قضايا
إبراهيم أبو عواد: الروحانية بين جبران وطاغور
تَتميَّز الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتب اللبناني الأمريكي جُبْرَان خَليل جُبْرَان (1883- 1931) بِعُمْقِها الفَلسفيِّ، وقُدرتِها عَلى تَجاوزِ الماديَّاتِ، والتَّعبيرِ عَن الحَنينِ إلى مَا هُوَ أسْمَى وأرْقَى في النَّفْسِ البشرية. وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد شُعورٍ أوْ طُقوسٍ تقليدية، بَلْ هِيَ حالةُ وَعْيٍ مُتكاملة، تَجْمَعُ بَيْنَ التَّأمُّلِ والفَهْمِ العَميقِ للذاتِ والتواصلِ معَ العَالَمَيْن الداخليِّ والخارجيِّ.
يَصِفُ الرُّوحَانِيَّةَ بأنَّها رِحْلة داخلية نَحْوَ مَعرفةِ النَّفْسِ، واكتشافِ المَعْنى الحقيقيِّ للحَياةِ. وَيُشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ يَعيشُ صِرَاعًا دائمًا بَيْنَ الرَّغَبَاتِ الدُّنيويةِ والبَحْثِ عَن السَّلامِ الداخليِّ، وأنَّ مَنْ يَسْلُكُ طَريقَ الرُّوحَانِيَّةِ يَستطيعُ تَجاوزَ هذه الصِّراعاتِ، والوُصولَ إلى حالةٍ مِنَ التَّوَازُنِ والصَّفَاءِ النَّفْسِيِّ.
كَمَا يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّة تَتَجَلَّى في الحُبِّ والعَطَاءِ والتسامحِ، فَهِيَ لا تَقْتَصِر على الانعزالِ أو التَّأمُّلِ فَقَط، بَلْ تَتطلَّب أيضًا التواصلَ الإنسانيَّ العميقَ، والمُشارَكةَ في تَجَارِبِ الآخَرِين. وَوَفْقَ رُؤيته، فإنَّ الإنسانَ الرُّوحَانِيَّ يَعيشُ في تَنَاغُمٍ معَ نَفْسِهِ ومعَ العَالَمِ، ويَستطيعُ أنْ يَرى الجَمَالَ في كُلِّ شَيْءٍ، حتى في الألَمِ والمُعَاناة، باعتبارها جُزْءًا مِنْ تَجْرِبَةِ الحَياةِ التي تَصْقُلُ الرُّوحَ.
وَتُعْتَبَرُ رُوحَانِيَّةُ جُبْرَان دَعْوَةً إلى التَّأمُّلِ في الحَياةِ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق لِمَا نَعِيشُه، وَهِيَ رِحْلَة نَحْوَ النُّمُوِّ الداخليِّ، تَتجاوز الحُدودَ الماديَّة لِتَصِلَ إلى أعلى دَرَجَاتِ الوَعْيِ الإنسانيِّ.
تَتَّسِمُ الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ الكاتبِ الهِنديِّ رابندرانات طاغور (1861 - 1941/ نوبل 1913) بالعُمْقِ والمُرونةِ، فَهِيَ تُركِّز على تَجْرِبَةِ الإنسانِ الداخليَّةِ، وعَلاقَتِهِ بالعَالَمِ والطبيعةِ. وَهُوَ يَرى أنَّ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ مُجرَّد مُعْتَقَدَاتٍ جامدة، بَلْ هِيَ رِحْلَة نَحْوَ فَهْمِ الذاتِ، والانسجامِ معَ الكَوْنِ.
