قضايا
حاتم حميد محسن: جدال بين افلاطون وارسطو في العالم السفلي
نحن في العالم السفلي، في زاوية الفيلسوف. الأجواء هنا عموما هادئة ومثيرة للتأمل. مع ذلك، في بعض الأحيان تكون الحالة النفسية حتى للفلاسفة الأكثر شهرة ليست بمنأى عن التوتر والاستياء والشكوك المتبادلة التي تراكمت عبر القرون. هذا يمكن ان يقود في بعض الأحيان الى نقاش ساخن ومثير، كما حصل بين أشهر المقيمين هناك وهما افلاطون وارسطو طبقا لأحد المراسلين الذي أبلغ مؤخرا عن تلك المحادثة.
افلاطون: يلقي التحية لأرسطو، مرحبا بالخريج الأكثر تمييزا في اكاديميتي.
ارسطو: اذا كنت حقا الأكثر تميزا لماذا لم يتم تعييني بدلا من سبوسيبوس الذي لم يكن حتى في الترتيب الثالث؟ لكني نسيت انه من أقربائك.
افلاطون: تعال يا عزيزي الشاب. انت أظهرت استقلالية كبيرة في التفكير لدرجة كان من الملائم لي ان اسمح لك لتؤسس مدرسة خاصة بك للطلاب الذين عكسوا نطاقك الفكري الخاص بك والذي جميعنا نعرف انه كبير. الى جانب ذلك، في نهاية فترة بقائك في اكاديميتي انت كنت تتعرض لمعتقداتي الجوهرية الأكثر حبا لي.
ارسطو: بالتأكيد، ولديّ سبب جيد. انا كنت أجد بعض افكارك غريبة نوعا ما، على سبيل المثال، اقتراحك بنفي الشعراء من مجتمعك المثالي. فقط لو فكرت في ذلك: لا هوميروس ولا سوفكليس. هذا بدا غريبا ان يأتي منك، اكثر الكتّاب شاعرية. انا، من جهة أخرى، وبقدر ما ابدو لك عاديا أرى الشعر والدراما تستحق الدراسة الجادة ولها فوائدها السايكولوجية والاجتماعية. واضيف ايضا ان "الشعر اكثر فلسفية ويستحق الاهتمام الجاد اكثر من التاريخ".
افلاطون: نعم
ارسطو: ايضا بالنسبة لخططك لما اسميته "المجتمع المثالي"، انا وجدتها مذهلة مثل – تحسين النسل، المساواة في الفرص، تعليم المرأة. انا اظن ان بحثك الأساسي في كل هذا لم يكن موجودا. أيضا، اقتراحك بان الطبقة الحاكمة – الحراس – يجب ان تستعمل "الكذب النبيل" لتقسيم مختلف الطبقات الاجتماعية والسيطرة عليها بدا لي غير أخلاقي تماما. وكما بالنسبة للفيلسوف الملك، يالهُ من وهم. أحد الشيئين ولكن ليس الاثنين معا.
افلاطون: يا عزيزي، يبدو انك فقدت كليا حس الفكاهة الغير ناضج لديك. كل هذه الأفكار لم يُقصد بها فقط كمخطط لمجتمع مثالي بقدر ما هي محفز لفحص قضايا جوهرية. وكبحث أساسي، انا أعترف باني لم أبحث في مجال أبعد من سبارطه. سبارطه ربما لم تكن مجتمعا مثاليا ولكن كذلك أثينا.
عندما نفكر في الكيفية التي عومل بها سقراط من جانب زملائه المواطنين، ربما نستنتج ان الديمقراطية الراديكالية ليست اكثر من تجربة منحرفة وخطيرة.
ارسطو: اه
افلاطون: وفي كتابك السياسة، بدا لي انك مطمئن لالتقاط نسخ من مختلف دساتير الولايات، وتأخذ أفضل المزايا من كل واحدة بينما انا، في رسم مجتمع مثالي، كنت احاول شيئا ما يتمتع بقدر كبير من الاختراق الفكري.
ارسطو: ربما، لكن حتى الان لم يحاول احد تأسيس دولة مرتكزة على ما اسميته "الجمهورية"، بينما في ليسيوم Lyceum (مدرسة ارسطو) نحن درسنا الدول القائمة حقا وكيف كانت تدار جيدا. نحن نعطي نصيحة جيدة وعملية للعديد من الدول التي استشارتني وزملائي عند وضع دستور جديد. انا سأتجاوز فشلك المشين في سيسلي Sicily لكي تحول الحاكم المستبد الى احد فلاسفتك الملوك. ديونيسيوس اليس كذلك؟
افلاطون: نعم.. ربما ذلك لم يكن افضل اوقاتي. هل ننتقل الى موضوع آخر؟
ارسطو: بالتأكيد. لكن كل هذا هو تافه نسبيا مقارنة باهتماماتي الأخرى حول تطورك الفلسفي. اثناء بقائي في اكاديميتك بدا لي انت كنت في خطر الانسحاب بعيدا الى عالم الاشكال – تلك الوجودات الغامضة وغير المرئية والمستقلة عن الزمان والمكان والمنفصلة عن عالم الحواس، ومع ذلك هي جزء منه... هي بدت تسبب لي المزيد من المشاكل بدلا من الحلول. بالطبع انا كنتُ مضطرا لصياغة نهج اكثر واقعية.
افلاطون: نهج اكثر واقعية؟ هذا يلخص افكارك الى حد ما ياعزيزي ارسطو. بالمقابل، انا فكرت دائما بان مهمة الفيلسوف هي ان يرى ما تحت السطح من الأشياء ويتغلغل الى الواقع الأساسي – عالم الأشكال الذي هو بالطبع اكثر واقعية من العالم المادي الذي تدرسه بحماس.
