قضايا

ليلى تبّاني: أَرْكيولوجْيا النفْسِ والخَطيئَة.. حَفْرِيَاتٌ في عالَمِ مَخْطُوطَاتِ الخَطَايَا

لقد اخترتُ لهذا المقال عنوان "أركيولوجيا النفس والخطيئة" لأنّ مخطوطات الخطايا ليست رواية تُقرأ شكليا، بل نصّ ينفتح على أعماق النفس البشرية كما لو كان طبقات جيولوجية مدفونة تحت ركام التجارب والآلام والرغبات. فكلّ مخطوطة، وكلّ باب، وكلّ شخصية، ليست سوى طبقة من طبقات هذا الوعي الإنساني الذي يحفر فيه برهان شاوي بأدوات الروائي والفيلسوف وعالم النفس. ومع تقدّم السرد، يتبيّن للقارئ أن شاوي لا يروي حكايات بقدر ما يمارس حفريات أنطولوجية تكشف جذور الخطيئة، وبنية الجرح القديم، وملامح الذات الممزقة بين رغبتها وقيدها. كاتبنا العارف الذي لا يكتفي بالكشف، بل يواصل الحفر، حتى يصل إلى أعمق ما يمكن أن يُسمّى النفس. ومن هنا بدت ملامح العنوان تكتمل وتلحّ على تصدّر المقال.

أجدني، وأنا أقترب من "مخطوطات الخطايا"، في متاهة من متاهات برهان شاوي، متاهة لا تُقرأ بقدر ما تُعاش، ولا تُدْرَك بقدر ما تُكْتَشَف طبقة بعد أخرى، كأنّ النص شبكة من المرايا التي تعكس القارئ بقدر ما تعكس العالم. وليس غريبا أن تكون هذه المتاهة بهذا العمق، فشاوي ليس مجرد روائي، بل كائن معرفي تَشَكَّل عبر ترحال طويل بين روسيا وألمانيا والعراق وأوروبا، درس السينما في موسكو وتعمّق في الإعلام في ألمانيا، وتمرّس في التاريخ والعلوم السياسية، وحمل معه إلى الكتابة إرثا من الترجمة عن الروسية والألمانية، وخبرة نقدية وجمالية وصوتا شعريا يمتدّ منذ شبابه. إنّه من أولئك الكتّاب الذين لا تتشكّل معرفتهم من الكتب وحدها، بل من الاحتكاك بالعالم والإنسان، من معايشة الروح في لحظات ضعفها وكبريائها، ومن الوعي بأنّ الأدب ليس حكاية تُروى، بل رؤية تُصاغ، وأن الرواية ليست قالبا، بل معملا لإعادة تشكيل الذات واللّغة والوجود. وبهذا المعنى، تدخل مخطوطات الخطايا في النبض العميق لمشروعه الروائي، ذاك المشروع الذي يمدّ جذوره في سلسلة المتاهات التي كتبها (متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة الأرواح المنسية، متاهة الأنبياء)… وهي أعمال لا تكشف عن عبقرية روائي فحسب، بل عن عقل فكّر طويلا في الإنسان، وحفر في طبقاته النفسية كما يحفر الطبيب الفيلسوف. هذا الكاتب الذي تنقّل بين لغات وثقافات وتيارات، يجمع في نصّه بين هلع دوستويفسكي، وحكمة كازانتزاكيس، وشكّ أوغسطين، وحَدْسِ المتصوفة، ولا أدرية الشاعر الفيلسوف،وعين السينمائي الذي يرى العالم بتتابع حادّ من اللّقطات والظلال.

من هنا ندرك أن "مخطوطات الخطايا" ليست رواية تُروى بل تجربة تُخاض. تبدأ بالانغماس في متاهة وجودية تسكنها ثنائية آدم وحواء، تلك الثنائية التي لم يخترها شاوي لأنّها دينية أو أسطورية، بل لأنّها البنية الأولى التي يمكن عبرها اختبار الوعي، وقياس جراحه، وفهم الخطيئة كمعطى وجودي لا كخطأ أخلاقي. فآدم عنده ليس فردا، بل نموذج للوعي حين يسقط وحين يحاول أن ينهض. وحواء ليست امرأة، بل معادلة للجرح والرغبة والاتهام، معادلة تُعيد إنتاج نفسها مع كل مجتمع يُحمّل الجسد الأنثوي خطايا العالم، ويبرّئ الذكورة من جراحها الأولى. لذلك يولّد الكاتب عبرهما عشرات المرايا "آدم النذل"، "آدم الطاهر"، "حواء القناع المحتشم"، "حواء دليل الحائرين"، "الدكتورة حواء الآداب"، وكأنّ النص يقول: "لسنا أمام شخصيات، بل أمام صيغ بشرية تتكرّر مثل دوائر متداخلة في تاريخ الوعي الإنساني".

ونسجّل بأنّ سردية الرواية تتشكّل عبر مخطوطات تتوالد من بعضها عنقوديا، كأنّ النص يكتب نفسه بنفسه. ففي المخطوطة السابعة، حين تخرج امرأة خمسينية من بين السطور وتخاطب الدكتور آدم السيد، يدرك القارئ أنّه لم يعد أمام رواية، بل أمام كتابة واعية بذاتها، كتابة تعرف أنّها كتابة. هذا الانزياح الميتافيكسيونالي meta-fictional يمثّل إعلانا أن الحقيقة لم تعد في الخارج، بل في تداخل المقروء والحي، وأنّ الشخصيات ليست كائنات ورقية، بل حالات شعورية تتجاوز حدود النص.

