قضايا

عبد الله الفيفي: زِيادة المبنى نُقصان المعنى!

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

إذا كانت (الزيادة في المبنى زيادة في المعنى)، حسب المقولة المتداولة في (عِلم الصَّرف)- المتعلِّق ببناء الكلمة المفردة- فهل ذلك كذلك في (عِلم النحو)، أي في بناء الجملة؟

كلَّا، ليس ذلك كذلك، حينما يُنظَر إلى المعنى البلاغي، لا إلى المعنى النحوي.

هكذا جاءت حاشية (ذي القُروح) على المساق السابق، في تعليقه على بيت الشاعر الأُموي (جَرير بن عطيَّة، -110هـ= 728م):

تَـمُرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا ::: كلامُكُمُ عَليَّ، إِذَنْ، حَرامُ

 متسائلًا: أقوله: «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ» كقوله- لو قال-: «تَـمُرُّونَ بالدِّيارِ»، كما زعم النحويُّون؟

- ما رأيك؟

- النحويُّون غالبًا لا يُدرِكون المعاني البلاغيَّة، وإنَّما انشغالهم بالحروف والكلمات وتركيباتها، وَفق قواعدهم الجاهزة، اللَّهم إلَّا إذا كان النحويُّ من طبقة (عبد القاهر الجرجاني). لأجل ذلك، كثيرًا ما تتفوَّق بلاغة العامَّة على الخاصَّة. أعني بلاغة اللُّغة الدارجة على اللُّغة الرسميَّة، التي تُسمَّى الفصحى؛ لأنَّ الفصحى تمسي وتصبح معلَّبةً في قوالب قديمة، صُنِعت قبل أكثر من ألف سنة، تمنع العقل والذوق والمَلَكات الإنسانيَّة الطبيعيَّة من أن تتصرَّف في اللُّغة قيد شَعرة، وإنَّما هي أوعيةٌ جامدة، تُملأ كما أُعِدَّت منذ مئات السنين، ولا زيادة لمستزيد.

- أهذا سِرُّ تفوُّق العاميَّة أحيانًا على الفصحى في التعبير البلاغي والشِّعري؟

- نعم. فالحُريَّة ما كانت في شيءٍ إلَّا زانته، ولا نُزِعت من شيءٍ إلَّا شانته. حيث وُجِدت وُجِد الإبداع، وحيث قُمِعت قُمِع الإبداع، بل قُتِل الإنسان. وبالعودة إلى السؤال، فإنَّ قولنا: «مررتُ الدِّيارَ» ليس مطابقًا في معناه البلاغي لقولنا: «مررتُ بالدِّيار»؛ فالقول الأخير يشير إلى المرور بها مرور الكرام، والقول الأوَّل يشير إلى المرور بها مرور الأَشِحَّاء! بمعنى أنَّ (مرورك الشيء) يوحي بمُكثك معه، أمَّا (مرورك به)، فيوحي باجتيازك به، لا أكثر.

- أَفْهَمُ من هذا أنك حينما تقول: «مررتُ فلانًا»، فأنت تعني: جئتَه وأقمتَ لديه بُرهة، أمَّا «مررتُ به»، فتعني أنك إنَّما مررتَ من جانبه، كما تمرُّ بمحطةٍ على الطريق وتمضي.

- ولهذا قال الشاعر الأموي (أعشى همدان، -83هـ)(1):

يَمُرُّونَ بالدَّهنا خِفافًا عِيابُهمْ ::: ويَرْجِعْنَ مِن دارِينَ بُجْرَ الحَقائبِ

وتُروى القصيدة التي منها البيت: (للأحوص الأنصاري) أيضًا، و(لجرير).

- يا سلام! بهذا يكون (جرير) قد حقَّق الالتزام بقاعدة النحويِّين، فقال «يَمُرُّونَ بالدهنا»!

- هذا إذا صحَّ أنَّ القصيدة له، وإلَّا سيظل عند النحويِّين من المغضوب عليهم والضَّالين! لكنَّه إنَّما أضاف الباء هنا لمعنى ليس هناك؛ وشتَّان بين البيتَين ومقامَيهما! من حيث إنَّ الموصوفِين لا يقيمون بـ(الدَّهناء)، لكنَّهم يَسْلكون الطريق التي تَـمُرُّ بالدهناء. أمَّا بيت «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ ولم تَعُوجوا»، فقد أراد الشاعر أن يثير مفارقةً، بين مرور المكان الذي يُحِبُّه أولئك المخاطَبون، ومع ذلك فإنَّهم لا يتلبَّثون فيه. فهُم قد مرُّوا- ظاهرًا- الدِّيار، التي حَقُّها الحُبُّ والحَنين والمكوث واسترجاع الذِّكريات، غير أنهم- للمفارقة- لم يعوجوا عليها، أي لم يتوقَّفوا، ولم يكترثوا لما تثيره من شجون الذِّكريات. ومن هنا يظهر أن النُّقصان في المبنى النحوي قد زاد في المعنى البلاغي.