ارسطو: حسنا، على الأقل العالم المادي الذي درسته هو موجود حقا، بينما عالمك المثالي (عالم الاشكال) يبدو من صنع خيالك الخاص. في الحقيقة، انا أجد او وجدت العالم الذي حولي هو مصدر الدهشة اللامتناهية – "لأنه في كل الأشياء الطبيعية هناك شيء رائع"، كما كتبت. العالم المادي، الواقعي يستحق الدراسة بدلا من اختزاله الى مجرد وهم وشيء عابر مقابل عالم الاشكال التام والدائم الذي انت تفترض وجوده ولكن لم يثبت بعد – حتى هنا في العالم الآخر.
افلاطون: يالها من خيبة. لكني افترض يجب ان لا ننسى اتجاهك ربما تقرر بحقيقة انك جئت من عائلة طبية. لذلك انت عملي جدا. أيضا، انا اظن ان عملك في العلوم الطبيعية خفف من حدة تفكيرك يا صديقي. فقط عليك ان تلتفت الى الرياضيات لترى ان المفاهيم الرياضية لها وجود بحد ذاتها وتسكن عالما مثاليا يمكن الوصول اليه عبر التأمل الفكري. هذا يمكن ان يتم في مفهوم العدد ذاته، على سبيل المثال. يمكن للمرء وبمزيد من الجهد الفكري المستمر ان يتسلق السلّم من الاشكال الرياضية الى اشكال الحقيقة والجمال والعدالة ،وفوق كل ذلك الخير. هذه الاشكال متاحة للعقول المتسائلة بإخلاص. هذه العقول هي بالطبع قليلة في العدد.
ارسطو: هوسك قادك الى الضلال. انت لا تستطيع اختزال كل شيء الى رياضيات. انا اعتقد انت تحتاج لتتذكر ما كتبته انا في الميتافيزيقا: "الكينونات الرياضية هي منطقيا فقط قبل الأشياء المحسوسة، هي ليست سابقة في الوجود". الكينونات الرياضية لا يمكن ان توجد بذاتها مستقلة عن الأشياء التي تنطبق عليها، وطالما هي ظاهريا أشكال، هي لا يمكن ان توجد كأشياء يمكن ادراكها في حد ذاتها أيضا. انا لا اعتقد انت كنت واضحا حول معنى "الوجود".
افلاطون: لقد فشلت انت في الفهم..
ارسطو: كلا ياعزيزي افلاطون، انت فشلت، فشلت في ابراز صياغة متماسكة وشاملة لنظريتك، وان مهمتي كشف نواقصها.
افلاطون: انا بالذات واع جدا ببعض المشاكل.
ارسطو: بالفعل. فمثلا، الآن انت زعمت باننا يمكننا الوصول الى مدخل للأشكال بواسطة العقل، لكن في حوارك (فيدون)، انت زعمت انه من خلال التذكّر recollection نستطيع الحصول على مثل هذه المعرفة الخاصة. هذه العملية من التذكر ربما تحتاج الى طريقة خاصة في التعليم، بالطبع – كما في الولد العبد في حوارك (مينون). انا لا أرى كيف يمكنك الجمع بين كلا الطريقتين. كيف نستطيع الحصول على معرفة بأشكالك؟ هل من خلال النشاط الفكري المستمر ام من خلال التذكر؟
افلاطون: انت فشلت في فهم نظريتي. او ربما تفسرها بشكل خاطئ.
ارسطو: انا درست نظريتك لمدة تقترب من المدة التي لديك الان. انت ربما كالساحر، تنتج نسخة معينة من النظرية لأثبات وجهة نظرك في الحوار، مثلما عملت في مقارنة الكهف، او خلق اسطورة في (تيماوس)، او لكي تبرر طرد الشعراء والفنانين من جمهوريتك. اذا كانت نظريتك لاتزال تعمل، كما يبدو من اعترافك، من المدهش بانك استخدمتها بثقة مفرطة لدعم بعض رؤاك العرضة للنقاش.
افلاطون: حسنا.. نعم.. انا أفترض هناك حاجة للمزيد من العمل.
ارسطو: بالطبع، كرد فعل لنظريتك انا طورت نظرية خاصة بي. انا عارضت بقوة الطريقة التي فصلت بها انت أشكالك عن العالم المادي. بالنسبة لي الحقيقة حول الاشكال هي انها جواهر متأصلة في أشياء معينة، ولايمكنها امتلاك وجود منفصل عنها. وجهة نظري هي ان الإحمرار مثلا، لا وجود له الا بقدر ما تكون بعض المواد حمراء، بينما انت تعتقد ان المادة حمراء بقدر ما تشارك في الاحمرار. لكن بالتأكيد الأشياء الحمراء هي سابقة للاحمرار - باللغة الانطولوجية..
افلاطون: (يقاطع) انا أعتقد من الأفضل لنا تغيير الموضوع ياعزيزي ارسطو. انا أرى سقراط يقترب مع مرافقيه ومساعديه.
ارسطو: نعم، بالطبع. آخر شيء نحتاجه في هذا الجدال هو "طرف ثالث".
افلاطون: لو نسمح له بالمشاركة سيتعين علينا البدء مرة أخرى من البداية نعرّف عباراتنا ونحاول الإجابة على اسئلته المزعجة. هل نؤجل نقاشنا؟
افلاطون وارسطو كلاهما يرحبان بسقراط. مرحبا بالفيلسوف. نحن في الحقيقة نوشك على المغادرة.
***
حاتم حميد محسن






