلص إلى أن بناء تصور متكامل للكلام العربي لا مناص له من الاستفادة من هذين النوعين من المؤلفات فضلا عن التركيز على النصوص.
- الفصل الرابع: الجنس والنوع في الكلام العربي
يبسط الدارسُ، في هذا الفصل، تصوره النظري للإحاطة بالأجناس عامة، والكلام العربي خاصة، في شموليتها وفي بعدها الكوني. وذلك من خلال تصوره الثلاثي المفاهيم: "المبادئ"،"المقولات"، "التجليات". ف"المبادئ" عنده "هي الكليات العامة المجردة والمتعالية عن الزمان والمكان"(19).
يحصرها في ثلاثة مبادئ هي: أ. مبدأ الثبات الذي يعين على تحديد "العناصر الجوهرية"(20) في الشيء؛ ب: مبدأ التحول، ما يلحق "الصفات البنيوية للشيء"[1] التي تتحول "بفعل الشروط المحيطة بها"[2]؛ ج. مبدأ التغير، وهذا يتصل بطبيعة التغيرات التي تخضع لها الأشياء والظواهر في حقبة زمنية معينة فضلا عن تفاعله مع غيره من النصوص. ثم "المقولات" وهي "كليات من درجة ثانية ومتحولة. وأقصد بها مختلف التصورات أو المفاهيم التي نستعملها لرصد الظواهر ووصفها" (23).
وهذه المقولات الثلاث هي: أ.الثابتة (مبدأ الثبات)، ب.المتحولة (مبدأ التحول)، ج.المتغيرة (مبدأ التغير). وهكذا تكون الأولى مرتبطة ب"الجنس"، والثانية ب"النوع"، والثالثة ب"النمط". وبعد ذلك يتدرج ليربط هذه المبادئ والمقولات ب"التجليات" النصية، أو التحققات النصية، لتنقسم بدورها إلى:أ- تجليات ثابتة، والتي يحددها بما أسماه جنيت ب"معمارية النص" هذه المعمارية التي تتعالى عن الزمان والمكان وتحدد نوع النصوص المتفاعل معها، ومن ثم جنسيتها. ب- تجليات متحولة، وهي التي يحصرها في "التناص" بمختلف أشكاله، ومن خلال التفاعل النصي يحصل النص على "نصيته"، ما "يمكننا من خلال اعتماد قراءة تاريخية من خلال هذا التجلي النصي أن ننظر في التحولات النصية، وبالأخص على صعيد النوع"(24). ج- تجليات متغيرة، ويدخل فيها أنماط التفاعل النصي التي حددها جنيت: "المناص" ويتصل ب"المناصات الخارجية" (العنوان، الجنس...) مرتبطة ب"معمارية النص"، والتعلق النصي بين نصين أحدهما سابق والآخر لاحق، و"الميتانص" وهو المتعلق بالنص النقدي الواصف للنص الإبداعي، أو اللغة النصية الواصفة، وهذه التجليات "تأتي لاتخاذ موقف من النص بصورة من الصور"(25)، والتي يدرج ضمنها "المحاكاة"، و"التحويل"، و"المعارضة".
كانت للنقاد العرب القدماء اجتهاداتٌ في هذا الصدد في ظل ما سموه السرقات الشعرية بشتى أنواعها وتجلياتها في القصائد الشعرية لم يتطرق إليها الدارس.
فعن طريق هذه "المبادئ" و"المقولات" و"التجليات" يربط الدارس "الكلام العربي" بالتغير(النمط)، و"اللسان العربي" بالثبات (الجنس)، و"اللغة العربية" بالتحول (النوع). لكن لا ننس أن "الكلام" يتكون من"الجنس" و"النوع" و"النمط". وباستعمال مفهوم "الصيغة" (mode) الإجرائي كما وظفه جنيت يخلص الدارس إلى أن ل"الكلام العربي" صيغتين هما: القول والإخبار، وهما صيغتان مرتبطتان بزمن الكلام. وبما أن الدارس يرى إلى نسبية نظرية الأجناس، فإن تداخل النصوص العربية بأجناسها الثلاثة: الشعر، الحديث، الخبر، يمكن الحسم في جنسية كل نص وتصنيفه من خلال "اعتماد مبدأ الهيمنة، واشتغال الصيغتين (القول والإخبار)"(26).
وفي مساق الحديث عن "السرد العربي" باعتباره جنسا يضم أنواعا وأنماطا، ينطلق الدارس من "القصة" بحسبانها، في الخبر، متصلة بالثبات، والتحول يرتبط ب"الخطاب" بصفته طريقة تقديم القصة، وهذا التقديم يختلف باختلاف الأنواع. والتغير يتحدد ب"النص" ويقصد به الغايات والأغراض التي يتغياها مرسل الخطاب السردي.
- منهج الدراسة:
ونصل إلى الحديث عن المنهج المعتمد في هذه الدراسة، والذي يشير الباحث إلى أنه يتبنى "المواءمة العلمية" la partinene sientifique بين الذات والموضوع كما حددها كارل بوبر، ومن ثم نقضه "المواءمة الاجتماعية" التي يتحكم فيها البعد الأدلوجي وأبعاد أخرى. وهكذا يمكننا القول إن منهج الدراسة منهجٌ حجاجيٌّ يقوم على التحليل والنقد والمناقشة فالتركيب من خلال استخلاص النتائج التي يلمح إليها اختصارا في البدء.