في فصل "إيفا ماريا، الصوت الجريح"، حيث يبدو الألم كأنّه الخطيئة الأولى قبل أي خطأ. الطفولة هنا ليست براءة، بل جرح يتسرب في الوعي حتىّ يصنع امرأة ممزّقة، وكأنّ الكاتب يريد القول أنّ الخطيئة تُصنع في الإنسان قبل أن يصنع هو أي خطيئة. وهذا جوهر المشروع النفسي للرواية (أن الفعل ليس دائما أصل الألم، بل ألم الجرح هو أصل الفعل).

وتتعدّد المخطوطات، فتتعاقب النساء، الزوجة الوفية، العشيقة، الجارة الغيورة، الطفلة الأم… كلهنّ وجوه لذات واحدة تبحث عن خلاص مستحيل. وفي المخطوطة الثامنة، "حواء القناع المحتشم"، تنكشف البنية الاجتماعية للخطايا حيث تتعرّض امرأة للاعتداء داخل مؤسّسة رسمية، ويصبح القمع هو القناع الذي ترتديه السلطة باسم الأخلاق. لكن المخطوطة التاسعة، "مخطوطة الخطايا"، هي القلب النابض للرواية. أبوابها الخمسة ليست سردا بل فلسفة صريحة، تطرق باب الجشع، الشهوة، الغرور، الكذب، ورمي المحصنات. وكل باب منها ليس موضوعا، بل مرآة. ففي "خطيئة الجشع" يظهر الإنسان المستهلك لرغباته، وفي "الشهوة" تتحوّل الرغبة إلى جوع للسلطة قبل أن تكون جوعا للجسد. أما "الغرور" فيكشف كِبْرَ المعرفة، وكيف تتحوّل الأنا إلى حجاب يحجب الحقيقة، بينما "الكذب" هو البنية التي يقوم عليها مجتمع يخاف المواجهة. وفي"رمي المحصنات" يبلغ النص ذروته الأخلاقية مدجّجا بالآيات القرآنية، ليس لأنّه يدافع عن امرأة، بل لأنّه يكشف عن نظام بأكمله يعمل على سحقها. بطلها "آدم النذل" وهو هنا ليس رجلا، بل بنية عقلية، و"حواء" ليست فردا، بل ضميرا جريحا يتخبّط وسط أقنعة الضمير.

نفتح الأبواب الوجودية الأخيرة "حواء دليل الحائرين "، "الحمامة العمياء"، و"مغارة الحكيم الأعشى"، لنتفاجأ بأنّنا نتوخّى الضوء المظلم، حيث العمى يصبح رؤية، والظلام كشفا، عبر رمزيات الحمامة والأفعى والشيخ الأعشى. إنّها لحظة يمرّ فيها النص من التحليل إلى التأمّل، من تفكيك الخطايا إلى البحث عن الخلاص. لتنتهي الرواية بموت آدم الطاهر، ذاك الكائن الذي كان يمكن أن يكون، لكنّه لم يُترك ليكون. موته ليس حدثا، بل مجازا للإنسان الذي يظلّ نقيا رغم قسوة العالم، فيفنى قبل أن يتلوّث ويذوب في الضوء الأزرق المتسرّب من السماء كرمز للتسامي بحثا عن الطهارة والنقاء. وكأنّ شاوي يضع القارئ أمام سؤال أبدي: هل الطهارة ممكنة في عالمنا هذا؟ وهل الخطيئة قدر، أم جرح ورثناه ولم نتعلّم كيف نُضمّده؟

بهذا التوتّر بين السقوط والبحث، الجرح والسؤال، وبين القلق، الهشاشة، الذنب، اللاّيقين، وتفكّك الهوية. تتجلّى مخطوطات الخطايا بوصفها رواية لا تسرد العالم بل تفسّره، ولا تتّهم الإنسان بل تفهمه. رواية تدخلها قارئا، وتخرج منها كما لو كنت جزءا من متاهة شاوي أو من متاهتك أنت ذاتك، لأنّك تتوغّل في عمقها فتكتشف ذاتك من خلالها، وشيئا فشيئا تدرك أنّها رحلة تيه إنساني تتأرجح بين اللاّأدرية وقلق الأسئلة الوجودية التي لا تنطفئ، حيث تتقاطع الأرواح والأقدار لتعلن هشاشتك أمام سرّ كينونتك، وعجزك عن فهم خطّ المكتوب في لوحٍ لا تراه. يتحوّل الوجود فيها إلى متاهة من الظلال، ينشطر فيها اليقين إلى شكّ، ويغدو القدر قوة خفيّة تجرّ الشخصيات جَرّا نحو مصائرها، بينما تتداخل الأسطورة بالمشهد الحيّ، والروح بالجسد، كأنّ الكون كلّه ليس سوى كتاب مفتوح تقرؤه العيون ولا تفهمه القلوب. وتأتي الآيات القرآنية التي ترد داخل السرد لتكون ومضات صارخة تذكّرك بأنّك مهما ضللت في شعاب اللاتحديد، تبقى محمولا على ناموس أعلى، وأنّ شكّك مهما اتّسع لا يستطيع أن يمحو السؤال الأزلي: "من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا هذا القدر بالذات؟ " فتقف على تخوم اليقين والعدم، معلّقا في الفراغ الذي تتخلّله فقط رجفة روحك وهي تبحث عن المعنى.

***

ليلى تبّاني ـــ الجزائر

 

في المثقف اليوم