قضايا
محمد سيف: تحديد المفهوم.. فنّ فضّ الاشتباك

الحوارات القيّمة هي تلك المؤسَّسة على قواعد صحيّة تكفل كفاءة مخرجاتها المنشودة منها، وحُقّ لها - بالحدّ الذي هذه أبعاده - أن تنتصب واحدةً من أرقى مظاهر الإنسانية؛ فالمجتمعات التي توفر البيئة الملائمة لتزدهر فيها الحوارات القيّمة بحرية واطمئنان، وتنضح فرائد وفوائد، تَشِي بقدر كبير من المستوى العالي للأسلوب الحضاري بين أفرادها، وتعكس حالة نضوج لا يمكن نكرانُها أو إشاحة النظر عنها، وهي كذلك - أي الحوارات القيّمة - منبع رَقْراق لا ينضَب لتلاقح الأفكار بعضها ببعض؛ فكم مِن فكرة استثنائية غيّرت وجه العالَم استُلهِمت في خضمّ حوار قيّم، فالحوارات القيّمة تعكس طبيعة الوعي، كما أنّها ولّادةٌ لأفكار جامحة بديعة، تتناسل من سِنْخ العمق.
ولأنّ الحوارَ مثلُه مثل أي تفاعل إنساني آخر، فمن الطبيعي أن تشوبه مكدّرات تجفف مواطن سيرورته، وتُحوّله إلى مِبْضَع يوْدي للهلاك بعد أن كان يُنتظر منه أن يكون جزءا من عملية جراحية تُجرى للإنقاذ، ومن هذه الأسباب التي تَعُوْق الحوار وتكدّره ما هو بَيّنٌ جَلِيّ، تدركه الأغلبية، ومنها ما هو غامض خفيّ، عصيٌ إلا على العقول الفاحصة، ومن أمثلة هذه الأخيرة إهمال تحديد المفهوم في بداية الحوار.
وما أعنيه بتحديد المفهوم هو إدلاء كل طرف بمقصوده من المفهوم أو المفاهيم التي يدور عليها رحى الحوار قبل بدئه، فيكون أُسًّا تُشيَّد أركان الحوار عليه، وقبل ما يقرب من خمسة وعشرين قرنا انتبه لهذه اللفتة الخفية سُقراط - فيما خفيت على كثير من أناسيّ اليوم - إذْ تُنسب له مقولة: "بداية الحكمة هي تحديد المصطلحات" ومن شأن هذه البداية الحازمة أن تضبط اتجاهات الحوار، وتَئِدَ جُملةً واسعة من احتمالات المِراء والسجال الذي يوغر الصدور، فلا يُجَرّ الحوار إلى جانبٍ يبدي رأيه، وآخر يرد على رأي آخر تماما! مع الانتباه إلى أنّها شَكلا مغالطة منطقية يلوذ إليها البعض تعمّدا؛ قصد التشويه، ويُطلق عليها: مغالطة رجل القش (Straw Man Fallacy) وفحواها تشويه متعمّد لحجة الطرف المقابل، وذلك بتحويلها لمعنى آخر هزيل، ثم الرد على هذا المعنى الجديد وليس على المعنى الحقيقي الذي طرحه الطرف المقابل، فيأتي أحدهم مثلا يناشد بالدعم لقطاع المسرح في منطقة ما، فيرد عليه ثانٍ؛ بُغية التدليس على المستمعين أو القرّاء: أتطالب بأن ندعم أفكارا دخيلة؟، فالمحور الذي تدور حوله مناشدة الأول هو المسرح - كما هو واضح - في حين أقحم الثاني مفهوم الأفكار الدخيلة لتحلّ محلّ مفهوم المسرح؛ لتأليب الرأي العام ضده، وفي مثل هذه الحالات بدل الانجرار وراء الرد على تهمة الثاني، ينبغي العَود إلى مفهوم المسرح، والتأكيد على حدود المفهوم، وبذلك يدفع الأول عن نفسه ما يحاول الثاني إلْصاقَه به.
ومن المفارقات العجيبة الناجمة من تجاوز تحديد المفهوم وعدم إيلائه الاهتمام الجاد المستحقّ، والولوج رأسا إلى لُبّ الموضوع هو ما يبدو للناظر من اختلاف ظاهر بين المتحاورين مع أنهما متفقان أساسا في الجوهر! ومثال ذلك، فتاة تقول لصديقتها: (الحرية أهم حق إنساني بالحياة) فتردّ الأخرى عليها: (غير صحيح بالمرّة؛ فالحرية تقود للفوضى) ولتجنب الوقوع في فخّ الجدل الذي لا طائل من ورائه رغم الاتفاق، كان يتوجّب على الصديقتين قبل كل شيء أنْ يضبطا حدود المصطلح، ويحددا مقصودَ كلٍ منهما بالحرية، فلو فعلتا لَما انحرف الحوار لمسار عقيم يظهر الاتفاق افتراقا والتوافق اختلافا، فالأُولى كانت تعني بمفهوم الحريةِ الحريةَ الشخصية، بينما الثانية كانت تقصد بها الحرية المنفلتة من كل الحدود، وشتّان بين المفهومين ولو كان اللفظ واحدا، وهذه دقيقة لغوية قَلّ من يتنبّه لما تخلّفه وراءها من جحيم إن لم يُتدارك ككرة الثلج المتضخمة تماما، وإن شئت فقُل كالنظرية الفيزيائية تأثير الفراشة (Butterfly Effect) فخطوة صغيرة مغلوطة قد تُحْدِثُ إعصارا لا يذَر شيئا إلا أهلكه، على أن موضوع الارتدادات الواقعية لاتحاد اللفظ مع اختلاف المعنى يستحق إفراده في مقال لوحده.