- لو كانت الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، لَما صحَّ قول العَرَب: إنَّ البلاغة الإيجاز؛ فالإيجاز نقصٌ في المبنى، يؤدِّي إلى الزيادة في المعنى، ولَما صحَّ أن يكون من أبواب البلاغة باب يُسمى (بلاغة الحذف). وهكذا تكون يا (ذا القُروح) قد عُجْتَ بنا على دِيار هذه المسألة، واستفرغت ما كنت تريد أن تقول حول بيت (جرير)، الذي ليس بخطأٍ نحويٍّ، بل تعبيرٌ بلاغي، عن قصد، وإصرارٍ وترصُّد، سواء أُخِذ برواية «تَـمُرُّونَ الدِّيارَ»، كما في كتب النحو، أو برواية «أَتَـمْضُونَ الرُّسُومَ» كما في ديوانه، بشرح (ابن حبيب). فلقد خرج الشاعر في كلتا الروايتين عمَّا يقرِّره النحويُّون من أنَّ (مَرَّ) و(مضَى) فعلان لازمان، لا يتعدَّيان إلَّا بحرف، فعدَّاهما جريرٌ على طريقته «الجريريَّة» بلا حرف جر. ثمَّ جاءت صناعة البيت الاستدراكيَّة، المنسوبة إلى حفيده المغمور، العاقِّ لنحو جَدِّه، (عمارة بن عقيل): «مَرَرْتُمْ بالدِّيار...».

- وستَلحظ، بالفعل، التفريق في الدارجة بين قولنا: «مَرِّيت فلان» و«مَرِّيت بـ..فلان/ على فلان»؛ فالتعبير الأوَّل يعني أنك زُرتَه، وتحدَّثت إليه، وربما أقمتَ عنده بعض الوقت، أمَّا التعبير الآخَر، فلا يدل إلَّا على اجتيازك من عنده.

- فرقٌ بين قواعد النحو وآفاق البلاغة. وذاك التفريق التعبيري، الذي جَرَتْ محاولة إلغائه، بقاعدة اللازم والمتعدِّي، في العَرَبيَّة الفصحى، قد بقي في العامِّيَّة. ومثل هذه القاعدة هو ممَّا ضاقت به العاميَّة؛ من حيث وجدتْه يُقيِّد لسانها، بل يحوِّل الإنسان، الذي ميَّزه الله باللِّسان والبيان، إلى شِبْه إنسانٍ آلي، يُبرمَج بكلام قد لا يعقله، ولا يُعبِّر عن خواطره، ولا يستطيع أن يتعدَّاه؛ قُصارَى أمره أن يلتزم به مغمض العَينَين، حذو الحرف بالحرف، متَّبِعًا سَنَن ما حفظ منه وعنه، فلا يبقَى أمامه منفذٌ إلى أن يبدع قولًا أبدًا، إلَّا في أضيق الحدود، وعلى غرار ما قاله أجداده قبل ألف سنة وخمس مئة، أو أكثر!

- ثمَّ يزيدك الطِّين بِلَّة المتشددون من النُّحاة. مع أنك ستجِد من المعاصرين- وكان ذلك قطعًا في السالفين- من يحفظ ألفيَّة (ابن مالك)، وألفيَّة (ابن معطي)، ولو أُلِّفت مليونيَّة لحفظها، وقبل ذلك يحفظ «الآجروميَّة»، و«التُّحفة السَّنيَّة»، وقد يحفظ كتاب (سيبويه) نفسه، وقد يُدرِّس قواعد النحو في الجامعة، لكنه إذا نطق لا يكاد يُبين، وهو غالبًا لحَّانةٌ لُحَنَة!