والرُّوحَانِيَّةُ - مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِه - تَتجلَّى في الإحساسِ العَميقِ بالجَمالِ، سَوَاءٌ في الفَنِّ أو المُوسيقى أو الطبيعةِ. وَالطبيعةُ عِنْدَه لَيْسَتْ بيئةً خارجيةً فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا مِرْآةٌ تَعْكِسُ الرُّوحَ الإنسانية، وتُعزِّز الشُّعورَ بالسَّلامِ الداخليِّ. وَمِنْ خِلالِ مُراقبةِ شُروقِ الشَّمْسِ، وَتَدَفُّقِ الأنهارِ، وَتَفَتُّحِ الأزهارِ، يُمكِن للإنسانِ أنْ يَعيشَ لَحَظَاتٍ مِنَ الصَّفاءِ والتَّأمُّلِ العميقِ، وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ جَوْهَرَ الرُّوحَانِيَّةِ عِنْدَه. كَما يَرى أنَّ الرُّوَحانِيَّة تَتعلَّق بالحُبِّ والتواصلِ الإنسانيِّ. وفي كِتاباتِه، كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ السَّلامِ الداخليِّ والتعاطفِ معَ الآخَرين، مُعْتَبِرًا أنَّ الرَّحمةَ والصِّدْقَ والوفاءَ هِيَ بَوَّاباتُ الوُصولِ إلى تَجْرِبَةٍ رُوحِيَّةٍ أسْمَى. ويُؤَكِّدُ على أنَّ السَّعادةَ الحقيقة تَنْبُعُ مِنَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الداخلِ والخارجِ، بَيْنَ النَّفْسِ والمُجْتَمَعِ.
وَمِنَ السِّمَاتِ المُمَيِّزَةِ لِرُؤيته الرُّوحِيَّةِ الاعتقادُ بالوَحْدَةِ الكَوْنِيَّةِ، أي إنَّ كُلَّ شَيْءٍ في الكَوْنِ مُترابِط، وإنَّ الإنسانَ جُزْءٌ مِنْ نَسِيجِ الحياةِ الأكبر. هذا الشُّعُورُ بالاتِّصالِ العميقِ معَ الكَوْنِ يَمْنَحُ الفَرْدَ شُعورًا بالسَّكِينةِ، ويُشجِّعه على التَّأمُّلِ الذاتيِّ، والمُشارَكةِ الإيجابيةِ في الحياة.
الرُّوحَانِيَّةُ عِندَ طاغور تَجْرِبَةٌ شخصيةٌ عميقةٌ، تَعتمد على التَّأمُّلِ في الجَمالِ، والإحساسِ بالوَحْدَةِ معَ الطبيعة، والانفتاحِ على مَشاعرِ الحُبِّ والتعاطفِ معَ الآخَرِين، بعيدًا عَن الطُّقُوسِ أوْ الشعائرِ الجامدةِ، لِتُصْبحَ حَياةُ الإنسانِ أكثرَ مَعْنًى وَسَلامًا داخليًّا.
إنَّ الرُّوحَانِيَّة لَيْسَتْ مُجرَّد مُمَارَسَةٍ أوْ شُعورٍ عابرٍ، بَلْ هِيَ رِحْلَةٌ داخلية تَقُودُ الإنسانَ إلى فَهْمِ ذَاتِهِ والعَالَمِ مِنْ حَوْلِه. في أعمال جُبْرَان خَليل جُبْرَان ورابندرانات طاغور، نَجِدُ أنَّ هذه الرِّحْلة تأخذُ أشكالًا فَنِّية عميقة، تَتجاوزُ الكَلِمَاتِ لِتُصْبحَ شُعورًا حَيًّا يَنْبِضُ في القُلوبِ.