وعند التفتيش عن جذور التناوش في مواقع التواصل الاجتماعي، والذي تتوغّل فيه - في أحايين كثيرة - مستويات متقدمة من العنف اللفظي، ويطفح فيها كَيْلُ سيول عارمة من صنوف الاندفاع اللاإنساني وإطلاق الأحكام جزافا، نجد أن إهمال تحديد المفهوم لدى بدء الحوار - محلّ النزاع - يتربّع قائمة الدوافع التي آلت بالحوار إلى هذا الوضع المزري؛ ومن هُنا ينبغي أن يتصدّر حواراتنا السؤال الآتي: قبل أن نشرع في النقاش ماذا تعني بـكذا؟! بحيث يطرحه كل طرف على نظيره فيما يتعلق بالمفهوم مدار الحوار، وتاليا بعد أن تصبح الأرضية صُلْبةَ المفهوم واضحةَ المعالم، فليتطارَحا أوجه النقد والتأييد فيما بينهما، وقد ضمن كلٌّ منهما ما يلوكُ لسانَه فيه.
في الشارع - معترك الحياة اليومي - أمثلة ضافية توضّح كيف أنّ غياب تحديد المفهوم ابتداءً يصيّر حواراتنا صراعات بَلْهاء تقطّع الأواصر، وتفتق رتق التفاهم، وتنكأ جراح الجاهلية، غير أنّ الذي يفاقم خطورة تجاهل تحديد المفهوم ويؤجّج سعيره هو أن تتمركز مواضيع الحوارات في مناطق التماسّ، تجيش لها الوجدان وتختلط بالهُوية، كالسياسة والدين والأعراف المجتمعية، فمن السهولة بمكان أن يُحشر المرء في زمرة الخونة والكفار والفاسدين بسبب حوار أقيم على إحدى هضاب النار تلك، بدون أن يشرح كل طرف تصوّره الخاص للمفهوم محلّ النقاش بمنتهى الوضوح، فيكون الامتناع من الانخراط في حوار كهذا أدعى لِلَمّ الشمل، وأسلمَ لاستقرار المجتمع؛ لأنه ببساطة يقود - بهذه الحال كما وسَمْت - لإشعال الفتيل بين اثنين بدآ بطريقة سيئة، فحوّل الحوار الذي كان يُفترض به أن يعكس مظهرا راقيا للإنسانية، إلى منجل تُجَزّ به الإنسانية من الوريد إلى الوريد.
إنّ إنسان اليوم - بتشعّباته اللامتناهية - بحاجة للحوارات الناضجة أكثر من أي وقت مضى، ولكن للحوار المنضبط وفق معايير تكفل المَتْح من مَعينه على الوجه المَرْضيّ، وإلا كان خنجرا مسموما في خاصرة التفاعل الإنساني، ولعل أُولى خطوات التغيير العريضة هي رفع مستوى وعي شعوبنا فيما يتصل بمتعلقات العقل، والتي يأتي الحوار فيها واحدا من أبرز امتداداته، وأن تسير الحداثة في التكنولوجيا والمظاهر العصرية في منطقتنا مع التحديث في آليات التعاطي مع الأفكار جنبا إلى جنب بما يتناسب وإنتاجات عالَم اليوم ومعطياته، تعاطيا ينتج كما يستهلك، ويقدّم كما يأخذ، ويسهم في البِنَاء، ويطرح حلولا بنّاءة لضَعْضَعَة التحديات التي يواجهها إنسان اليوم، وتحضرني مقولة شفهية دقيقة للمفكر العراقي الكبير ماجد الغرباوي في سياق أزمة الوعي العربي، إذْ يقول: "تيار الوعي لم يسجّل الحضور المناسب لعصره" ففي الوقت الذي ننتبه لضرورة الارتقاء بحواراتنا بحيث نمتلك القدرة على التحاور بين أعنف متضادين منّا بصورة ناضجة متّزنة مع الحفاظ على القيم الإنسانية النبيلة، نكون حينها قد أبدينا استعدادا محترَما لعالَم اليوم بعمقه وعقله لا بقشوره وحُمقه!
***
محمـــد سيـــف – باحث عُماني