- على سبيل الختم:
من خلال قراءتنا للدراسة نخلص إلى:
- نقد التصورات والدراسات السابقة التي اتخذت التراث العربي موضوعا لها؛
-توسيع مجال السرديات لتنتقل من طبيعة الخطاب "في ذاته" إلى النص بحسبانه متفاعلا مع نصوص أخرى، أدبية وغير أدبية؛
- فإلى جانب السرديات الحصرية والسرديات التوسيعية، هناك سرديات خاصة مرتبطة بالخطاب من حيث نوعيتُه وتاريخيتُه، وسرديات مقارنة "تسعى إلى البحث في التجارب السردية المختلفة باختلاف التجارب الإنسانية"(27). وأخرى عامة وهي المرتبطة بالنص، إلى جانب "سرديات التفاعل النصي" و"سرديات التلقي" و"سرديات اجتماعية، وأنتربولوجية ونفسية". وفي هذا المساق يوضح أن"تصور السرديات بهذا الشكل أملاه علي واقع النص السردي العربي، فهو من الغنى والتنوع بحيث لا يمكن لاختصاص واحد أن يقاربه في مختلف تجلياته"(28)؛
- أشار جنيت في مقدمة كتابه"الحكاية: خطاب في المنهج" إلى أنه سيجعل العام (النظرية) في خدمة الخاص (الرواية البروستية) مع إقراره بأن العام يكمن في الخاص، فضلا عن صعوبة الفصل بين هذين المستويين من التحليل. ولعل يقطين قد خالف هذا التصور في دراسته هذه؛ إذ إنه حاول، من خلال توسيعه لاختصاص السرديات، أن يجعل العام (التصور النظري) خادما ومطاوعا لطبيعة الخاص (السيرة الشعبية)، ويعزى هذا إلى كون إسقاط النظري على التطبيقي بمثابة اشتغال حرفي من جهة، وإلى كون الهم النظري والتنظيري محوريا لدى يقطين(29) من جهة ثانية؛
- اعتبار النص العربي "نصا أكبر، فهو كل متكامل"(30). وما يمكن وجوده من نصوص عربية فهي تجليات له، وأجزاء ليس بمقدورها منفردة أن تحدد هذا الكل. وبكونه كلا (غير قابل للتقسيم إلى "نص" ولا نص) يعطي للدارس مشروعية دراسة ما عدَّ مهمشا ومغيبا في التقاليد الأدبية النقدية والثقافية؛
- مناقشة المنهجية المتبعة في الدراسات والبحوث الجامعية وغير الجامعية العربية، واعتبارها غير متجاوزة لبنية تقليدية في البحث العلمي، كما أنها لم تخلُ من الطبيعة السجالية في دراستها للسيرة الشعبية؛
- التدرج في تشغيل المفاهيم الإجرائية: من "التراث" إلى "النص"، ومن "النص" إلى "الكلام" ومن "الكلام" إلى "الكتاب" ومن "الكتاب" إلى "المجلس" ومن "المجلس إلى "النص"؛
- حصر الكلام العربي في ثلاثة أجناس كبرى: الشعر، الحديث، الخبر؛ لأنها " تستوعب كل كلام العرب، وتبعا لذلك تغدو متعالية على الزمان والمكان"(31)، فضلا عن الوقوف عند "أنواع الخبر" و"أنماطه" ضمن المقولات والمبادئ.
***
محمد الورداشي
....................
- الإحالات والهوامش:
1- سعيد يقطين: الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي، المركز الثقافي العربي، ط1: 1997، ص22.
2- نفسه، ص9
3- نفسه ص8
4- نفسه ص15
5- نفسه ص16
6- نفسه ص 16.
7 - نفسه ص17.
8 - نفسه ص17.
9 - نفسه ص18
10 - نفسه ص20
11 - نفسه ص20.
12 - نفسه ص24.
13 - نفسه ص49.
14 - نفسه، ص48.
15- نجد معايير النصية لدى يقطين تختلف، بشكل من الأشكال، عن معايير النصية لدى المشتغلين بلسانيات النص"هاليداي ورقية حسن: الاتساق في اللغة الإنجليزية"، "فان ديك: النص والسياق"، "دي بوغراند: النص، الخطاب، الإجراء.. وفي هذا الكتاب حدد معايير النصية في سبعة معايير: الاتساق، الانسجام، المقامية، المقبولية..إلخ.
16 - الكلام والخبر، ص122
17 - نفسه، ص133.
18 - نفسه، ص136.
19 - نفسه، ص181
20 - نفسه، ص181
21 - نفسه ص181
22 - نفسه ص181
23 - نفسه ص182
24 - نفسه ص186
25 - نفسه، الصفحتان: 186-187
26 - نفسه ص193
27 - نفسه ص26
28 - نفسه ص32
29 - يُنظر الصفحة 33.
30 - نفسه ص65.
31 - نفسه ص194