- فما الفائدة، إذن، من قواعده تلك؟! ولماذا يحدث هذا؟

-لأنَّ صاحبنا قد شغل حياته بالنظريَّة عن التطبيق، حتى أُقعِد بقواعده، وقد لَحَسَتْ دماغه معادلاتها الرياضيَّة عن اللغة الحيَّة، التي هي الأصل والغاية. ومن طرائف هذا أن أحد المشايخ المبرمَجين على القواعد النحويَّة قدَّم لنا- معشر الجهلة- شرحًا لكتاب «شرح ابن عقيل»، ونشره بصوته على موقع «يوتيوب»، وليته لم يفعل؛ لأنه قد فضح المفارقة التي نتحدث عنها. إذ أخذ يقرأ حاشية (محيي الدِّين عبد الحميد) حول (تنوين الترنُّم)، حيث قال: «تنوين الترنُّم لا يختصُّ بالاسم؛ لأنَّ الشيء إذا اختصَّ بشيء لم يجئ مع غيره.» فكيف قرأ الشيخ النحويُّ المبرمَج هذا الكلام؟ جعل يقرأ ويكرِّر: «إذا اختص بشيء لم يجيء مع غيره!». وبذا لم تعد (لم) تجزم الفعل لدى شيخنا النحويِّ المبرمَج! مع أنَّ هذا الرجل قد بلغت به الثقة بعِلمه أن قام يعلِّم الناس النحو، بل ينشر ذلك في العالمين من خلال سلسلة تسجيلات على شبكة «الإنترنت». وهو بالفعل قد يكون عالمًا بالقواعد النحويَّة، لكنه أجهل باللُّغة العَرَبيَّة من العجم! وإلى جانب عاهة الشيخ النحويِّ المبرمَج هاهنا عاهة أخرى، تتمثَّل في كارثة إملائيَّة، تُصِرُّ عليها المطابع المِصْريَّة؛ فالكتاب الذي قرأ منه تجده مطبوعًا هكذا: «إذا اختص بشىء لم يجىء مع غيره!»(2) الياء في (شيء)، والألف المقصورة- التي هي كرسي الهمزة في (يَجِئ)- تُطبَعان برسمٍ واحد! فبدا الحرفان أمام الشيخ النحويِّ المبرمَج ياءً، وإنْ لم يكونا منقوطين. غير أنَّه لو لم يكن معوَّقًا «نحويًّا»- مع أنه شيخ يتصدَّر لشرح شرح ابن عقيل- فضلًا عمَّا لو كان بدرجة تلميذٍ من تلامذة الكتاتيب القديمة، لميَّز بين الحرفَين، وإنْ كُتِبا له بالهيروغليفيَّة! ويُستدَلُّ من هذا على أمرين مهمَّين:

أوَّلهما، ما نحن بصدده، من فساد التصوُّر المزمِن أنَّ قواعد النحو ذات جدوَى لدارس اللُّغة العَرَبيَّة، ولا جدوَى لها، إلَّا إنْ جُعِلت تطبيقًا. وقد آن للتعليم أن يُدرِك أن تعليم النحو بالطريقة التقليديَّة مضيعة وقت، فهو لم يُفِد مشايخ التعليم النحويِّ أنفسهم.

والأمر الآخَر، أنَّ مَن يُصِر على كتابة (الياء) و(الألف المقصورة) برسمٍ واحد- مراهنًا على تفريق القارئ بينهما- فاسد التصوُّر كذلك، مُفْسِدٌ للسان العَرَب، وقد آن أن يخجل من فعلته؛ فخيرٌ له ولنا لو كتب العَرَبيَّة باللاتينيَّة، أو بالمسماريَّة، أو بالهيروغليفيَّة، من أن يقترف التلبيس على القارئ برسم حرفَين بصورة حرفٍ واحد، فيوقِع شيخًا نحويًّا مبرمَجًا في شَرِّ أعماله، فكيف بمَن دونه؟! وفي مقابل مشايخ النحو المبرمَجين هؤلاء، لو اختُبِر كبار الشعراء في مادَّة النحو، لرسب مبدعوهم، على الأرجح، ونجح الناظمون النائمون منهم، وبتفوُّق!

- لماذا؟

- لماذا هذه إجابتها في مساق الأسبوع المقبل، بحول الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................

(1)  (1983)، ديوان أعشى همدان وأخباره، تحقيق: حسن عيسى أبي ياسين، (الرياض: دار العلوم)، 90.

(2)  يُنظَر: (1980)، شرح ابن عقيل، تحقيق: محمَّد محيي الدِّين عبدالحميد، (القاهرة: دار التراث)، 1: 20.

 

في المثقف اليوم