قضايا
بتول فاروق: تأثّر أحكام الزوجة بفقه العبودية
من أبرز الملامح التي تكشف عن البنية الجوهرانية في الفقه الإسلامي التقليدي، هي تشابه موقع المرأة (الزوجة) بموقع العبد في فقه العبودية. هذا التشابه لم يكن دائمًا مقصودًا بوعي، لكون الذهنية حاكمة بشكل غير مدرك للمرء، لكنه تشكّل من خلال العقل الفقهي الذكوري الذي رسّخ مفهوم "الملكية" و"الطاعة" كأساس للعلاقة بين الرجل والمرأة، تمامًا كما استند في فقه الرِّق إلى علاقة "السيد بالعبد".
فالعبد الآبق في الفقه لا تُقبل عباداته ما دام عاصيًا لسيده، لأنه خرج عن طاعته وخالف النظام الذي يضبط العلاقة بين المالك والمملوك. ونجد صدى هذا التصور في فقه الأسرة؛ إذ يُروى في بعض المدوّنات الفقهية أن الزوجة إذا أغضبت زوجها أو خرجت من طاعته، لا تُقبل صلاتها أو عبادتها حتى يرضى عنها، في تشبيه صريح أو ضمني بـ”العبد الآبق”.[1]
هذا الإسقاط المفهومي لم يكن مجرد تشبيه بل تحوّل إلى منظومة قيمية وفقهية، إذ بُنيت أحكام الطاعة الزوجية على منطق “الحق المطلق للزوج”، لا على مبدأ المساواة في الكرامة والمسؤولية. فكما كانت طاعة العبد لسيده واجبًا دينيًا، جعلت طاعة الزوجة لزوجها واجبًا شرعيًا يرتبط بثوابها وعقابها الأخروي، حتى غُيّبت عنها ذاتها المستقلة، وتحولت إلى كيان وظيفي في خدمة الآخر.
وقد تسلّل هذا الفهم من خلال اللغة الفقهية ذاتها؛ فالمفردات التي استُخدمت لوصف العلاقة الزوجية مثل الطاعة، النشوز، الإباحة، التمكين، الاستمتاع، الإذن، الحق في الوطء، كلها تنتمي الحبس، إلى حقل لغوي سلطوي يشبه إلى حدّ بعيد لغة “الملك والعبودية”، وهي استعارة تحمل دلالة أن المرأة مملوكة من جهة الاستمتاع كما العبد مملوك من جهة العمل.
هكذا نُزعت عن المرأة صفة" الفاعل الأخلاقي الحر"، وصارت عبادتها مرتبطة برضا الرجل عنها، كما كانت عبادة العبد مرتبطة برضا سيده. هذا الفهم يعكس تداخلًا بنيويًا بين فقه الأسرة وفقه الرقّ، حيث كلاهما تأسس على منطق “السلطة الأبوية المطلقة” لا على منطق “الكرامة الإنسانية المشتركة”.
لقد أنتجت الجوهرانية في الفقه مفهومًا ساكنًا للإنسان لا يتغير بتغير الزمان، ولذلك ظلت الأحكام التي صيغت في مجتمع عبودي تُطبَّق في عصر انتهت فيه العبودية. فالمرأة التي شُبِّهت في فقه القرون الأولى بالعبد في الطاعة والتسليم، بقيت تحمل أثر هذا التشبيه في فتاوى العصور اللاحقة حتى اليوم، رغم تغيّر مفهوم الإنسان وحقوقه في المنظور الأخلاقي والقانوني الحديث.
من هنا يمكن القول إن الجوهرانية الفقهية أنتجت توازيا بين العبد والزوجة على المستويين:
الأنطولوجي: باعتبارهما كيانين ناقصين تابعين لجوهر أتمّ (السيد/الزوج).
الوظيفي: باعتبار أن كمالهما في الطاعة لا في الحرية، وفي الامتثال لا في الاختيار.[2]
هذا التوازي تسلّل إلى النصوص الفقهية عبر مفاهيم مثل التمكين، الطاعة، الإذن، حق الاستمتاع، النشوز، العصيان، الآبق، الحبس، التي تصف علاقة ذات بطرف مملوك. وهنا تظهر أخطر نتائج الجوهرانية: تحويل العلاقة الزوجية – وهي في أصلها ميثاق تراضٍ ومودة ورحمة – إلى علاقة سلطة وملكية تشبه الرِّقّ.
إن إعادة النظر في هذا التراث الفقهي تتطلب مساءلة عميقة للبنية التي ساوت بين الطاعة والإيمان، وبين الخضوع والعبادة، لأن تحرير المرأة في الفقه لا يتحقق بإصدار فتاوى جديدة فحسب، بل بتحرير المفاهيم التي شبّهت الزوجة بالعبد، والزوج بالسيد. فالعلاقة الزوجية في أصلها علاقة ميثاق، لا عقد تمليك كما يفترض، وعلاقة تكامل روحي، لا علاقة تبعية وجودية.[3]
إذا كان لايُسمح للإنسان شرعا بأقامة علاقة عاطفية بالجنس الآخر الا عبر الزواج، وحين يكون الزواج تراتبي: طائع ومطاع، فقد أُفرغت هذه العلاقة من سبب وجودها وهي الإشباع العاطفي القائم على الحب والشغف، والذي لايتحكم بهما قانون الطاعة والالزام . فالحب أما أن يأتي طواعية أو لايأتي أبدا .
ولذلك، فإنّ ما تُنتجه هذه الصيغة من الزواج الفقهي ليس علاقة حبّ متبادل، بل علاقة وظيفية تُدار بالواجب والحق، في حين يُقصى منها البُعد الشغفي الذي يشكّل جوهر التجربة الإنسانية بين الجنسين.
إن تشابه موقع المرأة في الفقه مع موقع العبد ليس مجرد صدفة، بل هو نتاج رؤية جوهرانية جعلت الطاعة مبدأً أعلى من الكرامة، والملكية أساسًا للعلاقة بين الرجل والمرأة لا المحبة.
ولأن الجوهرانية تفترض ثبات الطبائع، لم يُنظر إلى المرأة بوصفها إنسانًا يتطور ويمتلك إرادة، بل بوصفها طبيعة أنثوية مخلوقة لتُدار !.
***
د. بتول فاروق الحسون
النجف / جامعة الكوفة
.....................
١- اثنانِ لا تُجَاوِزُ صلاتُهما رؤوسَهُما: عَبدٌ أبَقَ من مَواليه حتَّى يرجعَ، وامرأةٌ عصَت زوجَها حتَّى ترجِعَ .
خلاصة حكم المحدث: صحيح
الراوي: عبدالله بن عمر | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم:1888
التخريج: أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3628)، والحاكم (7330)
[2] - ظ: عبد الجبار الرفاعي: أنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، مركز دراسات فلسفة الدين بغداد، ٢٠٢١، ١١٢
[3]- في منهاج الصالحين للسيد الخوئي، المسألة (١٤٠٧)
لا يجوز للزوجة أن تخرج من بيتها بغير إذن زوجها فيما إذا كان خروجها منافيا لحق الاستمتاع بها بل مطلقا على الأحوط فإن خرجت بغير إذنه كانت ناشزا ولا يحرم عليها سائر الأفعال بغير إذن الزوج إلا أن يكون منافيا لحق الاستمتاع.