عَالَمُ جُبْرَان مَلِيءٌ بالرُّموزِ والصُّوَرِ التي تَتحدَّث عَن الحُرِّيةِ الداخليةِ، والانفتاحِ على الحَياةِ بِكُلِّ تَقَلُّبَاتِها، والبَحْثِ الدائمِ عَن المَعْنى الأسْمَى. في نُصُوصِهِ، يَشْعُرُ القارئُ بأنَّ الرُّوحَ تُسافِر بَيْنَ الأحاسيسِ المُختلِفة، وَتَتَعَلَّمُ مِنَ الألَمِ والفَرَحِ، وتُدرِك أنَّ الانتماءَ الحقيقيَّ لَيْسَ للأشياءِ الماديَّة، بَلْ للحَياةِ نَفْسِها. جُبْرَان يَرى الرُّوحَانِيَّةَ كَفَنِّ العَيْشِ بِوَعْيٍ، كأنْ تَكُون حاضرًا في كُلِّ لَحْظَةٍ، مُتَفَاعِلًا معَ الطبيعةِ والإنسانيةِ دُون أنْ تَفْقِدَ هُوِيَّتَكَ.
أمَّا طاغور، فَقَدْ قَدَّمَ الرُّوحَانِيَّةَ مِنْ مَنظورِ شاعرٍ، يَنْسُجُ الكَلِمَاتِ كَما يُنْسَجُ الضَّوْءُ عَلى صَفْحَةِ المَاءِ. شِعْرُهُ يَعْكِسُ انسجامَ الإنسانِ معَ الكَوْنِ، وكَيْفَ يُمكِن لِلَحْظَةٍ صامتةٍ أنْ تَكُونَ أكثرَ تعليمًا مِنْ آلافِ الكَلِمات. بالنِّسْبَةِ إلَيْه، الرُّوحَانِيَّةُ هِيَ شُعورٌ بالارتباطِ العميقِ، وإدراكُ أنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَنا يَحْمِلُ نَغْمَةً خاصَّة، وأنَّنا جُزْء مِنْ هَذا الكَوْنِ المُتَنَاغِمِ. هَذا الوَعْيُ يُحوِّل التَّجْرِبَةَ اليَوْمِيَّةَ إلى حالةٍ مِنَ التَّأمُّلِ الجميلِ، حَيْثُ يَتحوَّل المَشْهَدُ العاديُّ إلى دَرْسٍ للحَياةِ والوُجودِ.
رَغْمَ اختلافِ الأُسلوبِ بَيْنَ جُبْرَان وطاغور، إلا أنَّ الرابطَ بَيْنَهما واضحٌ، وَهُوَ الرَّغْبَةُ في الوُصولِ إلى جَوْهَرِ الإنسانِ، وتَنقيةُ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ ثِقَلٍ ماديٍّ أوْ وَهْمِيٍّ، وإدراكُ أنَّ الحياةَ لَيْسَتْ مُجرَّد أحداثٍ نَمُرُّ بِهَا، بَلْ هِيَ دُروسٌ مُتواصِلة، وَفُرَصٌ للنُّمُوِّ الداخليِّ. والرُّوحَانِيَّةُ عِندَهُما لَيْسَتْ هُروبًا مِنَ الواقعِ، بَلْ هِيَ مُوَاجَهَةٌ للحَياةِ بِوَعْيٍ، واستكشافٌ للجَمَالِ، وَفَهْمٌ للمَعْنى الحقيقيِّ للوُجودِ.
أعمالُ هَذَيْنِ الكَاتِبَيْن تُوضِّح أنَّ الرُّوحَانِيَّةَ لَيْسَتْ مُجرَّد طُقُوسٍ وأفكارٍ، بَلْ تَجْرِبَة حَياة. تَجْرِبَةٌ تَدْعُو إلى أنْ يَعيشَ الناسُ بِصِدْقٍ معَ أنفُسِهِم، وَضَرورةِ أنْ يَتَعَلَّمُوا كَيْفِيَّةَ استشعارِ اللحْظَةِ، وكَيْفِيَّةَ التفاعلِ معَ الكَوْنِ بِعُمْقٍ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى مَنْحِ الحَياةِ مَعْنى حقيقيًّا يَتجاوزُ حُدودَ المَادَّةِ والكَلِمَاتِ.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن





