قضايا

محمد محفوظ: المواطنة هي الحل

تتعدد انتماءات الإنسان وميولاته والتزاماته الأيدلوجية والفكرية والسياسية. حيث إننا من الصعوبة بمكان على المستوى الإنساني أن نجد كتلة بشرية متجانسة في كل شيء.. فإذا كانت هذه الكتلة البشرية متجانسة دينيا، فهي متعددة مذهبيا، وإذا كانت متجانسة مذهبيا، فهي متعددة عرقيا أو قوميا، وإذا كانت متجانسة عرقيا أو قوميا، فهي متعددة دينيا أو مذهبيا أو مناطقيا..

فعلى كل حال فإن التعدد والتنوع من لوازم الحياة الإنسانية. ولا يمكن أن نحصل على حياة اجتماعية واحدة متجانسة في كل شيء..

وعدم التجانس في بعض دوائر الانتماء والحياة، لا يعني أن تسود حالات الجفاء والتباعد بين الناس، وإنما على العكس من ذلك تماما. فإن تعدد دوائر انتمائهم ينبغي أن يقودهم إلى الحوار والتواصل وتنمية المشتركات. فالناس جميعا بصرف النظر عن منابتهم الأيدلوجية، يعتزون بخصوصياتهم الذاتية، ولكن هذا الاعتزاز ليس استغناء عن الآخرين أو الخصومة معهم أو الانغلاق والانكفاء في الدوائر الخاصة. فالحكمة الربانية اقتضت لاعتبارات عديدة، أن نكون متعددين ومتنوعين في دوائر وأنحاء مختلفة، ولكن هذا التنوع ليس من أجل الانغلاق والانطواء، أو الخصومة والعداء، وإنما من أجل التعارف الذي يقود إلى البناء والعمران. إذ يقول تبارك وتعالى [يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا]..

فالباري عز وجل جعلنا في دوائر متعددة (شعوبا وقبائل ليس من أجل أن نتخاصم ونتعادى ونقتل بعضنا البعض، وإنما من أجل (لتعارفوا) وأول التعارف الاعتراف بحق الوجود والتعبير عن الرأي، وتنمية المشتركات، وتنظيم عناصر وموضوعات الاختلاف والتباين..

فجمالنا الإنساني في تعددنا وتنوعنا، وأية محاولة قسرية لتوحيدنا أو لإلغاء تنوعنا، هي محاولة مناقضة لناموس الخالق عز وجل في هذه الحياة..

والاعتراف بتنوعنا، يحمل الجميع مسؤولية العمل على صيانة وحماية هذا التنوع. ولا حماية لهذا التنوع إلا بالاحترام المتبادل والتواصل المباشر وكسر كل الحواجز التي تحول دون التضامن والتعاون.. فنحن ينبغي لنا جميعا ومن هذا المنطلق يجب علينا أن نرفض الإساءة إلى بعضنا البعض سواء كانت هذه الإساءة مباشرة أو غير مباشرة. قد تتباين آراؤنا ومواقفنا، ولكن هذا التباين لا يشرع لأحد ممارسة الإساءة. بل على العكس من ذلك تماما حيث أن التباين في الرأي والموقف ينبغي أن يقود إلى الاحترام المتبادل..

كما أن وجود إساءة هنا أو هناك، ينبغي أن لا يدفعنا إلى إطلاق الأحكام والمواقف التعميمية. فالإساءة مرفوضة مهما كان شكلها، وقيام البعض بها، لا يشرع لأحد التعميم أو التشنيع على الكل.. فآفة العدالة التعميم ومن أراد الالتزام بمقتضيات العدالة، فعليه توخي الحذر وعدم الانجرار وراء المواقف والآراء التعميمية، التي تأخذ الجميع بجريرة البعض..

يقول تبارك وتعالى [ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]..

فحينما تتباين الآراء وتتعدد المواقف والقناعات والانتماءات، هذا ليس مدعاة لتجاوز حدود

العدالة في التقويم وصناعة الرأي والموقف..

فالانتماءات الفرعية المتعددة، لا تدار بحروب التشنيع المتبادل، ولا تدار بعقلية الاستئصال والتشويه المتبادل. وإنما تدار بالحوار والتواصل والاعذار المتبادل وتنمية المشتركات..

والفكر القانوني والدستوري والحضاري الحديث، أبدع رؤية قانونية متكاملة في ترتيب العلاقات الداخلية بين مكونات وتعبيرات المجتمع الواحد.. وهذه الرؤية تتكثف في مقولة [المواطنة]..

فالانتماءات المتعددة ينبغي ألاّ تقود إلى الانطواء والانكفاء، كما أنها ينبغي ألاّ تقود إلى الخيارات السياسية والثقافية التي تهدد الاستقرار والأوطان.. وإنما من الضروري أن تقود إلى بناء العلاقة على أسس مشتركة، تتجاوز حدود الهويات الفرعية. وعلى رأس الأسس المشتركة (المواطنة). فهي القاعدة القانونية والسياسية التي تضبط العلاقة بين جميع المواطنين، وهي التي تحدد المسؤوليات وتعين الحقوق والواجبات..

