قضايا

يونس الديدي: العالم من كيف نرى، إلى كيف نُدمر!

نعيش اليوم في زمن يبدو أن الإنسانية فقدت فيه البوصلة التي كانت توجهها نحو المعرفة، الجمال، والتجربة العفوية. لم يعد تاريخنا الخطي الذي نقل الأجيال من اكتشاف إلى آخر، ومن فكرة فلسفية إلى تجربة علمية حاضرًا في وعينا الجمعي. أصبح عالمنا يتحدث لغة أخرى: لغة السيطرة، التدمير، والجنون المتفلت من أي سياق أخلاقي أو إنساني.

الفوضى ليست مجرد فقدان للنظام، بل هي انعكاس لأزمة نفسية واجتماعية عميقة. في التجربة الإنسانية المعاصرة، يبتسم الإنسان للبشرية وفي يده سلاح التدمير؛ يتحدث عن السلام وفي قرارة نفسه يوجهه إلى الصديق قبل العدو وإلى القريب قبل البعيد . هذا التناقض أصبح سمة العصر، يعكس الفوضى الداخلية التي وصفها علماء النفس المعاصرون بأنها خلل في القدرة على التعاطف وتحمل المسؤولية تجاه الآخرين.

في هذا السياق، تتحول المشاعر الإنسانية الأصيلة – التعاطف، الرحمة، الاحترام – إلى أدوات ضعيفة أمام اندفاع الرغبة في السيطرة والتدمير. يصبح الإنسان قادرًا على الابتسام والحديث عن السلام في المحافل العامة، بينما يُمارس العنف النفسي أو المادي في حياته اليومية، تجاه صديقه أو قريبه، أحيانًا حتى تجاه نفسه. هذا الانفصام النفسي يولد ما يسميه الباحثون “الفوضى الأخلاقية”، حيث تنقلب القيم رأسًا على عقب، وتصبح الذاتية المفرطة والانغلاق على الذات قادرة على تبرير أي سلوك تدميري.

الفوضى، في هذا المعنى، ليست حالة عابرة، بل ظاهرة متجذرة في بنية النفس البشرية الحديثة، تعكس صراعًا داخليًا بين الحافز على الخير والقدرة على التدمير. إنها دعوة لإعادة النظر في أسس التربية الثقافية والاجتماعية، وفي طرق تعزيز التعاطف والوعي الأخلاقي، قبل أن تصبح ابتسامة الإنسان مجرد غطاء لبندقيته، وحياته اليومية مسرحًا لتدمير كل ما هو جميل وعفوي في محيطه

الفوضى والجنون: منظور نفسي

في دراسات معاصرة، أبرزها تجربة زيمباردو الشهيرة (سجن ستانفورد)، أظهرت كيف يمكن للظروف الاجتماعية والسلطة المطلقة أن تحرر الجانب العدواني للفرد، حتى ضد أخيه الإنسان. ما يبدو جنونًا فرديًا هو في كثير من الأحيان نتيجة للتأثيرات الاجتماعية، للتاريخ الثقافي، ولغياب القيم التي تربط الإنسان بالآخر.

هارولد كوشنر وغيره من علماء النفس الاجتماعي أشاروا إلى أن المجتمعات التي تتعرض لضغوط متزايدة من الفقر، العنف، وعدم المساواة تميل إلى إنتاج لغة قاسية، لغة تحكم وسيطرة، كلغة دفاع ضد القلق الجماعي. العنف يصبح حينها طريقة للتعامل مع العالم، وليس مجرد حادثة شخصية.

مارتن سيليغمان، رائد علم النفس الإيجابي، أوضح أن فقدان الإحساس بالمعنى والسيطرة على الحياة يؤدي إلى شعور بالعجز المكتسب، ومن ثم تبرير العنف والسيطرة على الآخرين كوسيلة لإعادة الشعور بالتمكين. هذه العملية النفسية توضح كيف يمكن أن يتحول الإنسان الحديث، المبتسم على السطح، إلى آلة تدمير على المستوى السلوكي والاجتماعي.

الطبيعة المدمرة للسياسة الحديثة والاعراف الاجتماعية

الأعراف الدبلوماسية غالبًا ما تصبح قناعًا على العدوانية. العنف لم يعد مجرد نزاع على الأرض أو السلطة، بل أصبح أداة لإعادة ترتيب العالم النفسي والاجتماعي للبشر. السياسة الحديثة، في هذا السياق، ليست مجرد لعبة مصالح، بل مرآة لما يحدث في النفس البشرية: السيطرة على الآخر، تدمير الجمال، طمس التلقائية والعفوية والبراءة اتجاه الحياة، إلى جانب التلاعب بالوعي الجماعي.

الخاتمة: الطريق نحو رؤية أخرى

رحلة الإنسان من “كيف نرى” إلى “كيف ندمر” ليست مجرد ملاحظة فلسفية أو سياسية، بل هي أزمة نفسية واجتماعية وجودية. إعادة النظر في علاقتنا بالآخر، والبيئة، والوقت، والذات، أصبح ضرورة. الفهم النفسي لهذه الظاهرة يضعنا أمام مسؤولية أخلاقية: مواجهة الفوضى والجنون داخلنا قبل مواجهتها خارجنا، واستعادة القدرة على التعاطف، الاحترام، والحفاظ على الجمال الطبيعي والاجتماعي من الانهيار.

في هذا العصر، لا يكفي أن نرى العالم بعين المعرفة فقط، بل يجب أن نراه بعين الوعي النفسي والأخلاقي معًا. وإلا فإن ابتسامة الإنسان لن تكون سوى ستار لعالم يسير نحو التدمير الشامل، في الداخل والخارج.

***

الكاتب: د. يونس الديدي متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية.

في المثقف اليوم