قضايا

توفيق السيف: العقل الأخباري

منذ قديم الزمان وحتى اليوم، عرف المجتمع البشري أشخاصاً يرون الكون فوضى: أجزاء تتحرك في كل اتجاه، من دون ترابط بين حركة وأخرى أو تفاعل بين جزء وآخر، أو سبب أو علّة تفسر هذه الحركة أو تلك. في الماضي السحيق ظن بعض البشر أن آلهة تغضب أو ترضى أو تتصارع، فينعكس ذلك في حركة النظام الكوني... إله البحر يغضب فيحرك الأمواج العاتية كي تغرق السفن، أو يرضى فيأتي السمك قريباً من الشواطئ، ويتفاهم إله المطر مع إله الريح فيأتي المطر خفيفاً لطيفاً ليسقي الأرض العطشى، فإذا تخاصما تحول المطر سيولاً جارفة تهلك البشر والشجر.

ساهمت الأديان التوحيدية، ثم الفلسفة، في إقناع البشر بأن الكون نظام واحد، متكامل ومعقول؛ الأمر الذي سمح بالتفكير فيه وفهم العلاقة بين أجزائه. هذه الفكرة حررت العقل البشري من خوف الطبيعة، وسمحت له بالتطلع إلى استثمارها وتسخيرها لتحسين مصادر عيشه. تطور العلوم كان ثمرة لتعمق العقل في فهم الطبيعة ونفوذه إلى أعماق قوانينها، واستيعابه كيفية انتظامها وتفاعلها بعضها مع بعض.

حين انشق حجاب الغيب وانكشفت أسرار الكون، برز العقل قائداً لحياة البشر، فاستبشر به معظمهم. لكن بعضهم شعر بالحيرة إزاء ما سيأتي لاحقاً، وشعر آخرون بالرعب من أن يستثمر فريق منهم القوة الهائلة التي وفرتها عقولهم للتحكم في الضعفاء أو حتى استعبادهم. صعود العقل لم يكن مريحاً لكثير من الناس.

في نحو القرن الـ14 الميلادي، شهد العالم القديم كله تقريباً؛ من غرب أوروبا إلى الهند، تراجعاً في حركة العلم (ومنه علم الدين) وصعوداً مفرطاً في أهمية القوة العسكرية. ونعرف أن هذا النوع من التطورات يؤدي إلى انحسار الأمان النفسي (الطمأنينة) عند عامة الناس، فيعوَّض عنه بنمط ثقافي يلعب دور السلوى والمواساة.

يؤدي بروز هذا النمط الثقافي (نمط السلوى والمواساة) إلى شيوع الوظائف التي تخدمه، وأبرزها تأليف وتلاوة القصص الشعبية («السَّوَالِف» وفق التعبير الدارج في الخليج) وممارسة السحر وادعاء قدرات خارقة. ويسوَّق هذا النمط بتضمينه مواعظ وتوجيهات أو أقاصيص منتقاة من حوادث التاريخ. إن العامل الأكبر تأثيراً في شيوع ثقافة السلوى وازدهار عمل القصاصين، هو إخفاق المجتمعات في حل مشكلاتها؛ من الفقر إلى القهر، أو الشعور بانسداد الآفاق.

هذه هي الأرض التي ينبت فيها العقل الأخباري. منطلق العقل الأخباري هو التسليم بمعيارية النص المروي، وأنه تلخيص صادق للنموذج الأمثل. إنه عقل ينشد الكمال، لكن ليس من خلال اجتهاده الخاص، ولا مكابدة الاكتشاف والتعمق في فهم العالم، بل عبر مطابقة السلوك الحياتي الحاضر بالنموذج الذي جرى تبجيله؛ لسبب ديني أو دنيوي. جوهر الخطاب هنا يعبر عنه القول المأثور: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها». وللمناسبة؛ فهذا المسلك ليس حكراً على المسلمين، فكل الأمم فيها تيار واسع يذهب هذا المذهب. ولدى كل منهم مبررات جديرة بالتأمل.

يتسلح العقل الأخباري بمكتبة ضخمة، مملوءة بتراث الأقدمين من نصوص معيارية، وآراء، وأحكام، وتجارب حياتية... هذه المكتبة تحولت إلى حياة كاملة عند بعض الناس، يتحدث بها وعنها، ويجادل دونها، ويعيد قراءتها وشرحها، وتحقيق شروحات السابقين عليها. وثمة جدال ينهض حيناً ويتراخى فترة أخرى، محوره سؤال متكرر بالشكل والجوهر نفسيهما، فحواه: هل ثمة شيء وراء هذه المكتبة نبحث فيه عمّا يُصلح حياتنا، أم إن معرفة الدين ومراداته وأسراره كلها مخزونة في رفوفها؟

العقل الأخباري شديد الفخر بمكتبته، فكلما ناقش أحد مسألة من مسائل الدنيا، استل الأخباري رواية من هنا أو هناك، فشهرها أمام المتحدث لإيقافه عن كل قول مختلف عمّا ورد في الرواية. أليس «كل الصيد في جوف الفرا» كما قال العربي القديم.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في المثقف اليوم