وفي زمن انفجار الهويات الفرعية، لاعتبارات عديدة، من الضروري العمل لإبراز مفهوم المواطنة. فهي (أي المواطنة) هي الحل، التي تنقل الجميع من دائرة الهويات الفرعية، إلى رحاب المواطنة المتساوية والمجتمع والوطن الواحد. وفي سياق تعزيز خيار المواطنة، نود التأكيد على النقاط التالية:

1- إن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة الوطنية وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة..

فليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..

فالمشاكل الطائفية والمذهبية في أي بيئة اجتماعية، ينبغي ألاّ تقود العلماء والكتاب والمثقفين فليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..

وإنما ينبغي أن ينطلق جميع هؤلاء ومن موقع المسؤولية الدينية والثقافية والوطنية، إلى البحث عن حلول ومعالجات لهذه المشكلة، والعمل على تطويق هذه المشاكل التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..

فالتوترات المذهبية اليوم، لا تعالج بالتعبئة الطائفية، ولا بشحن النفوس ضد الآخر المختلف والمغاير المذهبي. وإنما بتعزيز خيار المواطنة، وتشجيع الجميع عبر رؤية متكاملة ومشروع وطني شامل، لجعل المواطنة هي حجر الزاوية في مشروع العلاقات البينية بين جميع المواطنين والمكونات والتعبيرات..

والمواطنة كمشروع حل ومعالجة للتوترات الطائفية والمذهبية في المجال العربي والإسلامي، ليست حلا سحريا وناجزا، وإنما هي البوابة السياسية والحقوقية والثقافية، لا نجاز الوحدة الداخلية في المجتمعات المتعددة دينيا أم مذهبيا أم قوميا وعرقيا.

وحدها المواطنة هي التي تخلق الوحدة بين المكونات المتعددة في الدائرة الوطنية الواحدة.

2- إن ثقافة الاستئصال والفصل بين مكونات الوطن الواحد، على أسس طائفية ومذهبية، لا يبني استقرارا، ولا يحرر المجتمعات من عقدها وتوتراتها التاريخية والمعاصرة، وإنما يزيد من أوار التوتر ويفاقم من مشكلات المجتمع والوطن.

وأحداث التاريخ تعلمنا أن المجتمع الذي يحتضن تعدديات وتنوعات، لم يبن استقراره بمنهج الاستئصال وبناء الكانتونات المنعزلة، وإنما تم بناء الاستقرار، بثقافة الاستيعاب والمرونة السياسية وتنمية الجوامع المشتركة، وبناء العلاقة على أساس المواطنة الواحدة.

والمنطقة اليوم حيث تكثر فيها العناوين المذهبية، وتتزايد التوترات السنية الشيعية في أكثر من موقع عربي وإسلامي، أحوج ما تكون إلى ثقافة الوصل والاستيعاب، وتفكيك نزعات الغلو والتطرف ومحاولات المفاصلة الشعورية والعملية بين أبناء الوطن الواحد على أسس طائفية ومذهبية.

فالمسألة الطائفية في المنطقة العربية والإسلامية، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتويتر الأجواء وخلق الخطابات المتشنجة التي تزيد المشكلة اشتعالا. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة العامة التي تفكك المشكلة، من موقع التعالي عن الاصطفافات الضيقة. فالنخب العلمية والثقافية في المجال العربي، ينبغي أن تكون جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.

وإننا مهما كان الوضع على هذا الصعيد صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والتسامح والاحترام المتبادل.

ووجود قناعات أو ممارسات سيئة وسلبية من أي طرف، ينبغي أن لا يكون مبررا للتمترس الطائفي، وإنما هو المبرر الحقيقي لضرورة الخروج من هذا السياق الضيق، والعمل على معالجة كل الظواهر السلبية من خلال الحوار والتواصل والنقد البناء..

3- إن التعصب المذهبي بكل مستوياته، هو أحد العوامل المضادة لمفهوم المواطنة.. بمعنى أن التعصب يحول دون أن تكون المواطنة، هي قاعدة العلاقة، وتكون بدل ذلك العلاقة المذهبية..

لذلك فإن تعزيز خيار المواطنة، يتطلب بناء كتلة اجتماعية - معتدلة ووسطية، عابرة للمذاهب ومتجاوزة لكل عناوين الهويات الفرعية بدون هذه الكتلة الاجتماعية، ستبقى العصبية تنخر في جسم المجتمع. وسيهدد التعصب المذهبي الاستقرار الاجتماعي والسياسي للوطن..

فلا يكفي اليوم أن نلعن الطائفية، أو نحذر من التمترس المذهبي، وإنما المطلوب هو العمل على خلق حقائق وطنية واجتماعية مضادة للنزعات الطائفية. ويبقى العمل على خلق الكتلة الاجتماعية المتجاوزة لكل العناوين الخاصة، لصالح العنوان الوطني العام والجامع، هو الجواب عن كل محاولات التخندق الطائفي والمذهبي..

ومهمة هذه الكتلة، هي حمل مشعل الوحدة والمواطنة، وصياغة العلاقة بين مختلف المكونات على أسس المواطنة المتساوية.

بهذه الكيفية تتحول المواطنة كقيمة ومتطلبات ومسؤوليات، إلى حل لكل نزعات التوتر الطائفي بكل مستوياته.

***

محمد محفوظ - باحث سعودي

 

في المثقف اليوم