قضايا

حيدر عبد السادة: نحو فَلّسفة عربية معاصرة

ولدت الفَلّسفة من دهشة السؤال عن أصل الوجود، ثم ارتقت إلى مساءلة حدود الإنسان حين جُعل مقياسًا لجميع الأشياء، ثم ازدهرت وهي تفتش عن المثال الأعلى للفضيلة والسعادة والخير. ومع أنّها بدّلت موضوعاتها، إلّا أنّها لم تُسقِط أسئلتها الميتافيزيقية الكبرى، بل ظلّت تحاورها في صيغٍ متجدّدة، تكشف أنّ التحوّل في الفَلّسفة ليس قطيعة، بل إعادة خلق: إذ يُضاف الجديد إلى القديم، ويُعاد للقديم شبابه في لغة الحاضر.

فتاريخ الفَلّسفة إذن ليس سلسلة من المقابر المهجورة، بل نهر متدفّق يحمل روافد متعاقبة، يبتلعها ثم يخرجها في صورةٍ جديدة. هكذا استطاعت أن تصمد أمام السلاطين ووعّاظهم، وأن تبقى عصيّة على الفناء، لأنّها في جوهرها قادرة على أن تجدّد ذاتها مع كلّ عصر، فتتماهى مع العلوم الحديثة وتعيد إنتاج مفاهيمها.

ولم يمنع بعض المفكرين من التنصّل اللفظي من لقب “فيلسوف” – مثل مارسيل وياسبرز وفوكو – أن يكونوا فلاسفة بالفعل؛ فالجوهر لا يُلغيه الاسم. وما قاله أرسطو يظلّ صالحًا: "الجميع يتفلسف، حتى أولئك الذين يعادون الفَلّسفة، إذ في عدائهم لها تفلسفٌ من نوع آخر". لكن الفَلّسفة اليوم تواجه أخطر أشكال الاغتيال: اغتيالها من الداخل، فَرفع البعض شعار "خلِ نتفلسف شوية" إشارة إلى ضرورة تبسيط الفَلّسفة، وكأنّ تعقيدها هو علّة اغترابها، بينما العلّة الحقيقية تكمن في "غباء الواقع" وعدم قدرته على استيعاب حديثها نتيجة التفاهة الشائعة التي تقيده. ليست الفَلّسفة مطالَبة بأن تكون على موائد الناس اليومية، فهي بطبيعتها خطابٌ نخبوِيّ يعالج المعضلات الكبرى لا صغائر الامور وعلائق المشكلات اليومية، وما يجعلها خالدة هو هذه النخبوية ذاتها.

إنّ تبسيطها حتى حدّ التسطيح ليس إلا إفراغًا لها من قيمتها الحقيقية والجوهرية، غير أنّ هذا لا يُعفي الفَلّسفة من مساءلة موضوعاتها: ففلاسفة ما بعد الحداثة – من نيتشه إلى ماركس وفرويد، ومن فوكو إلى دريدا – نقلوا مركز الاهتمام من الهيولى والروح والمطلق إلى قضايا الحرية، السلطة، الخطاب، اللغة، الاختلاف.

لم يكن ذلك خيانة للتراث الفلسفي، بل استجابة لتحوّلات الواقع. فالموضوعات تُستبدَل حين تستنفد قدرتها على الإضاءة، وتظهر مفاهيم جديدة أكثر التصاقًا بواقع الإنسان.

إنّ مشكلتنا مع الفَلّسفة مزدوجة: من جهةٍ نحن متأخرون عن استيعاب مباحثها الحديثة، ومن جهة أخرى نستهلك موضوعات مستوردة لا تنسجم مع واقعنا المُعاش، فتغترب الفَلّسفة مرّتين؛ مرّة بعجزنا عن مغادرة الكهوف الأفلاطونية والهيوليات الأرسطية، ومرّة حين نلصق بأنفسنا موضوعات غريبة عن واقعنا الحيّ؛ فيكمن الحلّ الأصيل في ممارسة التفلسف من داخل إشكالياتنا نحن: الدولة، الديمقراطية، الخطاب الإسلامي، التراث، العقل العربي، العلمنة، والآخر. فالفيلسوف ليس من يكرّر المقولات، بل من يعالج أسئلة واقعه بمنهجٍ نقديّ محرَّر من الانتماءات الضيقة والأطر الأيديولوجية.

لذلك آن الأوان بالقول والاعتراف بالفَلّسفة العربية المعاصرة، تلك التي تسعى إلى استفزاز الوعي العربي بغية إنتاج المفاهيم الفلسفية الملائمة لواقعنا المُقعَد، آن الأوان لميلاد فَلّسفة تنبثق من واقعنا وتعود إليه، تتجرأ على مغادرة سباتها التاريخي، وتُبقي على جوهر الفَلّسفة حيًّا: التجدد الدائم، والقدرة على تحويل أسئلة الوجود إلى طاقة لا تنضب من التفكير.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم